حساب الودائع لدى التوثيق العدلي، مدخل للإصلاح الضريبي ومحاربة التعامل بالكاش

بقلم الدكتور عبداللطيف جييد (*)
يوثق السيدات والسادة العدول، يوميا عددا كبيرا من عقود بيع العقار، بين شقق وفيلات ودورها مستقلة وأراضي عارية وأراضي فلاحية، وبين ماهو محفظ او غير محفظ. وبالرغم من حرصهم الشديد على الانضباط للمادة 95 من الظهير الشريف رقم 1.00.175 الصادر في 28 من محرم 1421 ( 3 ماي 2000 ) بتنفيذ القانون رقم 15.97 بمثابة مدونة تحصيل الديون العمومية؛ من خلال مطالبتهم لزبائنهم بالإدلاء لهم بشهادة مسلمة من مصالح التحصيل تثبت أداء حصص الضرائب والرسوم المثقل بها العقار برسم السنة التي يتم فيها انتقال ملكيته أو تفويته. إلا أن هذا الإجراء، يبقى محدود النتيجة المرجوة؛ ذلك ان العدول وإن كانوا يتوصلون بإشعارات من طرف المحاسبين العموميين، بشأن أداء ديون خزينة المملكة، التي قد يكون أحد أطراف العقد مدينا بها، إلا أن عدم تمكين منتسبي هذه المهنة من حساب مهني خاص بإيداع أموال الزبائن، يجعل هذه الفئة التي تشتغل في حقل توثيق العقود والاتفاقات وإضفاء الرسمية عليها، غير قادرة على الانخراط في إنجاح هذا الإجراء. ويعود السبب في ذلك، إلى تقاعس المشرع المالي، عن القيام بدوره، رغم مطالب الهيئة الوطنية للعدول، واستعدادها التام الذي ظلت تعبر عنه لأزيد من عقد من الزمن، ورغم توصيات الميثاق الوطني للإصلاح منظومة العدالة. يضاف إلى هذا الاختلال، انتشار الأداء نقدا، في أغلب المعاملات المالية التي تتم أمام العدول، مع ما يشكله ذلك من خطورة، سواء على الاقتصاد الوطني، أو صعوبة تحقيق الأمن التعاقدي، الذي لا يجب أن يتلاعب به أحد.
ليس من المصلحة أن تبقى مبالغ هائلة من الحقوق المالية للدولة، دون استخلاص، كما ليس من المصلحة العامة، أن نسمح برواج الأموال دون تتبع ودون إدماجها في الدورة الاقتصادية للمملكة، لسبب بسيط، وهو عدم تحصين الاقتصاد الوطني بشكل فعال ومتوازن، خاصة عند الاستهانة بتغييب التوثيق العدلي عن مسطرة حساب الودائع، والتماطل في تنفيذ التوصية 52 التي جاء بها الميثاق الوطني للإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة، التي نصت بالحرف على “مراجعة المقتضيات القانونية المتعلقة بودائع المتعاملين مع المهن القضائية والقانونية، في اتجاه حمايتها وتحصينها”
يطرح العدول، مؤسسة ومهنيين، سؤالين بارزين:
ـ الأول، حول مدى مساهمة التوثيق العدلي، من خلال مسطرة الإشعار للغير الحائز، في تحصيل الديون العمومية وتكريس التوازن بين حقوق الخزينة وضمانات الملزمين.؟
ـ والسؤال الثاني: عن إرادة المشرع عموما، والمشرع المالي خاصة، للمعالجة الشاملة لإشكالية السيولة النقدية (الكاش)، التي يعرفها سوق التعاقد أمام العدول؟
في وقت سابق، وخلال تنصيب أعضاء الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، خاطب عاهل البلاد، هذه الهيئة بالقول: “… وإننا ننتظر منكم، لما هو معهود فيكم، من روح المسؤولية الوطنية العالية انتهاج الاجتهاد الخلاق والإصغاء والانفتاح للتفعيل الأكمل لمشروع إصلاح العدالة”
وفي برنامجها للولاية الحالية 2021 ـ 2026 التزمت الحكومة، بتفعيل مضامين النموذج التنموي الجديد، واستكمال ورش إصلاح العدالة، ووضع قواعد واضحة من أجل تكافؤ الفرص وتنافس جيد.
