في حوار مع صديق  : شذرات في المسألة الديمقراطية (الحلقة 2)

محمد الحبيب طالب

 

 

 

رابعا : أما عن تجارب البلدان الناهضة، فنحن أمام أنماط مختلفة، أخص منها من له سياسة وطنية تحررية في كافة المجالات .وهي أيضا على نمطين،إما أنها حاولت التوفيق بين نمط مؤسساتي ليبرالي وبين اختياراتها في التحرر والسيادة الوطنية. وهذا النموذج تتداور سلطاته بين مد وجزر في أمريكا الجنوبية على وجه الخصوص، وإما أنها استمرت على نفس النهج السوفياتي السابق (الصين والفيتنام وكوريا الشمالية وكوبا) وبشكل آخر، بعض التجارب العربية كما سأوضح. وعلينا هنا أن نتذكر، إذا كانت كوبا استمرت لوحدها في أمريكا على النمط الاشتراكي التقليدي، وحافظت على شعبيته في الداخل الوطني وامتداد إشعاعه في تطور الساحة اللاتينية، رغم كل التحديات الأمريكية العدائية، التي تعتبر أمريكا الجنوبية حديقة خلفية مخصصة لها، فلا يمكن أن ننسى أن تجربة الرئيس الاشتراكي إليندي في الشيلي كانت محاولة للتوفيق بين الاختيار الليبرالي المؤسسي وبين اختيار التحرر الوطني. وعلى الرغم من فشلها الدرامي بانقلاب عسكري ديكتاتوري أمريكي الصنع،غدا هذا النمط الأكثر اتساعا واستمرارية في التجارب التحررية لبلدان أمريكا الجنوبية .

ولعل أهم فارق مجتمعي نوعي في نجاح التجربة اللاتينية في الحفاظ على حيويتها الشعبية الحزبية والتحررية،على عكس التجارب العربية(وكما قلت مرارا)أن الوعي الديني الجمعي هناك كان امتدادا لما عرفته الثقافة الديني المسيحية الغربية من تحديث وعلمنة، وأكبر بكثير ، مما كانت عليه ولا زالت الثقافة الدينية الجمعية في دائرتنا العربية الإسلامية . وإلا كيف نفسر أنهم،هناك، أنتجوا “لاهوت التحرير”، بكل ما كان فيه من شحنة أيديولوجية قوية تحديثية وتحررية، وأنتجنا نحن “لاهوت التكفير” وبما يحمل هو الآخر من شحنة أيدولوجية قوية ارتدادية ووحشية، وها هي التجربة اللاتينية التحررية اليوم تنمو وتتسع دولها في مواجهات لا حصر لها مع خطط الإمبريالية الأمريكية والغربية، والتي لا أتردد في وصفها بكل ما تعنيه كلمة الخطط التآمرية.

 

خامسا : النمط الآخر في النظام المؤسسي للدولة، يمثله اليوم، بعد الاتحاد السوفياتي ومعسكره ،التجربة الصينية والفيتنامية والكوبية وكوريا الشمالية، وغيرها من البلدان ذات أيديولوجيات مختلفة عنها ،ومنها التجربة الناصرية سابقا،والتجربة البعثية في سوريا والعراق، وسابقا أيضا تجربة اليمن الجنوبي والجزائر وليبيا الجماهيرية ،والخصوصية الإيرانية الحالية أيضا  .

هذا النمط عرف بأسماء مثل الديمقراطية الوطنية أو الديمقراطية الشعبية وحتى برأسمالية الدولة، وهي الخاصية الأكبر الجامعة بينها على الأقل في مراحل معينة.

