عملية «أميرة».. غمز فرنسي في هشاشة النظام الجزائري

طالع السعود الأطلسي

وموند” الفرنسية لأزمة النظام الجزائري، اسثتنائي وبحمولة سياسية واضحة حول تردي العلاقات الفرنسية-الجزائرية…
للمتتبعين لأحوال النظام الجزائري لا يقدم الملف جديدا على ما يعرفون، ويقولون ويحللون، على مدى سنوات… ولكن أن تكتب “لومند” ذلك، فهو أمر آخر… فهي تعكس “مزاج” الدولة الفرنسية العميقة، الثابتة، وهي المتضايقة من “تعقيدات” علاقات النظام الجزائري مع فرنسا، والمرهقة للديبلوماسية الفرنسية، سواء في تشنجات العلاقات الثنائية، أوفي تداعياتها على علاقات فرنسا مع المغرب، بكلفتها الباهضة عليها، سياسيا واقتصاديا… الملف الصحفي، يبدو أنه نفخ قوي في جمر التوتر الحالي في العلاقات الفرنسية-الجزائرية… “ربما” لأن فرنسا يرهقها النظام الجزائري بهشاشته السياسية وبتقلباته وبتبعات أزماته الداخلية والخارجية… أصلا عملية تهريب الصحفية الجزائرية أميرة يوراوي
من تونس إلى فرنسا، تنم عن استهانة فرنسية بالنظام الجزائري واستصغار لوزنه وتتفيه لرد فعله في علاقاته مع فرنسا… في الجزائر ردد الجميع “هذه إهانة”… هكذا إذن “القوة الضاربة” تهان… ولا تملك إلا أن تضرب الأخماس في الأسداد، وتحوقل لتستدعي سفيرها في فرنسا للتشاور، مرة أخرى، وبعد استدعاءات سابقة له للتشاور، يعود بعدها إلى فرنسا مكتفيا بغنم “الإياب من عبث الاستشارة”… قبل أشهر قليلة زار الرئيس الفرنسي الجزائر، وبعد أشهر قليلة، يفترض أن يزور الرئيس الجزائري فرنسا، وما بين الزيارتين أحاديث “عذبة” عن ترميم الذاكرة المشتركة وإعادة ترتيب وقائعها وأروقتها، عن تفاهمات سياسية، عن تعاون اقتصادي وعن تعاون عسكري، وفجأة يتزلزل كل ذلك وحتى يتصدع، بسبب فرار صحفية جزائرية-فرنسية من قمع النظام الجزائري، وتنطلق، في الجزائر، حملة “وطنية” ضد فرنسا ونصرة “لكرامة” النظام الجزائري، وفي فرنسا يصدر ملف جريدة “لوموند” ليقول ما كانت تعرف، وتجنبت قوله منذ سنوات، وبه تقصف اليوم جنرالات الحكم الجزائري .