دون أن نغفل عن التوصيات المنبثقة عن المناظرة الوطنية الثالثة للجبايات سنة 2019.
للأسف، يقف الدارس، ومعه المهتم بشؤون التنمية الاقتصادية، بمن فيهم المستثمرين في المجال العقاري، وكذا المحاسبين العموميين، على بعض الاختلالات، التي تجسدها تلك الثغرة الجلية، التي تركتها المادة 100 من مدونة تحصيل الديون العمومية، في ظل غياب حساب لودائع المتعاملين مع العدول، حيث ترك الباب مفتوحا للتهرب الضريبي، وخاصة لفائدة أولئك الملزمين بديون عمومية بمبالغ كبيرة.
فإذا كانت المادة 95 من مدونة تحصيل الديون العمومية، قد نصت على أنه في حالة انتقال ملكية عقار أو تفويته، يتعين على العدول أو الموثقين أو كل شخص يمارس مهام توثيقية، أن يطالبوا بالإدلاء لهم بشهادة مسلمة من مصالح التحصيل تثبت أداء حصص الضرائب والرسوم المثقل بها العقار برسم السنة التي تم فيها انتقال ملكيته أو تفويته، وكذا السنوات السابقة، وذلك تحت طائلة إلزامهم بأدائها على وجه التضامن مع الملزم. فإن المادة 100 حول التزامات المودع لديهم والأغيار الحائزين من نفس المدونة، قد استثنت العدول من تسليم أموال التفويتات، حتى وإن طالبتهم المصالح الجبائية بذلك، لغياب السند القانوني الذي يلزمهم بذلك.
عندما استحدث المشرع الإشعار للغير الحائز؛ فقد أراد خلق آلية قانونية، تمكن الدائن (الدولة) بدين عمومي، من استخلاص دينه من يد الغير بطريقة غير مباشرة، بدل استخلاصه مباشرة من الدائن ـ تنظمه الفصول من 100 إلى 104 من مدونة تحصيل الديون العمومية ـ وقد ظن المشرع المغربي، أنه أحسن فعلا، بإلزامه الغير المودعة لديه أموال المدين الأصلي، بأداء الضرائب وباقي الديون العمومية، إما تلقائيا أو بناء على طلب المحاسب، تحت طائلة ترتيب مسؤوليته بالأداء على وجه التضامن. لكن وبالرغم من الإشعارات التي يتوصل بها العدول، عبر ربوع المملكة، في إطار هذه المسطرة، إلا أن تلك الإشعارات تبقى دون أثر، حيث يرد
العدول بمراسلات تحترم الضوابط القانونية والمسطرية، مشيرين أنهم لا يمكنهم الاستجابة لطلب المحاسب، حيث يتعذر عليهم تسليم أي مبلغ مالي، لكونهم لا يحوزون ثمن التفويتات، ولم يتم تمكينهم لحد اليوم، من حساب الودائع، الذي بواسطته تستطيع السلطات المالية، استرداد ديونها. وبذلك يعتبر الزبائن الذين يوثقون تصرفاتهم العقارية والمالية بعقود رسمية لدى العدول، من خلال المادة 100، غير مخاطبين بهذا الالتزام، ولا يتم اقتطاع ديونهم الضريبية ولو طالبتهم المصالح ذات الصلة بذلك. حيث فتح أمامهم طريقا سهلا للامتناع عن الأداء، وبالتالي للتهرب من الوفاء بالتزاماتهم الضريبية. لغياب السند القانوني والآلية الواقعية، التي قد يعتمد عليها المحاسب، أثناء سلوكه، مع العدول، مسطرة الإشعار للغير الحائز.