وبعيدا عن مدى مطابقة الأصول النظرية في الاشتراكية الماركسية التي تبناها بعضها، فهذه الأصول تبقى في جميع التأويلات الحق للنظام الاشتراكي على أن نموذجها ليس سوى مرحلة انتقالية تضع السلطة السياسية والاقتصادية بيد قيادة الطبقة العاملة وحزبها مع تحالفات اجتماعية أساسا ، وسياسية إن وجد من يمثلها، ويأتي في مقدمتها الفلاحون . وفي نظام اقتصادي يعتمد أساسا على الملكية العامة لكل مؤهلات الإنتاج الكبرى، وبأفق بعيد ، يسعى عبر التخطيط العقلاني، ومع تقدم الثورة الاشتراكية في العالم، إلى تذويب الفروقات الطبقية الباقية بين مكونات الشعب ليغدو معها الحكم فعليا ومباشرا لكل الشعب في دولة اضمحل طابعها الطبقي السياسي، وصولا إلى مجتمع إنساني يلبي الهدف الأسمى في الانتقال من ” كل حسب عمله”  إلى “لكل حسب حاجته” .

وبعيدا عن هذه الشيمة النظرية العامة،فإننا نتعاطى مع تلك التجارب كوقائع تاريخية موضوعية، كيف ما كان قدر اشتقاقها من تلك الأصول العامة.

وقد أثبتت التجربة العالمية، أن تلك الشيمة العامة المتمثلة في بدئها برأسمالية الدولة لم تعد مرحلة قصيرة الزمن كما كانت في التصور الأصلي، والذي كان مرتبطا بنجاح الثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية المتقدمة. ولتراجع هذا العامل الجوهري، أضحى نموذج رأسمالية الدولة، وبقيادات سياسية واجتماعية وإيديولوجية مختلفة، خيارا للتنمية الوطنية وللتحرر من التبعية للرأسمالية العالمية، ولأمد غير منظور، ولا يفضي بالضرورة إلى نظام اشتراكي بمواصفاته الأصلية السابقة.

المفارقة الأولى التي تلفت أنظارنا في هذه التجارب أنها في مجموعها جاءت لتدارك تأخرها التاريخي بدءا من الثورة الروسية نفسها وعلى خلاف المسار الذي تطورت عليه الثورات في البلدان الرأسمالية المتقدمة، والتي كان نموذجها أنشودة الديمقراطية الليبرالية للثورة الفرنسية. بينما دشنت الثورة الروسية طريقا آخر، غير الليبرالي المبني نظريا على الفردانية والسوق الرأسمالية المفتوحة . ومن بين الدوافع الاضطرارية لذلك، في عالم صراعي وغير متكافئ بين القوميات والأوطان والطبقات والدول، وقد غدت فيه الغلبة لرأسمالية امبريالية،أن القوى المنتجة في البلدان المتأخرة لم تنجب طبقة برجوازية لها نفس المقومات التي أهلت ضرائرها في البلدان الرأسمالية المتقدمة. هذه المعضلة، وهي مجرد ظاهرة فرعية للعلاقات الإنتاجية ولصيرورة تاريخية أشمل، كانت ومازالت هي نفس الإعاقة في المراحل الراهنة للنظام العالمي النيوليبرالي القائم .إلا في القليل من البلدان الأسيوية الشرقية خصوصا، والتي استفادت نسبيا من الصراعات الجيوبوليتيكية التي يخوضها التحالف الأمريكي الغربي في مراحل معينة. وبلا تفاصيل عينية عن هذه التجارب المحدودة،والمتغيرة نسبية استفادتها بتغير الأهداف الاستراتيجية الأمريكية العالمية المرحلية، لا يغيب عنا اليوم،أن هذا الهامش أضحى أكثر ضيقا في الأزمة التي تمر منها الولايات المتحدة المهددة بتراجع قيادتها للنظام العالمي، وهذا ما يعبر عنه الرئيس المنتخب ترامب بـ “أمريكا أولا “،وببرنامجه الحابل بحرب اقتصادية في منتهى الأنانية الشوفينية وبما سيضر حتى بحلفائه الغربيين الأقربين، وهذا موضوع سنعود إليه في القادم .