إنه فصل آخر، وليس جديدا، من تاريخ توترات العلاقات الفرنسية الجزائرية، ولم يكن انتعاشها الأخير سوى “هدنة” فيها، مثل سوابق هدنات، هدنة نتجت عن عوامل متشابكة من مصالح سياسية، اقتصادية واجتماعية، منها التاريخية ومنها الظرفية ومنها الضرورية لفرنسا، والمفيدة للنظام الجزائري… وساعدت عليها دواعي تكتيكية في علاقاتهما مع المغرب، فرنسا “اقتربت” أكثر من الجزائر “للضغط” على المغرب، أملا في ردعه والحد من “تمرده” على طوقها في علاقاته الخارجية، والنظام الجزائري تصور أنه حين يطور علاقاته مع فرنسا، سيعمق “قطيعتها” مع المغرب، ليشل أو يبطل دعمها له في مجلس الأمن حين بلورة القرارات حول الصحراء المغربية، المساندة للتوجه المغربي، وكلاهما عجز عن الإضرار بالمغرب بتداعيات العلاقة بينهما، ولكنهما “نجحا” في وقف الهدنة بينهما، وعادا بعلاقاتهما إلى وضع التوتر، والذي هو طبيعتها وقاعدتها، وهو وضع يلائم مزاج جنرالات النظام الجزائري أكثر، ويغذي إحساسهم بـ”الحكرة”، الذي يديرون به شؤون الجزائر، تعزيزا لتحكمهم…
النظام الجزائري يعيش التوتر حواليه وداخله، ولعل الجنرالات الذين يقودونه يرتاحون لذلك وبذلك، النظام يصارع نفسه، ويعيش توترا داخليا، لقرابة عشر سنوات، صراع هو اليوم معلن وأكثر وضوحا… “العصابة”، حسب وصف الإعلام الجزائري المتصل بالجيش، التي تحاكم اليوم، وأكثر أعضائها في السجون، بأحكام ثقيلة، النظام الحاكم، اليوم، هو جزء منها، هي نفس “العصابة” التي تصفي حساباتها مع بعض مكوناتها، ليستفرد، المتغلب فيها، بالغنائم، ولتجدد شكلها، أفرادها وصورتها، لزوم الاستمرار في الحكم وبالحكم…
ثلث وزراء الحكومات السابقة في السجون، وقد كانوا زملاء السيد تبون حين كان عضوا فيها، في عدة وزارات، ولو بحضور باهت في عدة حكومات، منذ 1991 (تخللتها ثمان سنوات واليا) وإلى سنة 2017، حين ختمها وزيرا أول لمدة شهرين، وفي تلك التجربة الحكومية، قضى حوالي خمس سنوات وزيرا للسكنى والتعمير ما بين سنتي 2012 و2017، وهي المدة موضوع مخالفات معظم المعتقلين في قضايا الفساد، وبالضبط في قطاع السكنى والتعمير. هذا عن الرئيس المدني، أما قاعدة “الجبل الثلجي” من الجنرالات، الحكام الفعليين للبلاد، فلا يحتاج الأمر إلى تبيان المهام “الرفيعة التي كانت لاثنين منهم، على الأقل، في النظام، الجنرال توفيق والجنرال نزار… اسمان رمزا للنفوذ وللرعب في الجزائر لأزيد من عقدين، وهما الآن الأقوى وزنا في الخلية “السرية”، الحاكمة الفعلية للجزائر، بعد أن كان نزار محكوما وفارا إلى الخارج، وتوفيق كان ضمن الدفعة الأولى للمعتقلين، ومعه السعيد بوتفليقة، ليطلق سراحه قائد الأركان، الممتن له بنعمه عليه، ويحتفظ بالسعيد بوتفليقة، الذي حكم عليه بإثنتي عشرة سنة سجنا مؤخرا، في السجون اليوم، زملاء لهما، من عناصر النظام، في العقدين الأخيرين، وهم عددا ونوعا، ما يمكن أن تؤسس به دولة، وزراء أولون، وزراء، جنرالات من قيادات الأمن والمخابرات، محافظون، مدراء شركات وطنية ورجال أعمال، ومعهم العشرات ممن فروا إلى الخارج، من شخصيات كانت لامعة في النظام. هي عملية تصفية حسابات واسعة ينفذها المتغلبون اليوم، وقد دالت لهم السلطة، والأيام دول .
