خطاب العرش، وفلسفة المصالحة مع الجزائر.. 

أحمد نورالدين  

بعد الخطاب الذي القاه العاهل المغربي في الذكرى الرابعة والعشرين لجلوسه على العرش، يمكن القول إن موقف العاهل المغربي من العلاقات مع الجزائر لم يتغير خلال ربع قرن، فهو موقف ملك ينظر إلى المستقبل بعمق زمني لا يقدر بعمر جنرالات الجزائر، وإنما بعمر الملكيات العابر للقرون، وينظر إلى عواقب الأمور ومآلاتها، لا إلى الشطحات السلطوية لحديثي العهد بالسلطة ومزايداتهم السياسوية والعسكرية. والملك يقيس في ذلك كله تبعات الحروب التي تخلف وراءها، من جهة، ملايين الضحايا ما بين قتيل ومعطوب، في ظل تعاظم قوة النيران الرهيبة للاسلحة الحديثة،  ومن جهة أخرى، تحدث دمارا مهولا في البنيات التحتية، وتفضي في النهاية إلى فقدان السيادة الوطنية لفائدة مراكز القرار الدولي، كما نشاهده بأم أعيننا حاليا في العراق وسورية وليبيا واليمن والصومال والسودان ولبنان وغيرها من الأقطار العربية، حتى لا نتعداها ألى ما سواها.
ثم إن العاهل المغربي مثله مثل أي عقل استراتيجي يعلم أن الحروب، سواء أكانت إقليمية أم دولية، دائما ما تنتهي إلى مائدة المفاوضات، ولذلك هو يعمل على تجنيب المنطقة ويلات الحرب، من خلال دعواته المتكررة في خطاباته إلى الحوار مع الجزائر حول كل القضايا الخلافية دون طابوهات، ودون سقف أو شروط.
واضح إذن في هذه المقاربة أن الشرعية والحق إلى جانب المغرب، وأن النظام الجزائري ظالم ومعتد على الشعب المغربي دون أدنى شك. وإذا شئنا أن نذكر بعضا من جرائم الجارة الشرقية فيمكن أن نبدأ بجريمة يمكن أن نصفها عن حق بجريمة القرن العشرين،وهي تندرج ضمن الجرائم ضد الإنسانية، لأنها ارتكبت ضد آلاف المدنيين الأبرياء بدافع وحيد  يتمثل في حملهم الجنسية المغربية، وأقصد هنا جريمة طرد 350 ألف مغربي من الجزائر بقرار من الرئيس الجزائري هواري بومدين، وبتنفيذ من أجهزة الدولة الجزائرية في يوم عيد الأضحى من سنة 1975. وكان ذلك ردا إجراميا وانتقاميا من الجزائر  ضد المغرب الذي حرر صحراءه بعد المسيرة الخضراء من الاحتلال الإسباني. وبموازاة مع جريمة الطرد الجماعي والقسري تمت مصادرة الأموال الثابتة والمنقولة لكل المطرودين، دون أحكام قضائية، ودون أي مسوغ أو مسطرة قانونية.
ويمكن أن نذكر أيضا خرق النظام الجزائري لكل الاتفاقيات الموقعة مع المملكة سنة 1961 قبل الاستقلال، ثم سنوات  1963، 1969، 1972، وصولا إلى خرق معاهدة الاتحاد المغاربي سنة 1989. ولا يمكن أن نقفز على العدوان العسكري الذي شنه النظام الجزائري على أراضي المغرب في تنجوب وفكيك والريش، مما تسبب في حرب الرمال سنة 1963، ثم عدوانه الغادر على الجيش المغربي في أمغالا سنة 1976، وصولا إلى تراميه الأخير على أراضي ومزارع واحة العرجا ضواحي مدينة فكيك في مارس 2021.
ولازال  النظام الجزائري يواصل عدوانه على المغرب منذ نصف قرن باحتضانه تنظيما انفصاليا في الصحراء وتسليحه وتدريبه وفتح أراضيه لشن الهجمات الإرهابية ضد المغرب، ودعمه دبلوماسيا وإعلاميا وبكل الوسائل،  ولائحة الاعتداءات الجزائرية على المغرب طويلة، ولا يسع المجال لحصرها…
وبالتالي فالعاهل المغربي يمد يده للجار الجائر، وهو مطمئن لنتائج أي حوار أو مفاوضات مباشرة أو بوساطة عربية أو حتى افريقية أو دولية، فالحق يعلو ولا يعلى عليه، والمغرب يملك كل الأوراق لإدانة النظام الجزائري وجعله في وضعية «شاه مات» بلغة الشطرنج. وفي المقابل نجد الجزائر في موقف الرافض  لأي مفاوضات ولاي وساطة. وهذا لوحده كاف لإدانتها، فالذي يرفض المفاوضات أو يخشى من الحوار، إما أنه يدرك تمام الإدراك أنه على خطأ ومجانب للشرعية ومخالف للحق والقانون الدولي، وبالتالي لا يملك أي ورقة للاقناع والتفاوض، لذلك يهرب إلى الأمام؛ وإما أنه نظام أخرق يحكمه أغرار ومراهقو السياسة والحكم، يدفعون بلدهم نحو الهاوية والخراب، ويرهنون  مؤهلاتها وقدراتها ومستقبلها للقوى الاجنبية، دون أي مبرر عقلاني يقبله المنطق أو السياسة؛ وإما أنه نظام أولغارشي تحكمه مافيا تفضل مصالحها الشخصية وتضخيم حساباتها البنكية في أوربا، على حساب مصالح شعبها ووطنها؛ وإما أنه نظام مخترق من جهات خارجية، ويسعى المتحكمون في قراره إلى خدمة اجندات خارجية لا علاقة لها بالمصالح الوطنية.
