حين تؤرِّخ الصحافةُ لنفسها وتضع الصحفي في الميزان

أحمد المديني

 

أطلق عليها لقب «صاحبة الجلالة» للرِّفعة والمكانة والقدرة على التأطير وصنع الرأي العام وتحسُّس نبض الواقع فضلا عن المهمة الإعلامية للبحث عن الخبر في مصادره الأصلية ونقله وإحاطة العموم به بما يقتضي من دقة ونزاهة ومسؤولية ويفيد في الإخبار والتنوير. هي لسان أحزابٍ وهيئاتٍ وكتابٍ، وهي القلم النّحرير للصحفيين الذين اتخذوا من هذا الحقل مهنة وقبل ذلك مضمارا لممارسة وعيهم وتبليغ رسالة هادفة، فهكذا هي الصحافة في أصلها حين وحيثما وجدت: خبر وقضية، لطبقة وفئة اجتماعية وسياسية ومصلحة اقتصادية، وهذا من المسلمات، وإن كانت الحاجة للتذكير به مطلوبة نظرا للتنوع والتعدد الذي مسّ هذا الميدان والثورة التكنولوجية التي أطلقت كثيرا من العفاريت بألسنة فصيحة وصاخبة وهجينة، وكله بخطاب الإعلام وزعم خدمة الجمهور وتلبية حاجات مفترضة، في عالم نصف افتراضي.
الصحافة خبر ورسالة وقضية ومغامرة غير محمودة العواقب لمن يخوضها في الحروب ويتنقل بين القارات، ويتسلل وراء الكواليس لينقل الخبر والصورة مباشرة ويأتيك ما أمكن بالمعلومة اليقين. والصحافة العربية ومنها المغربية ولدت في خضم إعادة تأسيس للمجتمعات العربية بغية انتزاع امتياز المعلومة والقرار والمعرفة من سلطة عليا وإنزالها من عليائها إلى شارع بدأ يظهر مع مدينة حديثة بعلائقها المختلفة وظهور فئات تتصارع في ما بينها وراء دفة السلطة أو لامتلاكها، ما لم يكن هينا يوما أبدا وتطلّب تضحياتٍ ما دام الأمر يتعلق بصراع وتضارب مصالح، وفي بلدان عاشت تحت نير الاستعمار، ثم انتقالات الاستقلال ظهرت فيها الحرية متعثرة ونسبية ومعرّضة للتكميم إن لم نقل الخنق، بدت المهمة أشدّ ما يكون عسرا.
للصحافة المغربية تاريخٌ حافلٌ من ناحية تعرّضها للمنع والتضييق ومكابدة أسرتها لعديد ألوان وطرق الخنق خلال المرحلة الاستعمارية حين كان الرقيب يمارس سلطات مطلقة يمكن لأبناء الحاضر أن يعودوا إليها حين كان يسمح بصدور صفحاتها الأولى نصف بيضاء، أما ما منع فبلا عدّ. لقد كانت صحافة وطنية، أي موجودةً ومسيّرةً وموجهةً من أجل الدفاع عن القضية المغربية، وآقلامها وطنيون، أي مناضلون متفانون لهذا المصير، وما ملكوا أبدا أحقية الراتب ولا امتياز وضع الصحفي فهم جنود في معركة، هكذا كانت جريدة» العلم» مثلا يومئذ. ولم يتغير المرمى ولا الاتجاه كثيرا بعد إعلان استقلال البلاد، بل تعمّق وحدد له أهدافا أقوى بين يمين ويسار، قوة حاكمة ومحافظة وأخرى معارضة رأس جدول أعمالها التحرير على المستويات كافة، وأنا هنا أخفف من صواعق مصطلحات سِجّلِ المرحلة وقاذفاته في جبهات فتحت بلا هوادة. لا عجب أن جريدة» التحرير» لسان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تصدرت هذا الموقع والمواقف، وكان صحفيوها مناضلين أفذاذا ـ في قلبهم الراحل عبد الرحمن اليوسفي ـ وقائمة من الأسماء صمدت في الطريق وواصلت الرسالة، وأخرى اختارت طريقا ليس لنا. المهم هم من واصلوا، وآمنوا برسالة الصحافة ودورها في التوعية وكانوا جنودا في معركة التغيير والتجديد وإنشاء مجتمع جديد على أسس الحرية والديموقراطية والعدالة، وكثير منهم ظلوا يتنقلون من مكتب التحرير إلى الزنزانة ذهابا وإيابا ببطولة وصبر عظيمين، رحمكما لله أيها العزيزان مصطفى القرشاوي وعبد لله بوهلال، نحن الذين نكتب هذه الكلمات في « الاتحاد الاشتراكي» مدينون لكم مع القراء يواصل هذا المنبر العتيد ما فني رعيلكم من أجله وسيبقى.