 سادسا: البلدان التي ما زالت صامدة على الطريقة”السوفياتية” في الحكم ، وهي قليلة ( الصين وكوبا والفيتنام وكوريا الشمالية…) تمثل الصين بينها النموذج الناضج والمبهر، من حيث أنه في عقود قليلة سابقة، استطاع اليوم أن يحتل المرتبة الأولى عالميا في حساب الإنتاج القومي إذا ما أخذ بمعيار القدرة الشرائية، وإذا ما حسب أيضا حجم المديونية،وبالمقارنة في الحسابين مع منافسه الأمريكي .

علاوة على حجم تجارتها الدولية الذي يزداد تشعبا في جميع القارات، وهو الأكبر حتى مع أمريكا نفسها، والصين قادرة على المنافسة التكنولوجية في كافة الميادين، ومشروعها الضخم “الحزام والطريق” برهان مدهش على هذا الصعود المتسارع، والذي حافظ على نسبة نمو ما زالت هي الأعلى رغم كل أشكال الحصار للحد منه .

ومادام الشيء بالشيء يذكر، لابد أن نشدد على أنها هي نفس الميزة التي اتسمت بها سابقتها في التجربة السوفياتية. إذ كيفما كانت أحكامنا المدينة لما أصابها من استبداد وشمولية وعبادة ” شخص ستالين “، فمن العدالة التاريخية الاعتراف لها بما أنجزته في زمن قصير، بعد حصار غربي وحرب أهلية مدعومة منه، أهلكت عشرات الآلاف من البلاشفة الأوائل، والثورة مازالت في بدايتها، ناهيك عن ما أصاب قواها المادية المنتجة من أضرار بالغة أرجعتها على ضعفها إلى الوراء. ثم جاءتها حرب عالمية  قدم فيها الاتحاد السوفياتي بما لا يقاس أضخم التضحيات  البشرية والمادية ، ولولاها لما  كان الانتصار على النازية . ومع كل ذلك، استطاعت التجربة أن تنجز نقلة نوعية تنموية تحديثية غير مسبوقة، ضاهت بها توازنات البلدان الرأسمالية العريقة، أهلتها إلى قوة عظمى لها صيتها الفاعل على الصراعات العالمية. لكنها، لتحجر بيروقراطيتها الحاكمة، لم تقدر على مواصلة الطريق إلى ما هو أفضل تقدما وديمقراطية، و بما هو أقرب إلى منظورها الاشتراكي الأصلي . وما كانت البسترويكا إلا علاجا جاء متأخرا جدا، بعد أن توغل الانحلال الإيديولوجي و السياسي في شرايين الدولة ( الحزب و السوفيتات و النظام الاتحادي لقوميات الاتحاد السوفياتي)، وبعد أن صارت فئات مجتمعية واسعة متلهفة ومنجذبة الوعي والهوى للنمط الغربي الفرداني الاستهلاكي. فلم يكن بد، بعدها، أن تقهقر روسيا الاتحادية، في عهد الرئيس إلنتسن، إلى نظام رأسمالي رث، تعمه الفوضى و تتحكم فيه مافيات على أنقاض قطاعه العام المنتج، وكل التراكمات الايجابية لما قبل الانهيار. فهو إذن في مرحلته، كان انهيارا وتقهقرا و تفككا، وليس نهوضا وتقدما .

