حين تتحول الوساطة المرفقية إلى مرآة لفضح حكومة شرعنت الفساد والاحتكار
محمد السوعلي
تقوم الوساطة المرفقية في أصلها بوظيفة دستورية أساسية: حماية المواطن من الشطط الإداري وضمان العدل في علاقة الدولة بمستعملي خدماتها. غير أن هذا الدور يفقد فاعليته في ظل حكومة تغوّلت في عهدها البيروقراطية، وتكرّست فيها ممارسات الريع والاحتكار، وتراجعت السلطة الفعلية للمؤسسات المنتخبة. فكيف يمكن الحديث عن عدالة إدارية بينما تتحول الإدارة إلى شبكة مصالح مغلقة تتحكم في المشاريع والصفقات والتعيينات؟ وكيف يمكن لمن يفترض أن يكون وسيطاً بين المواطن والجهاز التنفيذي أن يقوم بدوره في سياق حكومي يغضّ الطرف عن التجاوزات ويقنن الصفقات المشبوهة؟
تطرح الوساطة سؤالاً مزدوجاً: من يحمي المواطن من الإدارة؟ ولكن أيضاً: من يحمي الوساطة نفسها من حكومة تُحصّن نفوذ المتغوّلين وتُفرغ مؤسسات الحكامة من مضمونها؟ إن حكومة عاجزة عن ضبط الإدارة لا يمكنها الادعاء حماية العدالة الإدارية، لأن الوساطة لا تزدهر إلا في بيئة تُحترَم فيها المساطر وتُنفَّذ فيها الأحكام ويُحاسَب فيها المسؤول العمومي.
من روح 1999 إلى واقع 2025… كيف حوّلت الحكومة التوجيهات الملكية إلى نصوص بلا أثر؟
منذ خطاب الملك محمد السادس سنة 1999 حول أخلاقيات المرفق العام وإطلاق المفهوم الجديد للسلطة، كان الهدف واضحاً: بناء إدارة حديثة، نزيهة، فعّالة، وقريبة من المواطن. غير أن المسار الإصلاحي الذي كان يفترض أن يترسخ قد انقلب، بفعل ضعف الإرادة الحكومية، إلى نصوص شكلية تفتقر إلى التنزيل. فالإدارة المغربية اليوم لا تزال عالقة في مساطر معقدة، وبطء مزمن، ونقص في الشفافية، وتأخر في تنفيذ الأحكام القضائية، وانكماش في روح المسؤولية.
وتؤكد المؤشرات حجم هذا التراجع: المغرب يحتل الرتبة 80 عالمياً في فعالية الإدارة؛ 58% من المواطنين يعتبرونها غير منصفة؛ 31% يعتقدون أن الرشوة شرط للحصول على خدمة بسيطة؛ و75% من الشكايات الموجهة لمؤسسة الوسيط تتعلق بعدم احترام القانون أو الآجال. هذه الأرقام لا تعكس أزمة تقنية، بل أزمة حكامة، ناتجة عن ضعف الجهاز التنفيذي وعجز الحكومة عن تنزيل مبادئ دستور 2011.
وأخطر من ذلك، جاء اعتراف قيادي بارز في حزب التجمع الوطني للأحرار—وزير ودبلوماسي سابق—ليؤكد أن الإدارة، وليس المؤسسات المنتخبة، هي التي تتحكم فعلياً في تدبير الشأن المحلي والجهوي. هذا التصريح يعزز ما قاله الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خلال المؤتمر الوطني لمنظمة المنتخبين الاتحاديين، حيث نبّه بقوة إلى أن التنمية لا تُقاس بالبرامج المعلنة بل بما يُنجز فعلياً، وأن الإدارة التي تعطل المشاريع وتقيد المجالس تُعيد إنتاج الفقر وتنسف الثقة في الديمقراطية الترابية.
إن هذا التلاقي بين الأرقام، والشهادات، وتحليل الفاعلين السياسيين المتمرسين، يؤكد أن الإدارة تجاوزت حجمها الطبيعي، وأن الحكومة الحالية فشلت في إخضاعها لرقابة ديمقراطية فعلية.