أما الاختلال الثاني، الذي يسببه عدم مسك العدول لحساب الودائع، فيظهر جليا فيما أصبح يعانيه الاقتصاد الوطني، من ارتفاع معدلات تداول النقد (الكاش). ذلك أن الواقع المشهود والذي يعرف رواجا متزايدا عند توثيق المعاملات العقارية والمالية لدى السيدات والسادة العدول، هو أداء ثمن اقتناء العقارات عن طريق الكاش، أو اكتفاء المتعاقدين بالتصريح بقبض الثمن دون إمكانية مروره في الحساب المهني للعدل الموثق أو تحت أعينه، وتسري طريقة الأداء هذه، أيضا عند استخلاص واجبات تسجيل العقود وتقييدها لدى المحافظة العقارية وكذا عند استخلاص أتعاب العدل، حيث يتم كل ذلك عن طريق الأداء نقدا.
لحد الساعة، لا تبدو أي بوادر للإصلاح، رغم الأرقام المخيفة التي حملها تقرير لبنك المغرب، الذي أكد أن الكاش يمثل نحو 30% من الناتج الداخلي الخام. وبنهاية مارس 2025، ناهزت قيمة ”الكاش“ 437 مليار درهم (47 مليار دولار)، أي بزيادة 9% على أساس سنوي، وقفزة بنحو 65% مقارنة بالمستوى الذي كانت عليه قبل خمس سنوات. وفي تصريح لوالي بنك المغرب، قال: ”هذا الوضع لا يجب أن يستمر“، كما نبه إلى أن هذا المعدل، يعد من المستويات الأعلى في العالم، مع ما يصاحب ذلك من مخاطر مرتبطة بجرائم غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. لذلك أعلن بنك المغرب، إحداث لجنة تضم البنوك وعدد من الخبراء لوضع حلول لهذه المعضلة. كما صرح عن الانتهاء من مسودة مشروع قانون لتقنين العملات المشفرة والعملة الرقمية للدرهم، ويوجد حاليا قيد الدراسة من طرف وزارة المالية وعدد من القطاعات الحكومية. وخلال ندوة عقدها السيد عبداللطيف الجواهري والي بنك المغرب، قي يونيو من سنة 2025، أكد أن البنك المركزي أنهى تصورا شاملا لمعالجة إشكالية السيولة النقدية (الكاش)، مؤكدا أن الصيغة النهائية للتصور هي في طور الانتهاء.
إن المؤسسات المسؤولة عن المالية العمومية، أمامها اليوم، واجب تعزيز جهودها لتحقيق نجاعة عملياتها لإنعاش المالية العمومية، ومعها انتعاش الاقتصاد المالي. وذلك باتخاذ تدابير مستعجلة، بإقرار آلية حساب الودائع لدى العدول، ليس كغاية؛ بل من أجل الادماج الفعلي للتوثيق العدلي في الدورة الاقتصادية. ودعم النجاعة، وحماية حقوق الأطراف وحقوق الدولة. والمساهمة في إرساء استقرار المعاملات ـ الأمن القانوني/ الأمن التعاقدي ـ فالعدول على استعداد لكل هذا، بل يطالبون به ولا يقاومون فرضه، لذلك نجدهم في مطالبهم، ينادون بتحديث آليات الاشتغال لديهم، حتى يمكنهم التجاوب مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية. ويسعون لتعزيز المعاملات الرقمية، سواء أثناء الدفع أو التحويل، وتوسيع رقعة التعاملات غير النقدية. وينتظرون من السلطتين التشريعية والتنفيذية، ضمان حرية التعاقد، وإقرار مبدأ المنافسة الحقة، بل إن لهم تصورا جديا، لمأسسة حساب الودائع، وإعادة النظر في آليات تنظيمه، من أجل تعزيز المصداقية، وتحصينه من الاختلاسات.
رئيس المجلس الجهوي لعدول استئنافية الدارالبيضاء
ورئيس لجنة الشؤون العلمية والقانونية للهيئة الوطنية للعدول
الكاتب : بقلم الدكتور عبداللطيف جييد (*) - بتاريخ : 18/09/2025