وربما كان ينبغي أيضا أن نهتم بذكر تجربة اشتراكية أخرى كانت فريدة من نوعها، ولجملة أسباب، ومن بينها، أنها تميزت مبكرا عن التجربة الستالينية السوفياتية على مستوى التأويل الإيديولوجي للنظام الاشتراكي، وبجانب تموقعها في الصراع الدولي مع ( مؤتمر باندونغ و دول عدم الانحياز). لقد حاولت أن تتبنى نظريا على الأقل، أطروحة في نظام الحكم الاشتراكي تقوم، خلافا للاتحاد السوفياتي، على تطوير دائم للديمقراطية الشعبية، وهاجسها المحرك تجنب ما وقع في الاتحاد السوفياتي، من مخاطر التيبس والجمود البيروقراطيين. وقوامها الثاني كان في اعتماد التسيير الذاتي لمؤسسات القطاع العام، وهو المحرك الأقوى للاقتصاد الوطني، ولكن مع الاحتفاظ بالمنافسة بين المؤسسات المسيرة ذاتيا ضمن ما تمليه السوق الاشتراكية. والمقومان معا، كانا تجديديين في التنظير للمرحلة الانتقالية في النظام الاشتراكي، لكن النهاية كشفت على أن هذا التجديد على المستوى العملي لم تكن تطبيقات حساباته متوافقة مع حسابات البيدر. وكانت الخاتمة، بعد موت الزعيم الروحي تيتو أشد مأساوية كما نعرف.

سابعا : بعد ما وضعنا أمام أنظارنا هذه التجارب الكبرى في الحكم غير الليبرالي، والمتبني مبدئيا الأصول الإيديولوجية الاشتراكية، يمكننا القيام بالاستخلاص التالي:

  • مع أن هذه التجارب الاشتراكية ( و لا حتى الاجتهادات الماركسية النقدية ) لم تعترف برأسمالية الدولة، كمسار تاريخي موضوعي وطويل الأمد لها ولكافة البلدان الناهضة، فإن أنظمتها في الحكم تبقى، سواء من وجهة أصولها النظرية أو من وجهة مسارها الواقعي، مرحلة انتقالية قصرت أم طالت. وتتوقف ديناميتها في النجاح والتقدم، كما تظهره التجارب الملموسة، على مدى حفاظها على اضطراد سعة حاضنتها الشعبية، وخاصة على ما تحققه لها من إنماء متواصل لمستواها المعاشي والحياتي في العمل والتعليم والصحة والسكن، وباقي أوجه الرعاية الاجتماعية الأخرى، وفي ارتباط عضوي متواصل مع بناء ” دولة الحق والقانون” باعتبارها الشرط الضروري الأولي لإنعاش و توالد كافة الحقوق الأخرى الأشمل، إذا ما تعذرت لمرحلة ما مثلا التعددية الحزبية ذات نفس الخيارات الاشتراكية المتباينة بهذا القدر أو ذاك .

وأظن أن عنصر الرقي بالمستوى المعاشي لكافة القوى الشعبية الكادحة، والمتغير دائما، مازال من المعايير الرئيسة في مخططات الدولة الصينية كنموذج أمثل، مقارنة له على سبيل المثال مع النظام الليبرالي العريق للهند الحالية، وعلى الرغم من تقدمها النسبي، وهي المتقاربة مع الصين في الكثافة السكانية الكبرى . و تعود قوة الصين و سبقها إلى الخبرة الطويلة للحزب الشيوعي ونوعية تنظيماته وحيوية علاقاته مع أعماق المجتمع الصيني، وإلى لثقافته ذات المرجعية الاشتراكية الأكثر حداثة وعلمانية، والأكثر ارتباطا اجتماعيا بالهوية الطبقية. وعلى غير التنظيم الانتخابي الفضفاض المستحدث في الهند و بمرجعيته الناقرة إيديولوجيا على نغم التميز الهندوسي في برغماتية سياسوية انتخابية. ومن المفيد أن أشير هنا إلى تصالح الدولة الصينية القائمة مع تراثها العقائدي الشعبي الكنفوشيوسي، وهو تراث أخلاقي –  اجتماعي  أكثر منه تراثا دينيا ثقيل الأصول الميتافزيقية. ولا حاجة إلى تحليل أوسع لما لهذه المصالحة في توظيف ثقافي محدد الوجهة التقدمية في أي مسار نهضوي للبلدان النامية ذات الثقل التراثي على حاضرها ومستقبلها، لكن في المقابل، والجدير بالملاحظة أيضا، لا يمكن للصين، في الصراع العالمي، أن تبقى صامتة إيديولوجيا، معتمدة فقط على ما تمكنه قوتها الاقتصادية والتجارية في الدفاع عن نظامها في الحكم وعن ما ترومه من نظام عالمي متعدد الأقطاب. فالغرب الإمبريالي في الصراع، يتكلم بجميع اللغات، بما فيها لغته الإيديولوجية الرأسمالية والليبرالية. وستجد الصين نفسها مرغمة للدفاع عن نظامها السياسي قبل كل شيء ولدرء الافتراس الإيديولوجي لمجتمعها من الداخل، أن تتخطى قولتها الشهيرة المفرطة في البرغماتية في بدايات الإصلاحات “لا يهم لون القط، المهم أن يصيد الفأر”. عدا أن التنمية الإيديولوجية، إن صح التعبير، حاجة إنسانية للرقي والتقدم ولتشبيك كافة المصالح العالمية الأخرى لصالح الشعوب الناهضة.

