كان الأمل في التشبّث بالحياة هو بصيص النور المشرق الذي ما فتئ يشعّ في آخر ذلك النفق الحالك الذي كان قد داهمنا خلال الجائحة اللعينة التي قضّت مضاعجَنا، وأربكت حياتنا، وأثقلت كاهلنا بالهموم، والهلع، والفزع، والتخوّفات، وكانت قد أحالت حياتنا إلى جحيم لا يُطاق خلال أيامها الحالكات، ولياليها المدلهمّات، حيث لم نكن نسمع سوى الحديث عن ذاك الوباء الفيروسي الرّهيب الموسوم ب (كوفيد 19) أو (كورُونا) ، وأين له من كورونا ( التاج ) فهو اسم على غير مسمّى ! ، فكورونا في لغة «سيرفانتيس» تعني التاج كما هو معروف .
مَا أضيقَ العيش لَوْلاَ فُسْحَة الأمَل
هذا الوباء اللعين كان قد ملأ علينا حياتنا في كلّ لحظة وهنيهة وحين، وضاعف من مكابدتنا حيث لم ينتهِ إلينا إبّان انتشاره أيّة أخبار سارّة تفرحُ القلبَ، وتُثلج الصّدرَ سوى الحديث عن هذا الوباء الفتّاك، لم تكن أحاديثنا تدور سوى عن الإصابات المؤكّدة، والمعاناة الشديدة، والموت الزّؤام ، والمَشافي المُكتظّة، وسيارات الإسعاف المُسرعة، وصفّاراتها المدوّية، والعنايات المركّزة، والكمامات الواقية، والتباعد الجسدي، والحَجْر الصحيّ، وحالات الطوارئ، وغسل الأيدي واستعمال هلام تطهيرها بدون انقطاع، وتنظيف الوجوه، والألبسة، والأطعمة، والخُضر، والفواكه وكلّ ما نذهب به إلى أفواهنا، وذلك نظراً لتفاقم هذا الوباء الذي كان قد استشرى وانتشر آنذاك بيننا انتشارَ النّار في الهشيم..ولم يكن هناك من مُعالجٍ، أو وَاقٍ ،أو مُواسٍ،أو شفاء فى الأفق القريب .
هذا غيضٌ من فيض ممّا كان قد ملأ حياتنا منذ ظهور هذه الجائحة الخطيرة التي فتكت بنا،وبغير قليل من أصدقائنا،وأحبّائنا، وذوينا،وأقربائنا وعجّلت برحيل بعضهم من دار الشقاء إلى دار البقاء، والتي جعلتنا في حياتنا اليومية نحثّ الخُطىَ، ونُسرع في سيرنا مُهرولين، متّقين،حذرين، مُحتاطين ، ننأى ونفرّ من أقرب وأحبّ الناس إلينا فرارَنا من الأسد، كان هذا الوباء الهالك قد ملأ حياتنا رعباً، وذعراً، وقلقاً، وهلعاً ، وفزعاً، وريبةً ورهبةً،وترقّباً، وخوفاً مقيماً، وكنا نُجيل بأبصارنا في السّماء في كل حين وكأننا نرجوها أمراً في قرارة أنفسنا لإيجاد مَخرج لنا من هذا النفق المدلهمّ الطويل، ونتوق ونتطلّع إلى بزوغ الفجر الباسم، وانبلاج نورالصّباح المشرق الوضّاء، وكان الأمل هو ملاذنا، ومآلنا، ومنقذنا وطوق نجاتنا ، وكانت ألسنتنا تردّد في كلّ حين بدون انقطاع المثل المشهور، والقول المأثور : ما أضيقَ العيش لولا فسحة الأمل!
رحلة إلى روما وما أدراك ما روما !
شاءت الأقدار أنه في تلك الظروف العصيبة كان أخي الأديب الرّقيق، والباحث المثابر الحثيث الأستاذ عبد اللطيف مَحمد خطّابي في رحلة سياحيّة واستطلاعيّة في الديار الايطاليّة لشغفه وحبّه الأثيريْن للفنّ والثقافة والتاريخ النابض في هذا البلد الذي يشعّ جمالاً ،وجلالاً ،وسحراً ،ودلالاً، وعطراً، وفكراً ،وثقافةً، وفنّاً ،وشعراً . ولم تثنه هذه الجائحة عن مواصلة رحلته حيث لم تكن الإجراءات التنقلية قد فُرضت في مختلف مطارات وموانئ بلدان العالم بعد ، فقلتُ له :
لقد أخبرتني من لطفك أخي الأبرّ آنذاك أنّك توجد في روما ، وما أدراك ما روما ! فقد سبق لي أن زُرتها في العديد من المرّات فى ريعان الشّباب، ومقتبل العُمر وشرخه ، عندما كنت أتابع دراستي العليا في مصر المحروسة بجامعة عين شمس بحاضرة الألف مئذنة القاهرة العامرة ، فقلتُ لك إبّانئذٍ حذار.. حذار، حافظ على التباعد، وتجنّب الاكتظاظ ،وإيّاك أن تغشى الازدحام ، وعُد لنا إلى أرض الوطن الغالي مُظفّراً ، سالماً،غانماً بحول الله تعالى.
