ثوابت الدين ومتغيرات السياسة: من إضاعات التلفيق إلى إضاءات التوفيق
محمد بلغزال (*)
في سياق دولي عنوانه « دراما الأپوكاليپس» وسيادة اللايقين نتيجة تهاوي «سرديات الخلاص الكبرى» المسعِفةِ في إقناع الشعوب بالاستمرار في أفعال الأمل، تبدو مراودة الجماهير عن نفسها في المجامع الحزبية بخطاب تلفيقي في شأن علاقة ثوابت الدين بمتغيرات السياسة اقترافا لخطيئة شعبوية كشَّافةٍ عن استمرار أزمة «الرؤية القاصرة».
على المستوى الميكرو، يُدمن زعيم العدالة والتنمية، الأستاذ عبد الإله بنكيران على اللعب بمسدس الروليت الروسي. وقد دفعَتْه مطاردة الأدرنالين إلى حَشْوه مؤخرا برصاصة العلمانية، وهو التجاوز المعيب الذي رصده «رادار» رجلِ الدولة وخديمُها في باب تدبير الدين، الأستاذ أحمد التوفيق، ليَعْمَد إلى استلال الروليت من بين يدي «رئيسه الأسبق» بلطف العالم المربي وبحزم المسؤول اليقظ، مذكرا إياه ونحن معه أن الشأن جَلَل وليس لعبةَ أطفال.
تجد رسالة أحمد التوفيق أسباب نزولها في مشهدين: فأما المشهد الأول فتقريره الشفوي في مؤسسة البرلمان مخبرا بمحاورَته لوزير الداخلية الفرنسي، المتدين والنبيه في قضية العلمانية.
واضح من سياق الخبر أن استعمال المصطلح حدد له الأستاذ الجامعي والوزير هدفا بيداغوجيا: تيسير ولوج النسق الثقافي اللائكي إلى تأويل منظومة إمارة المؤمنين لدلالات (لا إكراه في الدين). واضح كذلك، أن المحاوَرة لم تكن مشاحَّة في مصطلح العلمانية كما يرى الأصوليون، لأن القضية حول المفهوم لا حول المصطلح، وذلك في أفق مغربي يروم تعويض التقاطب بمزيد من التقارب.
لم يَرِد في منطوق الوزير المغربي أي وصف للدولة بالعلمانية، وهذا أول تلفيق مجانب للصواب.
وأما المشهد الثاني، فهو انتصاب بنكيران في مَجْمع حزبي «مدافعا» عن الدين. هو الآخر أتى على ذكر العلمانية، لكن لم يحرص على تحديث الناس، عامة الناس، بما يعرفون. لا يحالف التوفيق أيَّ «زعيم» في كل استدعاء انتقائي للمقدس والمعتقد من أجل استعمال وظيفي في السياسة كمجال لتحقيق المنافع العامة.
غاب إذن عن «الزعيم» أن يتمثل الحديث الشريف: «ما أنت بمُحَدِّثٍ قوما حديثا لا تبلُغُه عقولُهم، إلا كان لبعضهم فتنة» (رواه مسلم)، والفتنة كما في التنزيل الحكيم: (أشد من القتل).
هذا إذن ثاني تلفيق.
المشترَك اليتيم بين المشهدين هو الوسيط الشفهي، الذي نقلتْه نباهة التوفيق إلى «المثاقفة الكتابية»؛ إذ الأخيرة أبقى ولها عاقبة الذكرى كما يراها أبو حيان التوحيدي. أما الوسيط الشفوي فتعترضه مخاطر «أثر كومة الثلج» التي إذا وجدَتْ من يُدحرِجُها كما فعل «الزعيم» بنكيران فإنها تنتهي بالذي ليس في الحسبان.
صاغ التوفيق رسالته كسبيكة من ثلاثة معادن: الپاثوس؛ حيث تسري الشكوى إلى الخالق بفيض وجداني؛ فالإيثوس، حيث قدم نفسه كـ»خديم قديم في باب تدبير الدين»؛ ثم اللوغوس، حيث برهن على تهافت زعم بنكيران بمناقشات دقيقة حول مركزية إمارة المؤمنين على ضوء تجارب دولية مقارنة.
إضاعات التلفيق:
إثارة «الرئيس» بنكيران للعلمانية ليست واقعة معزولة، بل انعكاس لتركيبة خطاب الإسلام السياسي المتعايش مع تناقضاته البنيوية التي تضعف قدرته على التبني الشجاع «لسياسات حسن الجوار» بين ثوابت الدين (كقطعيات) ومتغيرات السياسة (كمصالح مرسلة). يعود ذلك إلى ثلاثة مآزق على الأقل:
المأزق الإبستيمولوجي: ويتجلى في «انتقائية فهم» العلمانية عند بنكيران. والحال، أن العلمانية علمانيات تتباين من «العلمانية النافية» للنماذج في نسختها الفرنسية إلى «العلمانية الحاضنة» في نسختها الألمانية. وَهْمُ «الصفاء النظري» كذلك ورطة أخرى؛ فافتحاص شجرة أنساب أفكار الإسلام السياسي تخبرنا عن جدلية كبيرة من التأثير والتأثر الفلسفي والحضاري التي لا تدرك العين المجردة تركيبها الهجين، وبالتالي فإنها تفلت من ممارسة الاعتراض الإسلاموي عليها.