الوعي بالاختيار غير الليبرالي الرأسمالي على أنه طريق انتقالي لتدارك التأخر التاريخي ولإعادة بناء السيادة الوطنية الأكثر تكاملا في جميع بناها، يفترض أساسا الوعي بالمخاطر التي يحملها ويستبطنها، وأخطرها، التكلس البيروقراطي؛ وما ينجم عنه من فساد وانحلال للروابط الحيوية بين الحاكمين والمحكومين. وقد نبهت في هذه الفقرة إلى أن إنماء الرعاية الاجتماعية للدولة في جميع مفاصلها، ينبغي أن يتلازم مع إنماء أيضا لدولة الحق والقانون كشرط بدئي للحد من ذلك الخطر الداهم في أي قصور متعمد أو متغافل عنه. وفي تصوري، ثمة مدماكان لا يمكن إسقاطهما كيفما كانت تركيبة الحكم السياسية في هذه المرحلة الانتقالية: من جهة حرية الفكر النقدي والإبداع الحر، وحق المواطنين في التعبير عن آرائهم ومظالمهم. ومن جهة ثانية، حق الفئات الاجتماعية في التنظيم للدفاع عن مصالحها الاقتصادية المشتركة. ولست بحاجة إلى التذكير بأن القانون ينبغي أن يكون  فوق الجميع بالتساوي، وأن ضامنه هو قضاء مستقل ونزيه، و إلا سقطت تماما مضامين دولة الحق والقانون في مبدئها الأولي والمركزي. وبعبارة أشمل، ينبغي أن تبقى جذوة المجتمع المدني حية ومتقدة في الدفاع والتقويم النقدي لمجريات الاختيار الاشتراكي، والذي من المفترض أنه خيار الدولة ويحظى برضا المجتمع .

ولاشك أن التجربة الصينية اليوم، لصعودها المتسارع، هي محك ترقب جميع الأنظار، وهي على مرمى نيران الإمبريالية بأجمعها. علاوة على أنها، كأي مجتمع، حابلة بتناقضات داخلية، رأينا بعضها في تظاهرة ساحة بكين ( تيانانمن) وتظاهرات ( شنغهاي) بعد استعادتها للوطن الأم، وتابعنا بعضها الآخر فيما يقال بلا تضخيم إعلامي غربي عن مشكلتي التيبت والإدغور، ومازال أمام الصين طريق وعرة لتثبيت مكانتها في الصراع الدولي، وأيضا لاستكمال استعادة وحدتها الوطنية مع تايوان. ولا شك أيضا أن نجاعتها الاقتصادية الاجتماعية ومكانتها الدولية الحالية، يمدان نظامها السياسي بقدرة كبيرة على احتواء أي احتجاج داخلي، خاصة وأن نجاعتها الاقتصادية الجارية في الساحة العالمية، تزيد من الشعور بالعزة القومية لدى الطبقات الشعبية عامة، إلا أن سياسة الاحتواء غير كافية في المدى البعيد لنجاح اختيارها الاشتراكي تحديدا، وقد رأينا كيف انتهت التجربة السوفياتية واليوغسلافية وحلفاء الأولى في أوروبا الشرقية إلى الانهيار والعودة إلى نظام رأسمالي مازال أغلبه رثا ومتعثرا.

