عملية طوفان الأقصى .. أسئلة محرجة وأجوبة معلقة

محـمـد بنـمـبـارك (*)

 

شهد يوم السابع من أكتوبر 2023 فصلاً جديداً من الصراع بين حركة المقاومة الفلسطينية «حماس» وجيش الاحتلال الإسرائيلي، إثر عملية (طوفان الأقصى)، ردت عليها إسرائيل بتنفيذ «إبادة جماعية» في حق أهل قطاع غزة استمرت سبعة أسابيع في جولتها الأولى لتستأنف بعد انتهاء الهدنة.
حصيلة الحرب العدوانية الانتقامية مفجعة على غزة وأهلها، وقال المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة مساء 3/11 إن: «عدد الشهداء ارتفع إلى 15.523 شهيدا والجرحى إلى 41316 منذ بدء العدوان. أما المفقودين فحصر في 7000 مفقود، في حين بلغ عدد النازحين نحو 1 مليون و700 ألف، وتم تدمير العديد من المقار الحكومية والمدارس والمساجد والكنائس والمستشفيات وآلاف الوحدات السكنية». من جهة أخرى اعترف الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، بتنفيذ 10 آلاف غارة جوية منذ بدء الحرب.
وسط ذهول العالم جراء هذه الأرقام المفجعة، ترددت تساؤلات مقلقة ومتحسرة لدى بعض السياسيين والمفكرين والإعلاميين وحتى بالشارع العربي، تتضمن نوعا من توجيه اللوم والعتاب إلى حركة المقاومة حماس بالمخاطرة بعملية « طوفان الأقصى»، وتحميلها مسؤولية تعريض الشعب الفلسطيني بغزة ومعها الضفة الغربية لهذه المحنة غير المحسوبة العواقب.
ما من شك في أن عملية الطوفان قلبت الموازين ورفعت من شأن حماس التي هتف لها الشارع العربي والإسلامي التواق إلى نشوة نصر عربي على إسرائيل. لكن هل كان هذا النصر الفلسطيني كفيل بتمكين الشعب الفلسطيني من استعادة حقوقه وتبييض السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين ؟ أم أنه مجرد نصر ظرفي وقع تحت طائلة عقاب مؤلم بنتائج مخيبة، شهداء ودمار ومآسي ؟.
الحقيقة الماثلة أمامنا، والتي تدركها حماس، أن جيش الاحتلال مجرب في حروب سابقة، يتوفر على آلة حرب مدمرة. كما أن الإيديولوجية الإسرائيلية قائمة على العنف والغطرسة والقتل، وتؤمن بنـظرية: « ما لا يتحقق بالقوة، يمكن أن يتحقق بمزيد من القوة».
لا جدال في أن إسرائيل يمكن تصنيفها كقوة عظمى، بريطانية النشأة أمريكية الرعاية أوربية السند. لذلك فالحرب مع إسرائيل تأخذ سياقات أخرى خارج المألوف من صراعات تكافئ القوى وتقاسم المناصرين والحلفاء، وقد جربت الجيوش العربية حروبا مع إسرائيل وغادرتها إلى غير رجعة.
ألم تضع قيادة حماس هذه المعطيات في تقديراتها وتنتبه للتوقعات؟.
ليس الغرض من هذا الاستعراض محاولة إبراز قوة إسرائيل، ولكن نحن أمام محاولة لاستجلاء الصورة بين حركة مقاومة معزولة محاصرة تفتقر للسند والدعم من كل الجهات، وبين دولة مارقة تحظى برعاية دولية، بين منطق التضحية والمجازفة وبين منطق الاحتياط والحذر والمسؤولية.
لكن بالعودة إلى فكرة العتاب على حماس، أليس من المفترض أن توضع المسؤولية على المعتدي بدل المعتدى عليه ؟. فمن حق أي شعب أن يتصدى للاحتلال بشتى الأشكال مظاهرات انتفاضات اشتباكات عمليات فدائية، خارج سياق معادلة الربح والخسارة، لأن القضية مرتبطة بالوطن التي تظل فوق أي اعتبار.
في هذا الصدد، يشير قيادي من حماس/ أسامة حمدان، إلى أن «الهدف الرئيسي من عملية 7 أكتوبر هو استعادة المشروع الوطني للتحرير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذا التحدي لا يمكن أن يكون دون مقاومة، صحيح أن الثمن باهظ، لكن من يريد أن يتحرر عليه أن يدفع ثمن ذلك، فلسنا أمام منطق الربح أو الخسارة».
