«زياد» وصمت الملائكة

شفيق الزكاري

قد تكون الفكرة في الفيلم الطويل هي المسافة التي تربط المشاهد بأحداث الرواية، مع عرض تفاصيلها لبلورتها بما تتيحه من قضايا تصب في العقدة والحل، بنفس طويل يتطلب إمكانيات كبيرة على مستوى تحديد أمكنة التصوير بدقة متناهية تستجيب لمتطلبات الأحداث الدائرة، مع اختيار الألبسة وتأطير المشاهد الداخلية والخارجية، واستعمال التقنيات الممكنة التي تعكس خبرة في التقاط الصور ورصدها بسلاسة المتمكن من استخدامها، خضوعا لمتطلبات السيناريو بكل مشتقاته في علاقته باختيار الممثلين والفضاءات التي تجري فيها الأحداث.
لكن في الفيلم القصير تختلف الرؤية على المستوى التقني والموضوعي، خضوعا لشرط الاختزال، حيث التركيز على الفكرة المحورية التي يطرحها الفيلم، وهنا تكمن عبقرية المخرج في تداول الأحداث بما تحمله من أفكار وحبكة في السرد عبر أداة الكاميرا وتحركاتها في المكان والزمان، لتغني المشاهد بعدد من الأسئلة الضرورية، بعيدا عن تمطيطها بشكل ممل.
قد يعتقد البعض بأن الفيلم القصير سهل المنال، لتقلص الفترة الزمنية وانسداد أفق التخييل، لكن في الحقيقة أعتقد وهذا (رأي شخصي) بأن الفيلم القصير أصعب بكثير من الفيلم الطويل، لأنه لا يمنح الإسهاب في سرد الأحداث ولا في تصويرها، بل يحتاج إلى تقنيات عالية تختزن مدارج التأويل بلغة وحرفية سينمائية تخضع للشروط الإبداعية بمرجعية ثقافية وتقنية محددة ومختزلة، تجعل منه وثيقة مفتوحة على كل التأويلات الممكنة، ما هو عليه الحال في الفيلم القصير الموسوم ب «زياد» لمخرجه ياسين المجاهد، حيث حضور السيناريو والصورة الصامتتين، وغياب كثرة الألوان ما عدا اللون الأحمر والأسود والأبيض بتدرجاتهما.
إن هذا الفيلم، يحكي عن طفل فقد أمه واشتاق لزيارة قبرها، فولج القبو بحثا عن مظلة في اللون الأحمر بعد أن أطل على صورة موضوعة فوق طاولة صحبة أمه الراحلة التي كانت تلبس قميصا أحمر ، كان يريد بها حماية قبر أمه من تهاطل الأمطار الغزيرة، فوجدها مكسرة، فالتجأ إلى تكسير حصالة من الفخار لأجل ما وفره فيها من القطع النقدية، والتجأ في ما بعد إلى دكان ليشتري مظلة حمراء تشبه المظلة الموجودة في القبو، وبعدها خرج من الدكان حاملا معه المظلة وصورته مع والدته في اتجاه مكان قبرها، لينتهي المشهد الأخير جالسا بقرب قبرها في فضاء شاسع تغمره الأمطار.
فالغاية من تلخيص هذا الشريط القصير الدرامي بامتياز، هي الوقوف على تلك المشاهد الثابتة في أول الشريط ونهايته، ثم على تلك المسافة التي تفصل بين البيت والقبر، كانت فيه الكاميرا متحركة في مواضع مختلفة بتأطير في غاية الجمالية والدقة، وكأنها لوحات تشكيلية تطل من نافذة السينما، عبر مساحات أفقية لا متناهية، لذلك كانت الغاية من سرد أحداث هذا الفيلم هي الوقوف على أهم التفاصيل الفنية والجمالية التي استجمعها المخرج بذكاء إبداعي جمع بين السينما والتشكيل، إذ تذكرنا اللقطة الأولى بلوحة مشهورة للفنان السريالي «سالفادور دالي» تحت عنوان «امرأة شابة بالنافذة»، حيث استطاع الفنان التشكيلي أن يجول بنا بين فضاءين، الأول داخل حجرة تطل بدفئها على البحر، بينما في هذا الشريط القصير نجد نفس الحجرة تطل على لحظة ممطرة رومانسية، بلغة صامتة يملأها التأمل الغارق في استتباب المشاعر القوية لطفل تذكر وفاة والدته، ما دام الاستتباب في هذا السياق، هو المحافظة على تلك الظروف الثابتة أو الساكنة في المحيط الداخلي للجسم.
إن الإحالات التي أفرزتها بعض المشاهد في شريط «زياد «، مرتبطة في أيقوناتها بمرجعية سيميائية ذات أبعاد دلالية، شخصها الطفل زياد بحبكة حرفية معصومة من الخطأ، ثم الاعتماد على التقابلات الضوئية واختلافها من الفضاء الداخلي إلى الخارجي، وتمثلاتها في الأسود والأبيض بتدرجاتهما، بالإضافة إلى اللون الأحمر المهيمن بقوة الحضور الكروماتيكي بدلالاته السلطوية كإثارة مشهدية اكتنفتها أيقونتان تحديدا في (المظلة وقميص والدة الطفل)، ليبرهن المخرج على تناص ملون، فيه من الفرادة ما يبرهن على قوته في علاقته بمحيط هذه التقابلات الضوئية، لأنه يحمل بين طياته نغمة رسالة عاطفية تدعو لطرح عدد من التساؤلات الوجودية المرتبطة بالمشاعر الداخلية، ليبقى تأطير جل المشاهد سواء تعلق الأمر بأفق الطبيعة وامتداداتها، أو بجسم الطفل زياد مقتدر وصورة وجهه وتحركاته، عتبة للرسم بالكاميرا لكل هذه المشاهد من زاوية تشكيلية متحركة في الزمان والمكان، ليبقى في الأخير سؤال محير وجب التأكيد عليه كملاحظة في ما كان يعنيه كاتب السيناريو والمخرج ياسين المجاهد عن الاكتفاء بتهاطل الأمطار أمام الكاميرا دون غيرها من الفضاءات الخارجية في بعض المشاهد.

الكاتب : شفيق الزكاري - بتاريخ : 14/04/2023

التعليقات مغلقة.