خطر التكلس البيروقراطي بكل تبعاته الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية، هو الداء السرطاني الذي يفتك بنجاح الانتقال إلى نظام اشتراكي متكامل الأوصاف، إذا ما من جهة ، تعطل نمو ” دولة الحق و القانون” كما بيناها سابقا . ومن جهة ثانية، إذا ما لم يكن الحكم ( حزب أو تحالف) على وعي جمعي بالأهداف الرئيسية لكافة الميادين في التنمية الوطنية الذاتية والمستقلة للخروج من أسوار التخلف والتبعية. وبعبارة أخرى، إذا ما كان مسار الحكم في التنمية مجرد تكتيكات و إجراءات و ردود أفعال ظرفية مقطوعة الأبعاد الاستراتيجية نحو تلك الأهداف والغايات التحررية المحددة ، أو تكون صادرة عن حكم لا يتمتع بقدر عال من التماسك الإيديولوجي والسياسي على المدى البعيد. ومن جهة ثالثة إذا لم تحتل الثقافة والتعليم مكانتهما الريادية في مواكبة التنمية الاقتصادية ولتسريع عجلاتها نحو الغاية الكبرى في الخروج من أسوار التخلف والتبعية وبناء مقومات مجتمع المعرفة. ربما تنطوي المحددات السابقة على تفسيرات قبلية لفشل محاكاة التجارب العربية لبعض سمات الحكم في الانتقال إلى النظام الاشتراكي، و هذا ما سنراه في ما بعد .

و ما دمنا نتحدث عن النموذج الصيني، كمثال يبرهن على نجاحاته إلى اليوم، فلا بأس من القول، إن من جملة ما قرأت عن التجربة الصينية كتاب لباحث أمريكي صادر عن مجلة عالم المعرفة  الكويتية، علقت في ذهني منه، شهادته على أن نظام الحكم في الصين، وهو الباحث الليبرالي الرأسمالي، أعلى فعالية من غيره في الوصول إلى أهدافه المرسومة مسبقا . و مع أنه لم يقف عند تحليل هذه الشهادة الثمينة والسريعة، يمكننا ان نستشف بمراس ذهني ما لم يفصح عنه في النجاح الاقتصادي الذي بات مسلمة لا يطالها الشك، وربما عناصرها الرئيسية هي التالية:

أولا : ما زالت الدولة في الصين هي الماسكة بتلابيب الاقتصاد الوطني، رغم كل الانفتاحات المدروسة تجاه الرأسمال الوطني والأجنبي . لكنها بقيت في جميع الحالات قادرة ماديا واقتصاديا وتشريعيا على أن تتحكم في توجيه الاقتصاد الوطني إلى أهدافه التنموية المحددة سلفا من قبلها.

ثانيا :  الحزب الشيوعي هو الذي يقود نظام الحكم ( حكومة وإدارة ومجالس محلية منتخبة بترشيح منه ومجلس وطني منبثق منها)، وهو الحزب الذي قاد معركة التحرير الوطني وبناء الدولة المستقلة، وله بالتالي خبرة طويلة وعضوية مع ثقافة المجتمع وتطلعات كافة فئاته الشعبية. والأهم من ذلك، أنه يتمتع بوحدة الرؤية الجمعية القيادية الاستراتيجية والخططية المرحلية العقلانية لإدارة دواليب الدولة والاقتصاد والمجتمع. ويمكن أن نظيف أنه لا يتورع عن محاسبة أطره ممن يخالفون توجهاته أويستهويهم الفساد والإثراء غير المشروع. و من دون أن يعني ذلك أن خطر هذه الآفة قد بات معدوما.

