رسالة إلى السيد المحترم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

عائشة زكري

لم تعرف فرنسا تخبطا وارتجالا في سياستها الداخلية والخارجية مثلما تشهده حاليا في عهد الرئيس إيمانويل ماكرو .
فعلى الصعيد الداخلي دب الفساد في كل أرجاء الدولة ، و هذا ما تعكسه الإضرابات الكثيرة التي شهدتها البلاد في الآونة الأخيرة في كثير من القطاعات الحيوية ، وأهمها قطاع النقل والمحروقات ، والصحة وغيرها ، بالإضافة إلى غلاء الأسعار والتضخم ، وكذلك مشكل قانون التقاعد الذي خلق انقساما وشرخا عميقا داخل صفوف الشعب الفرنسي .
أما على المستوى الخارجيفالقائمة طويلة ، ولنبدأ بفشله في تدبير ملف خروج انجلترا من الاتحاد الأوروبي ،ثم وصول اليمين الشعبوي إلى الحكم في إيطاليا والنمسا ، وكذلك فشله في تدبير الصفقة النووية الإيرانية ، و فشله كذلك في إقناع قادة أوربا بمواجهة تركيا ، ثم محاولته التدخل في الصراع الداخلي الليبي ودعمه لخليفة حفتر دون نتيجة ، وغير ذلك من أنواع الفشل التي جعلت فرنسا تفقد هيبتها التي كانت تتمتع بها سابقا مثلما كان عليه الامر في عهد الجنرال ديغول مثلا .
وأتذكر تصريحه القديم حول الاتحاد الأوروبي حينما قال ( إنه يعيش في حالة موت سرسري ) مما يعكس مدى الاضطراب والتضارب في الأفكار والمواقف التي يعيشها هذا القائد السياسي الفرنسي.
كما أتذكر ذهابه إلى الصين في محاولة للتقرب منها لكن دون نتيجة ، وهو تقرب يعكس خوفه من صعودها كقوة على جميع المستويات خاصة التقنية منها ، كما أتذكر محاولاته المتكررة زيارة الرئيس الروسي بوتين في محاولة لصده عن حرب أوكرانيا ، لكن دون نتيجة أيضا الشي الذي يحدد حجم الفشل الذي حضي به السيد الرئيس على مستوى السياسة الخارجية ، كما أنه لم يستطع التخلص من الهيمنة الأمريكية في حرب أوكرانيا أيضا ، وهي كلها محاولات كان يحاول بها تغطية فشل سياسته الداخلية .
لكن الكارثة هي طرد فرنسا من إفريقيا ، بعدما كانت مهيمنة داخلها بشكل كبير ، تنهب ثرواتها وتتدخل في سياستها الداخلية وتخطط للانقلابات داخلها ، والآن انقلب السحر على الساحر وطردت من وسط إفريقيا ومن مالي ومن بوركينا فاسو والقائمة ستطول ولا شك .
أما الشيء الذي لا يمكن لأي مغربي أن يهضمه هو انصياعه وراء الجارة الجزائر وتحريكه لمؤامرة خسيسة ضد المغرب ، كان آخرها تحريكه للبرلمان الأوروبي في شخص رفاقه داخل الحزب، و الدفع بهم إلى إصدار بيانه المشؤوم الذي يتهمون فيه المغرب بخرق حقوق الانسان ، هذا البيان الذي رفضته المؤسسة التشريعية المغربية بغرفتيها ، وكذلك المؤسسة القضائية وكافة الاحزاب ، وعموم الشعب المغربي برمته .
كل هذا الفشل يعطينا صورة واضحة عن نوعية السياسة التي ينهجها السيد الرئيس على الصعيد الداخلي والخارجي على حد سواء ، سياسة تفتقد إلى العقلانية والتدبر، وتوضح الزيغ والتيه الذي يتخبط فيهما السيد ماكرون، والذي ينطلق من اقتناع بأنه ليس له ما يخسره لأن هذه هي الولاية الثانية له وهو غير متبوع بانتخابات جديدة.