الوساطة المرفقية… القرار الملكي الذي أعاد الاعتبار للعدل والإنصاف
في ظل هذه الأزمة، اكتسى القرار الملكي القاضي بتخصيص 9 دجنبر يوماً وطنياً للوساطة المرفقية أهمية خاصة. فهو ليس مجرد محطة احتفالية، بل لحظة مؤسساتية تؤرخ لبداية مسار إصلاحي بدأ مع إحداث ديوان المظالم سنة 2001، ثم دسترة مؤسسة الوسيط سنة 2011. ويهدف هذا اليوم إلى بناء ذاكرة مؤسساتية للعدالة الإدارية، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، واستلهام التجارب المقارنة في حماية حقوق مستعملي المرافق العمومية.
غير أن هذا القرار الملكي، رغم قوته الرمزية، يطرح سؤالاً جوهرياً: ماذا يمكن للوساطة أن تفعل إذا كان الجهاز التنفيذي ذاته عاجزاً عن احترام توصيات الوسيط، وعن تنفيذ الأحكام الإدارية، وعن ضبط المساطر ومحاربة الشطط؟ إن الوساطة تحتاج إلى بيئة قانونية ومؤسساتية قوية، وإلى جهاز تنفيذي يلتزم بمبادئ المرفق العمومي، لا حكومة تتهرب من المسؤولية وتكتفي بصناعة الواجهة.
المرفق العمومي تحت هيمنة اللوبيات… حيث تغيب الشفافية وتنهار العدالة
تحت قيادة الأغلبية الحالية، تحول المرفق العمومي إلى فضاء تتداخل فيه المصالح، وضعف فيه الالتزام بالمحاسبة. فالصحة تعاني خصاصاً يفوق 32 ألف إطار صحي، بمعدل 7 أطباء لكل 10 آلاف نسمة، ويؤدي المواطن 54% من نفقات العلاج من جيبه. وفي التعليم، الاكتظاظ يبلغ 44 تلميذاً في القسم، والانقطاع يفوق 300 ألف تلميذ سنوياً. أما الصفقات العمومية، التي تمثل 24% من الناتج الداخلي الخام، فقد كشف المجلس الأعلى للحسابات أن حوالي ربعها يعاني غياب المنافسة وتضارب المصالح.
وعلى المستوى الترابي، تؤكد الدراسات الرسمية أن 78% من رؤساء الجماعات يشتكون من هيمنة السلطة الإدارية على مشاريع التنمية، وأن أقل من 30% من الاختصاصات الجهوية نزلت فعلياً رغم مرور أكثر من عقد على اعتماد الجهوية المتقدمة.
الخلاصة: يوم للوساطة أم لحظة لتقييم ادوار الادارة والحكومة؟
إن المغرب يحتاج إلى يوم الوساطة المرفقية… لكنه يحتاج أكثر إلى دولة قادرة على حماية الوسيط، وتفعيل القانون، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وضبط الإدارة التي تحولت إلى عائق أمام التنمية. فالاحتفال ضروري لأنه يوفّر مرآة سنوية لتقييم أداء الإدارة، لكنه غير كافٍ ما لم يتحول إلى مدخل لإصلاح جذري يعيد الاعتبار للعدالة الإدارية وللمؤسسات المنتخبة، ويحد من تغوّل البيروقراطية، ويقوي القضاء الإداري ومجلس المنافسة، ويؤسس لدولة اجتماعية حقيقية لا مجرد شعار انتخابي.
جيل الشباب اليوم كشف أعطاب المرفق العمومي بالصوت والصورة، وسحب الشرعية الاجتماعية من حكومة فقدت القدرة على الإقناع. وهذا الغضب ليس صرخة عابرة، بل إنذار استراتيجي بأن الدولة مطالبة بإعادة بناء الثقة قبل أن تُبنى السياسات.
إن الوساطة المرفقية يمكن أن تكون جزءاً من الحل، بشرط أن تتوفر إرادة سياسية حقيقية لإصلاح الإدارة، وتحرير التنمية من قبضة البيروقراطية، وجعل القانون فوق الجميع. بدون هذا التحول، سيظل يوم الوساطة مجرد واجهة زائفة تُخفي أعطاب ادارة تحتاج إلى إصلاح عميق ومستدام.
الكاتب : محمد السوعلي - بتاريخ : 11/12/2025