واترك للقراء استنباط التوصيف الذي ينطبق على النظام العسكري الجزائري الذي يمعن في رفض كل مبادرات الحوار والسلام وتنقية الأجواء منذ نصف قرن،  بما في ذلك المبادرة الملكية سنة 2018 وخطاب العرش الأخير. وفي كل مرة يجنح فيها المغرب للصلح يمعن دهاقنة النظام الجزائري في رفض كل المبادرات المغربية والعربية والدولية، وقد أعلنت الجزائر غير ما مرة عن رفضها الحوار والوساطة مع المغرب في تصريحات رسمية للرئيس الجزائري، وفي بلاغات رسمية للخارجية الجزائرية، ومن خلال مذكرات مندوب الجزائر في الجامعة العربية.
باستحضار كل هذه الوقائع والملابسات ، تنجلي أمامنا حقيقة الجوهر الفرد في معنى اليد الممدودة للعاهل المغربي الذي يمثل ملكية لها امتداد زمني في الماضي والمستقبل، ولا يريد الدمار لبلده ولشعبه، ولا حتى لجيرانه، ولا يريد رهن سيادة وطنه لمراكز القرار الخارجية. بل العكس تماما هو ما يسعى إليه، وهو ما جاء خطابه الأخير ليؤكده حين قال بأنه «يريد خدمة شعبه»، وخدمة الشعب كما يوضح هو نفسه «لا تقتصر فقط على القضايا الداخلية، وإنما أيضا تمتد الى إقامة علاقات وطيدة مع الدول الشقيقة والصديقة»، وخاصة دول الجوار .
فالملك الذي يمتلك رؤية للمستقبل، ويقود مشروع نهضة اقتصادية واجتماعية، ومشروع إقلاع صناعي وتكنولوجي، ومشروع تحقيق السيادة المغربية في القطاعات الاستراتيجية التي تحدث مطولا عنها في هذا الخطاب وفي خطابات سابقة، هذا الملك لا يمكن أن يسمح لأي كان بأن يجره إلى مستنقع صراع سيهوي بالمنطقة المغاربية ومحيطها نحو الجحيم، ولا يمكن أن يستجيب لاستفزازات أولئك الذين لا يملكون مشروعا آخر غير هدم وحدة المغرب، وتمزيق أوصاله وفصله عن صحرائه، وشتان بين من له مشروع للبناء ومن مشروعه الهدم.
لذلك كله سيظل المغرب متشبثا بخيار المصالحة لأنه يسحب البساط من تحت أرجل النظام الجزائري، ويحمله كامل المسؤولية أمام شعبه وأمام المنتظم الدولي، كما أنه يسمح للمغرب بمواصلة البناء، وهذا ما يغيض العدو لأنه يرى بحسرة أن الفجوة التنموية والتكنولوجية تكبر بين الجارين، جار يستثمر مليارات الدولارات في مدن المهن والبنيات التحتية العملاقة، وجامعات البولتكتيك، وكليات الطب والهندسة، ومجمعات الصناعة والطاقات المتجددة.. وجار يبدد مئات المليارات من الدولارات على سباق التسلح لنشر الدمار، ولشراء ذمم الدول واستعدائها ضد جاره، تاركا شعبه يغرق في الفاقة والحاجة، ويحترق بلهيب النيران حقيقة لا مجازا..
الدعوة للمصالحة تعتبر ترجمة لفلسفة مملكة عمرها تجاوز الألف عام، ورفض الحوار تعبير عن المراهقة السياسية واستعراض العضلات لكيان لم يتجاوز عمره سبعة عقود، وهنا يكمن الفارق.
ولكن ما قد يخفى على الكيان المراهق، هو أن الدعوة للصلح، والصلح خير، هو عين العقل، ولكنه لا يعني عدم الاستعداد لكل الفرضيات الاخرى كما تقتضيه الحكمة والعقل أيضا، فمن يريد السلام عليه أن يستعد للحرب، وهذا ما يقوم به المغرب فعلا من خلال تعزيز وتحديث قواته المسلحةالملكية، ومن خلال عقد التحالفات الاستراتيجية اللازمة، بهدف ردع المعتدين كل المعتدين، وليس بهدف إلحاق الشر بالجار، خاصة إذا كان هذا الجار ممن تجمعنا به الأنساب والدماء والأرحام والكفاح المشترك ضد الاستعمار والتاريخ والجغرافيا واللغة والثقافة..

الكاتب : أحمد نورالدين   - بتاريخ : 07/08/2023

التعليقات مغلقة.