في الحاجة إلى مفهوم الاعتراف

يوسف بن المكي

عرف مفهوم الاعتراف في الآونة الأخيرة اهتماما بالغا من أهل الفكر والسياسة وتم إعطاؤه مكانة في النقاش العمومي كمفهوم مركزي لفهم القضايا الاجتماعية وما ترتب عنها من توترات تبدت معالمها على المستوى الاقتصادي والسياسي بل والثقافي كذلك. والحق أن التفكير في هذا المفهوم بالضبط يستدعي وجوبا الرجوع إلى التأصيل النظري له وما طرحه من إشكالات فلسفية بالخصوص، ويُعتبر أكسيل هونيت Axel Honneth من أبرز المهتمين بنظرية الاعتراف ومعالجتها سوسيولوجيا وسيكولوجيا علاوة على التأصيل الفلسفي.
أكسيل هونيت فيلسوف و سوسيولوجي ألماني وأستاذ بجامعة فرانكفورت حيث خلف أستاذه يورغن هابرماس في مركز الأبحاث الاجتماعية، وقد عمل هونيت على تجديد النظرية النقدية مستلهما أفكاره من سابقيه تيودور أدورنو و ماكس هوركرهايم. له مؤلفات عدة تعالج وتنشغل بمفهوم مفهوم «الاعتراف» « La reconnaissance » هذا الذي بدأ الاهتمام به منذ هيغل في فلسفته الحقوقية، وقد حاول أكسيل هونيت إعادة الاعتبار لهذا المفهوم وتناوله من زوايا ثلاث « زاوية اجتماعية وزاوية أخلاقية-معيارية وزاوية ثالثة قانونية-سياسية»، ويعتبر كتاب ‘’مجتمع الاحتقار’’ بمثابة موقف أكسيل هونيت من النظرية النقدية و الفلسفة الاجتماعية التي وسمت رواد مدرسة فرانكفورت، كما شكل ‘’ الصراع من أجل الاعتراف’’ العنوان الرئيس لأعماله، فما دلالة مفهوم الاعتراف عند أكسيل هونيت؟ وما المرجعيات الفكرية لهذا المفهوم؟ وما الحاجة إليه في النقاش السياسي والقانوني؟ وهل الاعتراف السياسي والقانوني شرط أساسي للوعي بالذات أم أنه مكمل لها فقط؟
بخلاف النظريات حول العدالة الاجتماعية التي هيمنت منذ صدور كتاب ‘’ نظرية العدالة’’ لجون راولز ((1971 و الذي يولي اهتماما لمفاهيم العدل والخير، أو فكرة العدالة عند أمارتيا سِن، نجد أكسيل هونيت، كامتداد للنظرية النقدية، يفكر في مجتمع يضمن لأفراده شروط ‘’الحياة الجيدة’’. خصوصا في عصر العولمة حيث تطور المجتمعات يتجه في منحى يهدد شروط الاحترام والثقة بالنفس.
لهذا يلح أكسيل هونيت على أهمية الاعتراف « اجتماعيا وأخلاقيا وحقوقيا» وهي نقطة البدء التي ألهمت الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل الشاب الذي جعل مفهوم الاعتراف يرتقي إلى رتبة المفهوم الفلسفي ، وللإشارة فقد انفتح هونيت كذلك على العلوم الإنسانية ووظف المقاربة السوسيولوجية والسيكولوجية في اشتغاله على مفهوم الاعتراف.
والحال أننا إن نظرنا نظرة خاطفة على أعمال أكسيل هونيت نجده يميز بين ثلاث دوائر لمفهوم الاعتراف الضروري لتحقيق الذات:
الدائرة الأولى: تتمثل في الحب الذي يربط الفرد بجماعة محدودة حيث يبرز أكسيل هونيت مدى أهمية الروابط العاطفية في تحقيق الذات. فالقوة العاطفية التي تربطه بمجموعته هي التي تحقق له الثقة في نفسه وبدونها لن يتمكن من المشاركة في الحياة العامة.
الدائرة الثانية وهي الدائرة السياسية القانونية: إذا ما نُظر إلى الفرد نظرة عالمية أو كونية فهو فرد عالمي له حقوق وواجبات ورغم ذلك فإن أفعاله هي تعبير عن استقلاليته، وإذا كان ذلك كذلك فإن الاعتراف السياسي والقانوني شرط ضروري ولازم للحصول على الثقة بالنفس، بمعنى أن الارتباط بين الاعتراف القانوني والاحترام للذات أصبح ارتباطا ضروريا.
الدائرة الثالثة وهي الدائرة الاجتماعية: أو قل دائرة الاعتراف الاجتماعي، هذا الذي يسمح للأفراد الارتباط بخصوصياتهم وبقدراتهم الملموسة وهو الذي يخول لهم الحصول على الثقة بالنفس، وهنا تكمن أهمية الاعتراف الاجتماعي في إقامة علاقة دائمة للأفراد مع أنفسهم، فإذا تمتع الأفراد باحترام اجتماعي فسيُسمح لهم بالتعاطي الإيجابي مع قدراتهم ومواهبهم أو مع بعض القيم المستلهمة من هوياتهم الثقافية.
إننا ندرك مدى أهمية نظرية الاعتراف في فهم الظواهر الاجتماعية كأزمة الضواحي .بل إن ثورات الشباب ما هي إلا ترجمة لرفض مجتمعاتهم واحتقارها لهم، فالصراع من أجل الاعتراف الاجتماعي أصبح أمرا واقعا. ولذلك ففي ظل التحولات السياسية والاجتماعية والقيمية التي يعرفها العالم نجد أنفسنا في حاجة إلى التفكير في مقتضيات العدالة الاجتماعية ولعل أهم باب يمكن فتحه في هذا السياق هو باب الاعتراف كآلية –وليس كغاية- لتجاوز الصراعات والتحديات السياسية والأخلاقية والاجتماعية.
*(باحث في فلسفة القانون)

الكاتب : يوسف بن المكي - بتاريخ : 07/12/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *