دورالجامعة المغربية في بلورة النموذج التنموي الجديد

بشرى أعراب (*)

وضع النموذج التنموي الجديد الجامعة في مقدمة استراتيجية التنمية للعلاقة الوثيقة التي تربط الجامعة/ المعرفة بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية باعتبار الجامعة نظاما للإنتاج والعرض دون إغفال وظيفها في البناء الاجتماعي، وعليه سنتطرق في هذه المداخلة للتحديات التي تواجه الجامعة من أجل مواكبة التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي يطرحها النموذج التنموي الجديد الذي أطلقه جلالة الملك محمد السادس.
من هنا، تظل هذه العلاقة قضية الساعة التي تثير الجدل بين العديد من المتخصصين الذين يعتبرون الجامعة بمثابة ناقل للتنمية في مواجهة عالم متزايد العولمة، هناك العديد من الأسئلة يطرحها الهدف من هذه المداخلة، وإليكم بعض الأسئلة :
– هل يمكن أن تنسب للجامعة وظيفة في البناء الاجتماعي ؟
– ما هي القضايا الحقيقية التي تواجه الجامعة المغربية وما هو دور التعليم العالي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلادنا ؟؟
للإجابة عن هذه الأسئلة قسمنا موضوع المداخلة إلى قسمين:
1- الجامعة عنصر من عناصر البناء الاجتماعي
سنحاول في هذا القسم إبراز الوظيفة التي تقوم بها الجامعة داخل البناء الاجتماعي، وعليه إذا اعتبرنا الجامعة نظاما للإنتاج فإنه من الضروري أن تعمل وفقا لمبدأ اقتصادي أي الحد الأقصى للإنتاج مع الحد الأدنى للإنفاق على استخدام وسائل الإنتاج حسب
Payan  و Lorenzi.
إذن يمكن القول إن المعرفة التي ينقلها الأساتذة إلى الطلاب، من أجل الحصول على نتائج جيدة، تتيح للجامعة أن تكون فعالة من خلال إنتاج فاعلين مساهمين في التنمية الاقتصادية للبلد، ومع ذلك فمن الضروري التأكيد أن الجامعة ليست مجرد مكون للأفراد بل هي أيضا آلية لإنتاج أفكار ومفاهيم جديدة تساهم في التنمية. ومن هذا المنطلق يمكن القول إن البحث العلمي ليس نشاطا ثانويا للجامعة بل على العكس من ذلك فهو يشكل نشاطا لدراسة الإشكالات المرتبطة بالاحتياجات المعقدة للمجتمع .
هذه العلاقة بين الجامعة كنظام الاقتصاد الخاص بكل مجتمع تتطلب تحليلا لهذه العلاقة بطريقة موضوعية. وبالتالي، يمكننا القول إن دور الجامعة أصبح أكثر حسما في بناء المجتمعات، إذ يعد التعليم العالي ضرورة لخلق القدرة الفكرية، التي يعتمد عليها إنتاج المعرفة واستخدامها وتنفيذ ممارسات التعلم مدى الحياة اللازمة لتحديد المعرفة والمهارات الفردية.
وبالتالي فإن المعرفة حاليا تحتل مكانة مهمة ومتنامية في عملية بناء المجتمعات، ويعتبرها البعض المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع. وبالتالي فقد أصبح تراكم المعرفة واستخدامها من العوامل الرئيسية في عملية التنمية الاقتصادية وأضحى بشكل متزايد أساس الميزة التنافسية لأي بلد في الاقتصاد العالمي .
ومن جهة أخرى، لا يمكن إغفال التحديات التي تواجهها الجامعة في معظم البلدان النامية التي لا تزال تكافح مع الصعوبات الناشئة عن الحلول غير الملائمة للمشاكل التي تواجه أنظمتها التعليمية.
ومن بين تلك التحديات نذكر مثلا الحاجة إلى تعميم الاستفادة من التعليم العالي بطريقة مستدامة. بالإضافة إلى مشكل جودة التعليم وأهميته، وكذا جمود الهياكل الإدارية وممارسات الإدارة.
ولكي تساهم الجامعة بشكل فعال في التنمية الاقتصادية والاجتماعية يجب الاستثمار في رأس المال البشري أولا من خلال التكوين الجيد حتى يصبح التعليم الناجع في النهاية قضية وطنية تجعل من سياسة التعليم العالي هدفا محددا يروم تحسين النمو الاقتصادي والحد من الفقر.
ومن هذا المنطلق، يرى العديد من الباحثين أن جودة التعليم العالي تساهم في تحسين قدرة بلد أو مجتمع ما على الاندماج في اقتصاد عالمي قائم على المعرفة.
ووفقا لذلك فإن الجامعة أصبحت أكثر انخراطا في عملية إنتاج المعرفة وعلى هذا الأساس تبنى المغرب استراتيجيات جديدة تمكنه من تشكيل أنظمة التعليم العالي من أجل اكتساب مسايرة التنمية الاقتصادية العالمية.
وبالتالي لا يمكن تحقيق النمو المستدام للاقتصاد دون مساهمة نظام تعليمي حكيم عالي مبدع ومبتكر يقوم على تنمية القدرات.
وبهذا المعنى فإن الجامعة تساهم بطريقة فعالة في تنمية المجتمع من خلال التعليم الجيد الذي يمكن أن يوفر فرص عمل أفضل للمتخرجين المحرومين من فرص الشغل، وبالتالي تحقيق عدالة اجتماعية بالتركيز على رأس المال البشري اللازم لتكوين مجتمعات مدنية سليمة وثقافات متماسكة اجتماعيا .
2- التعليم العالي في صلب النموذج التنموي الجديد
ومن خلال ما سبق فإن النموذج التنموي الجديد جعل التعليم العالي ضمن أولويات مخططه التنموي باعتبار جودة التعليم الجامعي والمهني والنهوض بالبحث العلمي من الشروط الأساسية لتسريع مسار التنمية بالمغرب والدفع به إلى مصاف الأمم ذات التنافسية المستدامة، كما أنها من المحددات الجوهرية للنموذج التنموي الجديد، لكونها تساهم في تكوين وتحفيز الكفاءات الضرورية لتنمية القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، في القطاعين العام والخاص، مما يسمح بالإنتاج المستمر للمعرفة والثقافة، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى انبثاق مجتمع مبتكر ومزدهر ومندمج في اقتصاد المعرفة؛ لذلك ينبغي القيام بتحديث فعلي لمؤسسات التعليم العالي العمومية والخاصة والعمل على الرفع من حسن أدائها، بالإضافة إلى التثمين القوي لشُعب التكوين المهني ولطرق التعلم الهجين وبالتناوب، وذلك بهدف تمكين الشباب المغربي من سبل امتلاك الكفاءات العالية وتحسين آفاق اندماجه في سوق الشغل.
ولهذه الغاية، سطر النموذج التنموي الجديدعلى الأهداف التالية (وفق تقريره العام الذي قدمته في أبريل  2021):
1) ضمان استقلالية مؤسسات التعليم العالي.
2) جعل الطالب في صلب إصلاحات وإجراءات تحسين أداء التعليم العالي والمهني.
3) تعزيز قيمة التكوين المهني.
4) تشجيع البحث العلمي من خلال آلية مستقلة للتمويل والتقييم.
بالنسبة لضمان استقلالية مؤسسات التعليم العالي ومراجعة طرق حكامتها، بهدف الرفع من نجاعة أدائها، يجب أن ترتكز هذه الحكامة الجديدة على نظام لقيادة المؤسسات الجامعية، يكون شفافا وذا مصداقية وموجها نحو حسن الأداء من خلال إرساء تعاقدات متعددة السنوات بين هذه المؤسسات والدولة تحدد بموجبها الأهداف المتوخاة في ما يتعلق بـ:
أ) إنتاج الأبحاث العلمية وبراءات الاختراع.
ب) استقطاب الطلبة وقابليتهم للإدماج في سوق الشغل.
ج) التأثيرعلى الاقتصاد الجهوي والوطني.
بالمقابل على مجلس الإدارة أن ينتقل بكيفية جذرية من التركيبة المتضخمة الحالية، إلى تركيبة فعالة، حيث يجب أن يكون المعيار الأساسي لانتقاء رؤساء الجامعات، ولتوظيف وترقية الأساتذة، هو قدرتهم على تطوير البحث العلمي المتميز ومهام التكوين عالي المستوى؛ كما يجب العمل على تشجيع تكوينات التميز بمشاركة القطاع الخاص، الذي يمكن له أن يتدخل في إحداث صياغة برامج التكوين وأن يساهم بذلك في تسهيل ولوج الطلبة إلى سوق الشغل. وبإمكان المؤسسات المحتضنة للتكوينات المتخصصة تعبئة أنواع أخرى من التمويل غير تلك المبرمجة في إطار ميزانية الدولة، خصوصا من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتعبئة الشراكات مع القطاع الثالث قطاع الخدمات الذي يهدف بالضرورة إلى تحقيق الربح.
إضافة إلى ذلك، من الضروري ترسيخ المكانة المركزية للطالب، سواء في ما يخص وضع إطار للمنافسة بين المؤسسات أو في تصميم البرامج التعليمية والإدماج في سوق الشغل واعتماد طرق بيداغوجية جديدة يتم التركيز فيها على تقوية كفاءات الطلبة، سواء العلمية والتقنية أو المهارات الفردية. ويجب اعتماد الرقميات في إعمال هذا التحول؛ فمن شأن استعمال الرقميات أن يغير بعمق النموذج الاقتصادي المتعلق بالتعليم العالي، الذي يتيح تقديم برامج تكوين عن بعد تتوج بشهادات لأكبر عدد من الطلبة وبأقل تكلفة. علاوة على ذلك، يجب أن يدمج إتقان أساسيات الرقميات في جميع شعب التكوين ابتداء من السلك الأول من التعليم العالي، وأن يكون الولوج إلى التجهيزات والشبكات الرقمية متاحا لكل الطلبة.
إن ازدهار وتقدم المغرب لن يكون ذا شأن إلا إذا استند إلى بحث علمي متميز داخل الجامعات. ويتوقف هذا الأمر أساسا على هيكلة نظام البحث العلمي من خلال إنشاء آلية صارمة للتقييم العلمي تتيح أداء وظائف سلطة مضادة وإنتاج مدونة للسلوك والأخلاقيات ومنح علامات التميز، وهو ما من شأنه خلق توازن مع الاستقلالية التي تتمتع بها هيئات الحكامة بالمؤسسات الجامعية.
يهدف المغرب من خلال النموذج التنموي الجديد إلى أن يصبح قطبا للتعليم العالي والبحث يستقطب الطلبة من المغرب ودول الجوار والقارة من خلال عدد من المؤسسات المتميزة، وسيتأتى ذلك من خلال انبعاث جيل جديد من الجامعات، يشتغل بمعايير التميز، وبنماذج متجددة للحكامة، معززة بالإمكانيات الملائمة للقيام بالمهام المنوطة بها، حتى تصبح هذه الجامعات مستقلة وتضع الطالب في صلب أولوياتها قصد تأهيله وتنمية قدراته العلمية والثقافية من أجل إنجاح اندماجه في سوق الشغل.
وبوضعه للجامعة في صلب المنظومة الترابية، يطمح المغرب إلى تطوير مقاربة جديدة للتعليم العالي ترتكز على البحث والتطبيق الوثيق الصلة بالواقع، تكون فيها مواضيع البحث متمحورة حول تحديات التنمية الوطنية والمحلية، بدعم وتعاون مع القطاع الخاص. ومن شأن هذا التحدي أن يحقق قفزة نوعية في مجال التكوين والبحث العلمي والابتكار من خلال إدراجها ضمن دينامية مستمرة للنمو؛ وذلك بالعمل على مراجعة كيفيات ترسيخ مؤسسات التعليم العالي داخل محيطها الترابي، على ضوء تطورات الحكامة الترابية؛ وعلى خلفية الجهوية المتقدمة؛ مما يستدعي آليات جديدة للتعاقد بين الجامعات، وبين الدولة والجهة.
في هذا الإطار وفي إطار المقاربات التي قدمها النموذج التنموي الجديد من أجل تحسين علاقة الجامعة بمحيطها السوسيو-اقتصادي، انخرطت الجامعة حاليا في بناء شراكة مع الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين بهدف تحسين تموقعها وتواجدها في الأنشطة ذات العلاقة بالحركية الاجتماعية والاقتصادية من خلال مجموعة من الإجراءات ذات الطابع المهني، والبحث عن العوامل المساعدة على التقارب بين الجامعة ومحيطها الاقتصادي والاجتماعي. وفي هذا الصدد ينبغي عقد اتفاقيات شراكة مع المؤسسات الاقتصادية ومؤسسات المجتمع المدني والحكومية وغيرها من أجل تكثيف الانتقال نحو الطابع المهني والتخصص الذي يتطلبه التكوين الجامعي وخاصة للشهادات والمؤهلات العلمية للمتخرجين من الجامعة، ومحاولة ربط مسار التكوين في الجامعة بالاحتياجات الأساسية التي يحتاجها القطاع الاقتصادي بالأساس.
فالاستثمار في التعليم العالي له فوائد مهمة وضرورية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية القائمة على المعرفة. إن بناء مجتمع التنمية هو في نهاية المطاف مسؤولية الجامعة بقدر ما يجب أن تعمل وفقا لمنطق يعزز التضامن الوطني من خلال تعزيز التماسك الاجتماعي الأقوى والمشاركة المفتوحة المتنوعة، وعلى هذا الأساس فإن المجتمعات تعرف تنوعا حسب البحوث والدراسات التي تجريها العلوم الإنسانية والاجتماعية، وفي هذا السياق يعد تحسين التعليم العالي ضرورة ملحة لتمكين التقدم المستدام للمجتمع المغربي.

(*)أستاذة باحثة في علم الاجتماع

الكاتب : بشرى أعراب (*) - بتاريخ : 18/05/2022

التعليقات مغلقة.