لا مناص في أن عملية الطوفان أسقطت العديد من المخططات التي كان يجري تدبيرها بالمنطقة، فخربت مساعي نتنياهو في طي ملف القضية الفلسطينية، وأوقفت مشاريعه الاقتصادية الحالمة التي بشر بها في المنطقة، وأثقلت كاهله بتسجيل الحضور الروسي والصيني من خلال مواقفهما المؤيدة سياسيا لحماس، والرغبة الأكيدة في إحداث التوازن الاستراتيجي لمصلحتهما بالشرق الأوسط ومحيطه، وتعزيز منظومة علاقاتهما كحلفاء استراتيجيين لإيران، وسعيهما لإحباط كل مخططات إسرائيل وأمريكا للاستفراد بالمنطقة سياسيا واقتصاديا.
هذه العملية عطلت أيضا قطار التطبيع العربي مع إسرائيل وبالأخص السعودية مركز الثقل الإسلامي، كما أزعجت عددا من الحكام العرب بالمنطقة، الذين باتوا يتخوفوا من خروج حماس منتصرة من الحرب. اعتراضات يمليها التخوف من أن يؤدي النصر إلى تقوية الإسلام السياسي في المنطقة برمتها ويرفع من شعبية حماس ويضعها كبديل شرعي لتمثيل الشعب الفلسطيني بعدما تعودوا على التعامل الدبلوماسي المريح مع القضية الفلسطينية تحت وصاية السلطة الوطنية بقيادة محمود عباس.
من جهة أخرى، عرّضت عملية حماس الضفة الغربية إلى الخطر وأقحمتها في حرب لم تستشر فيها رام الله، فأصبحت الضفة والقدس بدورهما على فوهة بركان قد تكون عواقبها أشد خطرا من غزة جراء النتائج الميدانية لجيش الاحتلال، تضاعف عمليات الاعتقال والمداهمات وارتفاع حصيلة الشهداء وانتهاكات بالمسجد الأقصى.. لذلك يلاحظ أن رئيس السلطة الفلسطينية لم ينجر وراء عملية حماس وأخذ مسافة من مغامرتها دون أن يجازف بموقف غـير محسوب العواقب، تخوفا من إقحام الضفة الغربية في حرب قد تؤدي إلى حل أو انهيار السلطة الفلسطينية ودخول إسرائيل كسلطة احتلال مباشر لفلسطينيي الضفة، فحافظ بذلك أبو مازن على شعرة معاوية تجاه الطرفين، وطرح نفسه كبديل لتدبير شؤون غزة.
أسئلة ووقائع متشعبة تظل دون جواب تدخلنا في مناخ الانتظار المخيف وتوتر الأجواء وتعقيدات الحسابات والافتراضات، فالحروب تخضع لموازين القوى التي يبدو أنها تميل لصالح إسرائيل في مواجهة حركة مقاومة معزولة محاصرة حتى عربيا، قامت بعملية فدائية غير مسبوقة وجد مكلفة، في انتظار ما ستؤول إليه نتائج هذا الصراع، الذي دخل جولته الثانية بعد رفض نتنياهو تمديد الهدنة مصرا على خيار الحرب.
آلة العدوان تمضي في السعي لإحداث متغيرات على الأرض، كالدفع بسكان غزة، بالتشجيع أو القوة، إلى النزوح خارج غزة باتجاه سيناء، مما يعرض الأمن القومي المصري للخطر، والمضي في خلق منطقة عازلة شمال قطاع غزة، تبقي فيها قواتها لمدة مفتوحة. كما أعلن ذلك صراحة نتنياهو، الذي أكد أنه: «سيغير خارطة المنطقة، فهناك خطر بالجنوب/حماس وهناك خطر بالشمال/ حزب الله»، بما يفيد الرغبة في تحقيق نصر على الجبهتين.
وعلى ما يبدو فإن معركة «طوفان الأقصى» كلفتها باهظة جدا حتى الآن، في ظل افتقار مقاومة حماس للإسناد العربي والإسلامي «مجموعة 57» التي يبدو واضحا أن لديها من الإمكانيات والأوراق القادرة على أن تشكل ضغطا دوليا فاعلا لوقف العدوان على غزة. وفي ظل الحصار الإسرائيلي المصري المضروب على قطاع غزة، لا نعرف كيف وإلى متى ستظل حماس قادرة على الصمود في وجه جيش الاحتلال المدعوم علانية عسكريا واستخباراتيا من قبل أمريكا وبريطانيا (طائرات تجسس) ودول أوربية أخرى تشجع بدورها على مواصلة القضاء على حماس، دون الالتفات إلى ما يخلفه العدوان من أوضاع إنسانية مأساوية. وقد كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن أن واشنطن زودت إسرائيل ب 100 قنبلة خارقة للتحصينات، وما خفي أعظم.
غير أن ما يمكن أن يسجل لصالح حماس وجود تحركات عسكرية ضد إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية على جبهات لبنان/ حزب الله، واليمن/ الحوثيون، والعراق/ تنظيمات موالية لإيران، تزعج إسرائيل وحليفتها أمريكا، التي تدخلت في هذه الحرب على عدة مستويات للتغطية على العدوان الإسرائيلي، فمن جهة تعمل على الضغط على دول المنطقة للالتزام بعدم دعم حماس وعزلها عن محيطها العربي، وعدم التدخل بأي شكل في مسار أحداث الحرب، والبحث عن حلول مع قادة المنطقة لمصير سكان غزة بما يتوافق والرؤية الإسرائيلية ( التهجير = الاستقبال = المساعدات)، ومن جهة ثانية توجه تحذيرات لإيران من مغبة انخراطها في الحرب والكف عن دعم الجبهات الموالية لها بالمنطقة.
أما طهران فتكتفي بدور المراقب والترقب، وتدعو إلى وقف الحرب واتهام إسرائيل بارتكاب جرائم الحرب على غزة، ومن جهة أخرى تبرئ نفسها من السعي إلى التوتر وتوسيع رقعة الحرب في المنطقة، معتبرة أن التصعيد الإسرائيلي في قطاع غزة من شأنه أن يوسع النشاط العسكري في المنطقة.
الحقيقة الماثلة أمامنا اليوم، أن جيش الاحتلال، وعكس ما توقع قادته، عجز عن الوصول إلى حركة حماس وقياداتها أو دحر جناحها العسكري، فتحولت الحرب في غزة من تدمير حماس والقضاء عليها إلى حرب ضد المدنيين العزل وقتل الأطفال والنساء والسكان الأبرياء وتدمير المباني في أبشع حرب يشهدها القرن 21، بعدما بلغ مجموع الضحايا حتى الآن 56.839 بين شهيد وجريح، مما أدى إلى ارتفاع وتيرة المطالبات الدولية والمظاهرات الشعبية بكل عواصم العالم بوقف الحرب، وبمحاكمة قادة إسرائيل على جرائم الحرب التي يرتكبونها في قطاع غزة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما أدت الحرب إلى الإضرار بسمعة إسرائيل وصورتها في العالم كدولة مارقة شبهت أفعالها بالإبادة الجماعية والنازية والهولوكست وانتشرت صور نتنياهو كمجرم حرب. كلفة الحرب باهظة أيضا على إسرائيل وجيشها يسابق الزمن لاستكمال أهداف الحرب المعلنة والخفية، وقادته السياسيون يتخوفون من وقف الحرب وانعكاسها على مستقبلهم السياسي في الحكم وفي مقدمتهم نتنياهو.
الحقيقة الحاضرة أيضا على أرض الواقع، تتمثل في قوة ودهاء المقاومة لكتائب عز الدين القسام، وخططها العسكرية البالغة الدقة وقدرتها الفائقة على مواجهة جيش الاحتلال الذي ألحقت بها خسائر فادحة غير معهودة في الجنود والعتاد وضرب مدن داخل إسرائيل بالقذائف الصاروخية مما زعزع أمن واستقرار السكان، بشكل يؤكد بصفة عامة أن حركة حماس لديها ذراع عسكرية قوية منظمة متطورة وذات فعالية قتالية متميزة. وقد اكتشف العالم أن غزة ليست مدينة مدنية على الأرض فقط بل هناك مدينة عسكرية تحت الأرض (الأنفاق)، وتلك إحدى عوامل القوة لحماس، وهو ما تحاول إسرائيل العمل على تدميره كأحد الأهداف الإستراتيجية للحرب.
ستظل عملية «طوفان الأقصى» لغزا في نظر الجميع، ومن الصعب راهنا التوصل إلى استنتاج فيما إذا كانت حماس قد ألحقت فعلا جراء عملية الطوفان أضرارا بتنظيمها وبغزة وأهلها ودفعت بالشعب الفلسطيني وقضيته نحو مستقبل مجهول أم العكس، فبالتأكيد هناك أوراق كسبتها وأخرى خسرتها كما هو الشأن بالنسبة لإسرائيل. لكن عندما تضع الحرب أوزارها ستظهر على أرض الواقع ما مدى الجدوى من عملية طوفان الأقصى وهل هناك بعدها ؟ أم أن الموقف بمخرجاته سيدفع الطرفين بل المنتظم الدولي إلى البحث الجدي عن حل جدري للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
(*) دبلـومـاسي سابـق

الكاتب : محـمـد بنـمـبـارك (*) - بتاريخ : 08/12/2023

التعليقات مغلقة.