 

ثالثا : مجتمع أكثر تحررا من ثقل الثقافة الماضوية المتحجرة. و بالتالي، أكثر استجابة وانجذابا لضوابط ثقافة المستقبل. ومن بينها خصوصا، موروثه الأخلاقي* كما لبعض الشعوب الآسيوية الأخرى* في تقديس قيمة العمل، أكثر مما تستهويه حيل “الشطارة” في تبذير الزمن والبحث عن ترف كسول، ولذلك لا غرابة في أن تكون نسبة الادخار في الصين من أعلى النسب العالمية.

****

بعد هذه الشذرات في المسألة الديمقراطية، في نمطيها الرئيسيين، وقبل أن أعود إلى السؤال الأصلي، كيف نفسر ما وقع في سوريا، والذي سأتطرق فيه بالضرورة إلى نصيب المسألة الديمقراطية في فشل نمط الحكم في تجاربنا العربية، التي تبنت مسار التحرر الوطني من حيث المبدأ، أريد أن أختم هذه الشذرات بمثال يلخص في الجوهر ما فات ، وليكون تقديما لما سيأتي عن التجارب العربية.

 

والحقيقة أنني كلما تأملت في ما جرى في سوريا، وفي طبيعة الحكم القائم الذي انتزع السلطة لا غير، يخطر في بالي ظلال من التجربة التاريخية الأوروبية، تشبه إلى حد ما “ديمقراطية” ما يجري في سوريا، والمقصود من تلك التجربة ما حدث في فرنسا من تفويض برلماني وإسناد شعبي “للماريشال بيتان” و لحكومة فيشي تجاه الاحتلال الألماني السريع لأجزاء من فرنسا، والباقي من أراضيها كان تحت رحمة المحتل ووصايته وشروطه المذلة، وكان هذا الوضع الفرنسي المهزوم والملتبس هو ما وفر للماريشال ولحكومته مساندة شعبية وازنة استمرت رغم التعاون مع الاحتلال والتبني لبعض أفكاره الإيديولوجية العنصرية ولشروطه المذلة القمعية والمالية وغيرها، إلى أن برزت المقاومة الشعبية المسلحة والديغولية العسكرية الداعمة، و إلى أن تقوت ضد الاحتلال النازي، فما أشبه البارحة في فرنسا باليوم في سوريا .

وما يهمني في هده المقارنة الأمر التالي :  الديمقراطية البرلمانية الفرنسية في هذه الحالة، مع أنها الأكثر عمقا وتجذرا مجتمعيا في أوروبا، لم تنفع في حسم موازين القوى المادية الأخرى لدرء الاحتلال النازي السهل والمهين . إلا بعد أن استفاقت الجماهير من سكونها  ومهادنتها، وبفعل بزوغ طليعة مقاومة شعبية وعسكرية، وبعد أن تبين  صلابة إرادتها في الاستنهاض والتحرير. الديمقراطية البرلمانية هنا إذن، ليست بالعصا السحرية لحل كافة المشاكل، وهي بالتالي، إن فقدت روحها  وقيمها الرئيسية في الحرية و التقدم تغدو مجرد آلية من آليات الاستغلال والاستعمار.

و بنفس هذه الدلالة، ينبغي أن نتذكر، أن صعود النازية والفاشية في الجهة المقابلة، وبصرف النظر عن الملابسات المجتمعية التاريخية، كان عبر المرور من سلم الديمقراطية الليبرالية الانتخابية نفسها، ثم صار على أنقاضها.

وفي جميع الحالات، لمتمنع الديمقراطية الليبرالية،بما هي آليات فقط، من أن تكون مطية للاستعمار والاستغلال الطبقي ولتكريس حكم أقلية منتفعة. فالديمقراطية قيم إنسية تقدمية متطورة دوما، وليست بصنمية جديدة لآليات شكلية تكرس الاستلاب والفوات اللا إنسانيين.

 

 

 

الكاتب : محمد الحبيب طالب - بتاريخ : 18/02/2025