في معركة الانعتاق

أحمد حبشي

يتسع تاريخ المجتمعات الإسلامية لنقاش عميق استغرق ما يقارب القرنين، تباينت فيه الآراء وتعددت وجهات النظر، حول الموقع الاجتماعي للمرأة ومجال حقوقها والتمييز بين استقلاليتها والولاية عليها، وذلك منذ الاحتكاكات الأولى بالغرب الاستعماري وما حمله من تصورات ومفاهيم حول الأسرة وطبيعة علاقة مكوناتها. لقد امتد الجدل عميقا على أكثر من مستوى، لامس الكثير من الجوانب التي تصل إلى الأسس العقائدية وما رسخته الأعراف، حول موقع المرأة وحقوقها ومجال حركتها، في مجتمع اختلفت عناصره حول العديد من القضايا، واتفقت على حصر مكانة المرأة وتحديد موقعها في أسفل السلم الاجتماعي، وتشديد الوصاية عليها وجعل كل تطلعاتها في أن تكون في حماية من يضمن لها حق الاستمرار في الحياة وفق شرط الاستسلام. بالرجوع إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، حين سجلت أول حركة نسائية احتجاجية على الزامية ارتداء الحجاب بمصر، وذلك في سياق نقاش وجدل مجتمعي حول دواعي التخلف عن مسار التطور العام، الذي عرفته بعض الشعوب وما حققته من تغيير على مستوى مختلف البنيات الاجتماعية والاقتصادية في كل تجلياتها الحضارية، يتضح المسار النضالي الذي انخرطت فيه المرأة على عدة واجهات وفي أشكاله المختلفة، مدعومة بقوى سياسية تقوم اختياراتها على أساس الدعوة للمراجعة الشاملة للقيم المجتمعية، وتصحيح المفاهيم بخصوص التدبير العام للشأن المجتمعي والمؤسساتي، بما يحقق الحضور الحضاري المتميز بكل سماته العقائدية وموروثه التاريخي. حراك نسائي يحيل في صيغه المختلفة على كل محاولات إثبات الذات التي عملت المرأة من خلالها على تحسين موقعها الاجتماعي وتقوية مكانتها على أكثر من مستوى، منذ كان السعي لتقنين أوضاع النساء واخضاعها لأعراف وتصورات، تحصر موقعها وفعاليتها بما هي مكمل وتابع للسيادة المطلقة للرجل، سواء كان زوجا، ابنا أو فردا من العشيرة حتى. وقد تباينت المواقف والأهداف باختلاف الشرط التاريخي ومستوى المعاناة، نتيجة انحسار الأفق وتعدد المسارات في سياق تصورات ومفاهيم عقائدية وموروث مجتمعي محدد المعالم والأحكام.
ولإن حققت الحركة النسائية، في خضم الحركية المجتمعية بمستوياتها المختلفة، بعض المكتسبات وساهمت في تغيير بعض المفاهيم والتصورات، من خلال كل ردات الفعل العفوية والمنظمة، بما ساعد على توسيع دائرة الدعم والمؤازرة لنضالها، فإن عوائق مازالت تعيد إنتاج ذات الظواهر في صيغ مثقلة بحمولات مختلفة، تساهم في التقليل من أهمية كل ما تم تحقيقه من إنجازات في الرفع من مكانة المرأة الاجتماعية وتسليط الضوء على الأدوار، التي أنيطت بها وما تسديه من خدمات بفعالية وازنة كمكون أساسي في المنظومة المجتمعية. ولعل ما نتداوله اليوم من آراء بخصوص حقوق المرأة والسعي النضالي لتدعيم موقعها في الفعل الاجتماعي والسياسي، من خلال اعتماد الفعل المنظم للجمعيات والهيئة الحاضنة للفعل النسائي الرامي إلى تحقيق المساواة وتكريس الحقوق، يكشف حجم التعقيد الذي ظل يحاصر كل الصيغ الممكنة لخلق نوع من التوازن بين مختلف الأدوار المجتمعية، بغض النظر عن الجنس أو أي تمييز يكرس الدونية والإقصاء الممنهج الحاط من الكرامة.