ما قصدي استرجاع الماضي التليد والأصيل للصحافة العربية والمغربية، يكاد يصبح شمسا غاربة، وإنما هو حديث ذو شجون انجذبت إليه ووجدتني أسبح في موجه باعتباره يتحول الآن إلى ضرب من اليوتوبيا، وهي ضرب من النوستالجيا، لا شك غزت نفس صديقنا وصديق المغرب الإعلامي الموريتاني البارز عبد الله ولد محمدي، أصدر أخيرا كتابا شيّقاً، طريفاً في نوعه، وفريداً في تناوله، سلساً في أسلوبه، مفيداً بوقائعه، مشوقاً بطريقة سرده، محكيِّه، غزارةِ معلوماته، وخصوصا بالشخصيات، بالأعلام، بالصحفيين الذين انتقاهم من سجل كبير احتك به طيلة مسيرة صحفية عنده بدأت منذ منتصف السبعينيات وتتواصل مروراً بكبريات الصحف والمجلات والقنوات التلفزية ووكالات الأنباء، وهو الذي جال بين العواصم العربية والدولية وغامر في مراكز الاقتتال وقابل رؤساء الدول له مع بعضهم صداقات شخصية. وفي الخلاصة امتلك إلى جانب الخبرة والاحترام لصاحبة الجلالة الصحافة رصيدا ثمينا من التجارب تصلح ثمارُها دروسا ونبراسا لصحفيي اليوم وسياسييهم أيضا ومن يسير على هذا الطريق بثقة وجد.
إنهم» شهود زمن» عنوان كتاب ولد محمدي(المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، 2022) صحفيون من زمرة صداقاته وعلاقاته أو تقاطع معهم في الدروب المتشابكة لمهنة الأهوال والمفاجآت، بين أجانب وعرب، وأغلبهم كرّس حياته للسلطة الرابعة ليجعلها الأولى، يتقدمهم بجدارة الإنجليزي روبرت فيسك، عنده أنه « رجل لا يتكرر» بحكم مهنيته العالية وعمله في منابر دولية، التايمز، الغارديان والأندبندنت، صحفياً مراسلا من عواصم العالم وحيث جبهات المعارك ( اجتياح العراق للكويت، الحرب في يوغسلافيا، رصد نظام القاعدة، لقاء بن لادن) حاملا تحت إبطه ديوان حكام ووقائع النصف الثاني من القرن العشرين إلى رحيله عام 2022. عثمان العمير، من جعل صحيفة الشرق الأوسط في فترة ذهبية مركز الصحافة العربية وغيّر الصورة النمطية عن المثقف السعودي، وغامر تأسيس أول مشروع إعلامي إلكتروني عربي(إيلاف). الفرنسي دومنيك دردا من ذرَع إفريقيا طولا وعرضا وصوّر الحروب في ثلاث قارات. اللبنانيان سامي كليب صحفي راسخ مراسلا في باريس أولا لصحيفة السفير، ثم بإذاعة فرنسا الدولية ومعد برامج رحلية لقناة الجزيرة، وعبد الرحمان بدر خان أحد أقطاب الصحافة اللبنانية، الحياة بنى فيها مجدا، ثم النهار العربي ما زال من كتابها البارزين.
يتحدث ولد محمدي عن علاقاته في عالم الصحافة بذاكرة خصبة جمعت المعلومات عبر سنوات وخاضت غمار أسفار تنقلت فيها بين قارات وأحداث جسام منذ بدأ العمل منذ الثمانينيات في جريدة « الشعب» اليومية الموريتانية الوحيدة ليحلق بعدها بأجنحة الشرق الأوسط في الآفاق، فيتعرف على العجم والعرب، والآسيويين يخص بالذكر منهم الياباني ساداموري دايجي من صحيفة آساهي، ثاني أكثر الصحف انتشارا في اليابان بعد جريدة يوميوري( 9 ملايين نسخة بين الطبعتين الصباحية والمسائية) ب300 مكتب في الداخل وثلاثين في الخارج، تعرف عليه ولد محمدي في موريتانيا لمّا حلّ بها يقتفي أثر أتباع بن لادن وأصداءه. وهاكم سيدي الأمين رائد الصحافة العربية في السينغال، الإفريقي العربي الذي درس في الأزهر وقُم معا وأسس في دكار صحفا عربية ووكالة أنباء وإذاعات وقناة تلفزية وتصدى لحكام ووحده يلخص تجربة إفريقية في الميدان. وبالطبع، لم ينس ولد محمدي أصدقاءه المغاربة منهم الراحل محمد الأشهب صاحب مسيرة غنية ذات منعرجات في الصحافة المغربية، ومحمد بوخزار سقط صريعها أولا في جريدة العلم بجوار الراحلين المساري واليزناسني، وأخيرا حاتم البطيوي السهم المشدود منذ بداياته إلى قوس (الشرق الأوسط) وفيها يبلو البلاء الحسن بين الرباط ولندن.
هي تجربة عمر غنية ومهنية وإنسانية سجلها ولد محمدي وكأنه يكتب سيرته الذاتية عبر الآخرين، ولذلك فهي تقتدى، وعلى أهل هذه المهنة الشاقة أن يتعلموا منها خلق الوفاء والاعتراف بدل التنابز بالألقاب والتباغض لأن الصحافة وهي إعلام يبنى على أخلاق ومبادئ.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 16/11/2022

التعليقات مغلقة.