الصف الثاني في القيادة العسكرية لن يطول صبره على قطف ثمار تملك الدولة، اقتداء بالنافذين اليوم… هو إذن نظام في حالة توتر، خصام وصراع مع نفسه وبين مكوناته، وهذا مصدر ثقوب في كيانه، إليها يتسرب ما يضعفه وينخر أنسجته…
النظام الجزائري في حالة خصام، عداوة وأقله حالة توتر مع الشعب، لعقود وهو يصارع شعبه، كما برز في سنوات الحراك الديمقراطي، وكما تدل على ذلك السجون المليئة بمعتقلي الرأي، وآخر ضحايا النظام الصحفي سعيد بوعقبة المعتقل، بسبب تعبيره عن رأيه المناهض لجنرالات الحكم الجزائري، والهاتف بمحبته للمغرب ولملكه، وطبعا فرار الصحفية أميرة بوراوي، هو الآخر، دال على حالة حريات الصحافة، في الحياة العامة، التي يؤطرها حكام “القوة الضاربة”، بالقمع وبالتخويف…
هو إذن نظام غير قادر على توفير لا الحريات ولا المواد الغذائية ولا الأمل ولا الاطمئنان للشعب الجزائري، نظام مشغول بعداوة المغرب ومهتم فقط بالمزايدة بالشعارات الجوفاء، المعبرة عن حقد نفسي وحنق سياسي لجنرالات عزلوا الشعب عنهم، ليفرغوا الدولة من أي سند شعبي أو حمولة اجتماعية، وهو جانب آخر من هشاشة النظام، بما يعريه ويكشف كساحه وخواء مكابراته في علاقاته الخارجية، وقد أبلغته فرنسا، عن طريق عملية “أميرة” ، أنه على درجة من الهشاشة والعزلة الشعبية بحيث لا تقيم له وزنا ولا اعتبارا…
نظام بهذه الهشاشة والهزال لا يمكن أن يمارس علاقاته الخارجية إلا بالادعاءات والتهريج، ما يفقده الاحترام والصدقية من جهة أطراف علاقاته، هو اليوم ينفق الملايير في مراكمة السلاح، بما ينعش مصادر تسليحه، ويبذر ثروات الشعب الجزائري في ما لا ينفعه… الشعب الجزائري يسمع أن مداخيل الطاقة الأحفورية في الجزائر قاربت 60 مليار دولار ولا يرى لها أثرا في حياته اليومية، لها أثر لدى الجنرالات، ولدى اللوبيات الإعلامية والسياسية التي يشغلها النظام ضد المغرب… والتي لا يجني منها فائدة تذكر في علاقاته الخارجية، في المحيط العربي، في الدائرة المتوسطية والأوروبية والأمريكية… وحتى في الوسط الإفريقي، أكثر الدول تحررت، منذ سنوات، وأخرى هي قيد الصحو، من إغراءات أموال ومزاعم الجنرالات، بل إن النظام في وضع تسول تراجع الدول التي صرحت بمغربية الصحراء رسميا، أو أعلنت مباركتها لمقترح الحكم الذاتي لحل المنازعة الجزائرية حولها، وهو اعتراف ضمني بمغربية الصحراء، وهي كثيرة وتتكاثر، من جميع القارات، يتسول النظام، مرات بالمناشدة ومرات بالإغراءات ومرات بالتهديدات، بلا جدوى ولا نفع يجنيه… لا يحقق أدنى تجاوب معه. الدول العاقلة لا تتراجع عن قرارات أنتجها عقلها وليست عواطفها ومناوراتها، وهنا أيضا هو في وضع هشاشة وعدم انسجام وعدم ارتياح، بل في وضع خصومة وقلق وتشنج في علاقاته الخارجية…
طبيعي ووضع النظام الجزائري على تلك الحالة من العزلة من التوترات والخصومات في ذاته، وفي الداخل كما الخارج، أن يكون على درجة من الهزال تغري فرقاؤه بمداراته وهم يستحلبونه، ويشغلونه في استراتيجياتهم، وبين الفينة والأخرى يخزونه لكي يصحو من سكرة “قوة ” متوهمة وزهو بمكانة مزعومة، إن هو إلا نظام محشو بقش قابل للاشتعال بقليل من الاستهانة، كما فعلت معه فرنسا بعملية ” أميرة “… تفرض عليه قانونها ومصلحتها في علاقاته معها… وتشعره أنه هش وقابل للاختراق وللتجاوز…
مؤلم أن يقود النظام الجزائري نفسه، إلى هذا الوضع المهين !

الكاتب : طالع السعود الأطلسي - بتاريخ : 16/02/2023

التعليقات مغلقة.