إن المستوى المطروح من النقاش يؤكد فعالية كل المبادرات والخطوات الكفاحية، التي أكسبت المرأة المكانة التي تقوي حضورها الفاعل والمتميز في الدينامية المجتمعية، من أجل إحداث التوازن المطلوب في العلاقات الإنسانية في كل مظاهرها وظواهرها. يسمو النقاش اليوم إلى مستوى الحقوق الكاملة وكل ما يخص الكائن البشري بغض النظر عن جنسه ومكانته الاجتماعية، وهو تطلع كان دائما مطروحا في صيغ مختلفة، حاولت الحركات النسائية ترتيبه في صيغ تتناسب ومستوى الإمكانيات الكفاحية وما تحتاجه المعركة من مؤهلات مجتمعية وثقافية تقوى على استيعاب كل ما هو مطلوب. فإعادة طرح مختلف القضايا العالقة للتداول، يفسح المجال لتأكيد المكتسبات وترسيخها بمختلف الصيغ الكفاحية، بما يجعلها تتجاوز كل حدود الاستثناء وما يرتبط بها من معيقات أو تعويم يغرقها في الإبهام والشك.
اليوم تقف الحركة النسائية على أبواب الحسم في قضايا ظلت مبعدة من النقاش لدواعي متعددة، منها على الخصوص القضايا المرتبطة بالأهلية والحصانة الاجتماعية، المقرونة بالمقدس كما جاء في التأويلات المذهبية، أو في العرف الموروث القائم على تكريس الدونية والإلحاق بوسط يحصر الهوية بالانتساب القائم على القوامة والتحصين. لقد أصبحت الأمور أكثر وضوحا في سياق تحقيق الأولويات، وبتكريس واقع أصبحت تجلياته تحتاج إلى توثيق وتقعيد، دفعا لكل التباس أو تسخير لكل غاية لم يعد لها أساس موضوعي أو دواعي اجتماعية وإنسانية. فما عرفه المجتمع من ظواهر وإشكالات ساهمت في تعقيد العلاقات وإفراغها من كل بعد إنساني، يقوم على المساكنة بالمعروف والتطابق في الحقوق والواجبات، اعتمادا على الحق في الاختيار الحر والمسؤول، وكل ما يحقق هوية الإنسان كذات لها خصوصيات تحقق التكامل وليس التمييز أو تكريس الدونية. وبعيدا عن كل التفاصيل لتحديد مجريات الأمور، بخصوص تحديد الأولويات وتعزيز المكاسب، نرى ضرورة التأكيد على الكشف عن كل التباس أو ما يسمح بأكثر من تأويل، يبطن التكريس ويعمق التمييز. فكل فصل حقيقي بين الموروث الثقافي والمعتقد الديني، يقتضي الحسم في صيغ التناول المبهم لموقع المرأة الاجتماعي وتصنيفها وفق المعتقد الديني الذي تلفه الكثير من الملابسات على مستوى التنزيل والممارسة، وذلك باستحضار ما عرفه الواقع من تحولات وما اتسمت به التجربة الإنسانية من تطور في السلوك والعادات، التي أعادت تشكيل العلاقات المجتمعية وفق مستلزمات التطور العام الذي عرفته بنية المجتمع البشري ومتطلباته المتجددة. فلا أحد يجادل في ما عرفته مختلف البنيات الاجتماعية ومكوناتها من تحولات، سواء على مستوى الموقع والفعالية، أو على مستوى الروابط الاجتماعية. حقائق تنعكس سلبا أو إيجابا على الأشخاص والمؤسسات الاجتماعية، كما تكشف عن حجم الموانع والمعيقات في جدلية الفعل والاستيعاب.
فاعتمادا على ما راكمته الحركة النسائية من مكتسبات وما حققته من تقدم في رصد الكم الهائل، من سلبيات وحيف في التمييز المجتمعي على قاعدة اختلاف النوع البشري، يمكن التأكيد أن النقاش لا بد أن يمتد في تشعباته إلى جوهر ما يحقق المساواة الكاملة، وأن يرفع اللبس الذي طالت مدارته وتمطيط الحديث حوله بخصوص الحقوق والواجبات. فكل تصنيف يقوم على الميز وترسيخ الاستثناءات، أصبح أكبر معيق للتوازن المجتمعي، إنسانيا وعلى قاعدة المساكنة وترسيخ شروط العيش الكريم. فالدعوة للنقاش وفتح المجال للمساجلة حول كل ملابسات النصوص قصد التدقيق في صدقيتها ومداها الإنساني، لابد أن يفضي في خلاصاته إلى تجاوز كل باطل قائم على تأويلات ونزوع يكرس هيمنة أحد الأطراف في بنية مجتمعية مشتركة، تغير الكثير من مقومات تشكلها، وتفتح آفاقا للعيش المشترك القائم على المساواة في الحقوق والواجبات.

الكاتب : أحمد حبشي - بتاريخ : 26/04/2024

التعليقات مغلقة.