نافورة السّعد الحَسَن وتمثال مايكل أنجلو
خلال وجودي في هذه المدينة السّاحرة التي لها مكانة خاصّة ،ومنزلة فريدة لدى الإنسانية جمعاء منذ فجر التاريخ ، في كلّ زيارةٍ لها كنت أحرص على أن أقذف ببعض الليرات الإيطالية النحاسيّة الصّغيرة الحجم في مياه النافورة الشهيرة التي يُطلق عليها الإيطاليّون Fontana di Trevi التي تمّ تخليدها في الفيلم السينمائي الذائع الصّيت الحائز على جملة من الأوسكارات (الحياة حلوة) La dolce vita في الستينيات من القرن الفارط، من تأليف وإخراج الايطالي العبقريّ المعروف فيديريكو فيليني ،وتمثيل الممثل الايطالي مارشّيلو ماستروياني ، والممثلة السّويدية الحسناء أنيتا إيكبيرج .
لا تنسَ أخي الرحّالة أن تلقى أنتَ بدورك بعضَ ( الصّوَالدَة ) أو ( الفكّة) في مياه تلك النافورة التي تعتبر من أبرز علامات، وتجليّات، ومعالم روما المهضومة…! فإنّ الطليان يقولون إنّ في ذلك مَجلبة للسّعد الحَسَن، والحظّ الجميل ، والطّالع الحميد .!.. التمثال الشامخ الذي يوجد غير بعيدٍ عنها هو من إبداع الفنان، والشاعر، والفيلسوف، والفلكيّ، والرياضيّ،والرسّام، والنحّات العبقري الايطالي مايكل أنجلو(المعروف في اللغة الإسبانية باسم Miguel Ángel) الذي يقول عنه المؤرّخون والمتخصّصون في تاريخ الفنون أنه عندما انتهى من نحت تمثال موسى هذا نزولاً عند رغبة البابا يوليوس الثاني، وكانت المطرقة والإزميل ما زالا في يديْه ، ودون سابقِ إنذار، وعلى حين غرّة ، وبشكلٍ مفاجئ صار يضربه بدون شعور منه بمطرقته في ( قُبُوله) ( بضمّ القاف) مخاطباً إيّاه بصوْتٍ عالٍ جهوري : انطق..انطق يا موسى.. نطق أيّها الحَجَر! ويُقال إنّ «تمثال موسى» : من أروع ما نحتت أيدي النحّات مايكل انجلو، وكان يرى في التمثال حقيقةً وجسداً أكثر منه حجر !.. ويرى دهاقنة، وصناديد، وفطاحل النقد الفنّي الإيطاليّ في هذا القبيل إنه من دقّة مهارته ، و كثرة إتقانه لهذا التمثال لم يكن يبقى له سوى الكلام ….أيّ لم يكن يبقى له سوى النّطق..! واحتراماً لهذا الفنّان العظيم تركوا التمثال على ما هو عليه بنفس الضربات التي كالها له ميكل انجلو من الناحية الأماميّة إلى حيث وصلت يداه، وظلّ على تلك الحال إلى يومنا هذا المشهود مثلما بقي مُجسّم أبو الهول حارس الأهرام الكبرى العائدة لـ( خوفو، وخفرع، ومنقرع) في الجيزة أفطس الأنف بعد أن أطلق نابليون بونابارت طلقة قوية من مدفعه الكبير عليه خلال حملته الشّهيرة إلى مصر الآمنة، ثمّ ليتأهّب بعد ذلك لسرقة «المِسلّة L›obelisque « الفرعونية الكبرى والفريدة في بابها ليضعها منذ عام 1836فى قلب ساحة ( لا كُونكورْد) في قلب باريس، التي كانت تُنعت فيما مضى من العقود بـ ( مدينة النور) !

*كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية -الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.