المأزق التنظيمي/المؤسسي: بالإضافة إلى محاولة الحيازة الحزبية لنفوذ حصري دستوريا لإمارة المؤمنين، يتجلى هذا المأزق في إباحة اقتباس الإسلام السياسي للحزب من أنظمة علمانية وتَبَنِّيهِ من حيث البنيةُ والممارسةُ التي يفاخر بنكيران بكون حزبه على رأس الأولين من حيث الديمقراطية الداخلية. يظهر أيضا في قبول أن تفتح له هذه البنية إمكانية المشاركة في الانتخابات، ولم لا؟ أن تحمله إلى السلطة والإسهام في صياغة القوانين وبناء تحالفات سياسية مع أطروحات تتقاطب معه، رغم أن أصحابها ليسوا بالضرورة «يشتركون معه في نفس الفهم للدين». يبدو أن «الزعيم» بنكيران ومن معه يصرفون فكرهم عن أن الديمقراطية ورود أشواكها هي العلمانية. لا ورود بلا شوك يا « زعيم».
المأزق الاجتماعي: يتجلى في توظيف الخطاب الديني حزبيا من أجل الاستقطاب السياسي. نهج من هذا القبيل يؤثر بالضرورة على التماسك الاجتماعي الذي نجح المغرب في صهر كل مكوناته الثقافية والإثنية والدينية في بوتقة جامعة أساسها إسلامية الدولة وإمارة المؤمنين، كل المؤمنين، مسلمين ويهودا ونصارى، وذلك بوصف إمارة المؤمنين ضامنا لحرية ممارسة الشؤون الدينية حسب المنطوق الدستوري. يقوم ذلك مانعا من تقاطبية متوترة: ملسمين/غير مسلمين، متدينين/ غير متدينين.
فليبق الدين إذن شرطا لتعزيز الوحدة الوطنية في الزمن الاستراتيجي لدولة إمارة المؤمنين بمنافع مجتمعية مستدامة بدل أن يُختزَل في الزمن السياسي للحزب بمكاسب فئوية آنية.
إضاءات التوفيق:
تنتظم إضاءات الأستاذ أحمد توفيق إلى مخاطَبه وعبره إلى من سمع «تشهيره» في ثلاثة أبعاد مهيكِلة: إمارة المؤمنين، الأخلاق بدل النفاق، وممكنات النموذج المغربي.
إمارة المؤمنين الجامعة الموحدة: إذ هي تجسيد لعبقرية مغربية في الاعتدال قوامها الأشعرية معتقدا والمالكية مذهبا والتصوف السني مسلكا. لايحول ذلك دون مزاوجتها الخلاقة بين النظر الفقهي والنظري العقلاني عبر بوابة الاجتهاد. كما يسمح في الآن نفسه بحماية الدين وتيسير التدين لأتباع الشرائع السماوية في الحدود الحقة للمملكة. لولا ذلك (لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)، سورة الحج. الأخلاق بدل النفاق: يذكر التوفيق مخاطَبه أن «الدين هو الأخلاق بكل تجلياتها ومستوياتها»، وأنها بديل جيد للتستر والنفاق، حيث تصير محاصرة الجماهير بالضعف البشري الآدمي «عنفا رمزيا» على مكون أساس من آدميتهم. كيف يستقيم الاستثمار في ضعف الناس مع صدق النية في دعوى السعي إلى تقويتهم والتمكين لهم؟ والحق أن إصرار التوفيق على ضرورة التخلص من التستر والنفاق بليغ في هذا المقام، إذا استحضرنا أنه مُطَلِعٌ أكثر منا على «عالم الغيب السياسي» وعلى صنائعه في تسييس المقدس.
ممكنات النموذج المغربي: يفتح التوفيق أفق مخاطَبه على الممكن المغربي في تقديم جواب للأمة في التعالقات بين الدين والسياسة، عبر «تسديد التبليغ» في مدى كوني انطلاقا من شروط الزمكان المغربي، ماضيه وحاضره. شرط نجاح مثل هذا المَطْمَح الكوني هو التخلص من القيد الأناني ومعانقة المشترك الإنساني. لا تُعْوِزنا شواهد سابقة على نجاعة النموذج المغربي، فالأقطار الإفريقية ترتضيه كممارسة فضلى في التدين.
إن المأمول من رسالة التوفيق هو إكساب شجاعة طرح السؤال الجوهري حول مستقبل العلاقة بين الدين والسياسة في المغرب، بعيدا عن الارتكان إلى خطاب الممانعة النفسية كموقف فردي من زعيم تنظيم ومجايليه على أبعد تقدير، في الوقت الذي يمكن أن تكون أصوات من التنظيم نفسه أكثر جرأة على مغادرة دفء مناطق الراحة الإيديولوجية. ستسمح ممكنات الجواب من الدولة كما الإسلام السياسي بتمنيع الجميع ضد الاختزال الحزبي للدين وبحفظ السياسة من الاستلاب الأخلاقي، إذ لا يمكن للجامع الأخلاقي والإنساني أن يجري تسجيله كعلامة حزبية هدفها الاستقطاب.
يبدو أن صوت الرسالة كان له صدى عند الرئيس بنكيران، عبر تدبيج رسالة على استحياء معتذرا ومتشبثا ببيانه الجماهيري. ويكاد يكون من المفهوم أنه يعتبر أي إقدام منه على المراجعات للتخلي عن ركوب صهوة المقدس في المعترك الحزبي، يُخرجه من نطاق الذين صدقوا.. وما بدلوا تبديلا. أكد ذلك لاحقا أمام أنصاره عقب نشر رسالة الاعتذار.
إلى ذلك، يظل صدى الكلمات الأخيرة في رسالة التوفيق يتردد في المسامع، عبر دعوته إلى فتح البصائر وإلجام الأنانية؛ أنانية لا يتمثل سطوتَها إلا من قرأ رواية التوفيق ورحلة زوج وزوجة من أجل التشوف: «واحة تينونا أو سر الطائر على الكتف».
(*) أستاذ مبرز للتربية والتكوين
الكاتب : محمد بلغزال (*) - بتاريخ : 10/12/2024