لكن ما يثلج الصدر ويجعلنا، كمتتبعين للشأن العام المغربي والدولي، نشمت بالفعل في سياسة المراهقة الفرنسية هذه هو الأحداث الأخيرة ، والتي وجهت الضربة القاضية لسياسية السيد الرئيس ، أحداث صنعتها المؤسسة الكبيرة مؤسسة الاتحاد الأوروبي ، والتي أعطت الدليل الساطع على أن ماكرون في واد وأوروبا في واد آخر مغاير ، وأنه بالفعل يعيش اسكزوفرينيا خطيرة لا هو في جهة الرفض ولا هو في جهة الإثبات ، بل معلق في سماء الهذيان قد يكون يحلم بالتميز ، لكنه تميز رمى به في هاوية التيه السياسي ، لأن عالم السياسة يحتاج إلى التريث في اتخاذ القرار وإلى التخطيط الاستراتيجيي على المدى البعيد قبل القريب .
نعم لقد أبرم المغرب عدة اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي وصلت إلى خمس اتفاقيات ، بلغت تكلفتها حوالي 5 مليار ونصف مليار درهم ،وذلك لدعم الحماية الاجتماعية والاقتصاد الأخضر، وإصلاح الإدارة العمومية مما يوضح العلاقة الممتازة التي تربط المغرب بهذا الاتحاد ، حيث حاول السيد الرئيس ، تحت ضغط حاجيات الغاز وضغوطات الجارة والأخت الشقيق الجزائر ، أن ينفلت خارج هذا الاتحاد ، لكنه حتما لم و لن يجني خيرا من وراء ذلك .
وكأنه لم يستطيع قراءة ما وراء الأحداث وما بعدها ، ألم يستطع استخلاص سبب إبرام الاتحاد الأوربي ( أي بيته العتيد ) لكل هذه الاتفاقيات مع المغرب ؟ أين الذكاء الفرنسي ؟ أين الخبرة السياسية ؟ هل ترضى فرنسا أن ينزلق رئيسها في هذا المسار الذي لا يمت للديبلوماسية الرسمية بصلة ؟ لقد كان بإمكانه أن يستفيد من التجربة الإسبانية جارته القريبة عوض أن يرتمي في أحضان الجنرالات الجزائريين الذين تجاوزهم التاريخ ، كما كان بإمكانه أن يأخذ العبرة من دولة النمسا أيضا .
لا شك أن السيد الرئيس يعيش في هذه الاُثناء في حيص بيص، خاصة حينما يصل إلى مسمعه خروج المغرب من المنطقة الرمادية ،مما سينبهه ولا شك إلى المكانة الرفيعة التي أصبح ( المغرب ) يحتلها الآن ، كبلد يسوده الاستقرار السياسي ، وكبلد يحظى باحترام أغلبية دول العالم ، وكبلد يشق طريقه بعزم وإصرار في مجال التنمية والديموقراطية .
أتخيل السيد الرئيس جالس الآن يعدد مظاهر فشله ومظاهر نجاح المغرب ، ويتساءل كيف استطاع المغرب أن يتغلغل داخل إفريقيا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا بواسطة مشاريع ضخمة تعزز علاقته التاريخية مع جذوره وتحييها بنفس قوي يعكس قوته الديبلوماسية وحنكته على المستوى السياسي ؟، وكيف أصبح هو يدفع ببلاده إلى التهميش والطرد من مستعمراته القديمة ،ليس فقط على المستوى الاقتصادي والعسكري والسياسي بل أيضا على المستوى الثقافي ، فها هي ذي كثير من الدول الفرانكفورية تعيد النظر في مكانة اللغة الفرنسية داخل بلدانها وتسعى إلى تعويضها باللغة الإنجليزية .
إن للسياسة رجالها الأفذاذ الذين يتميزون ببعد النظر والتفكير العميق والتحليل الشمولي وربط العلاقة بين مختلف المتناقضات والقدرة على التنبؤ واستباق الأحداث آخذا العبرة من الماضي لأجل تطوير الحاضر وعلاج مشاكله بطريقة ناجعة
وإذا رغب السيد الرئيس في النصيحة فسيجد الاستجابة الرحبة من طرف فقهاء السياسة المغاربة لكن بشرط التنازل عن الغرور والتعالي على الغير والجري وراء المصلحة الضيقة .

الكاتب : عائشة زكري - بتاريخ : 07/03/2023

التعليقات مغلقة.