مؤسسة اقرأ بابن أحمد… وسام اعتراف وطني ودولي في تعزيز ثقافة القراءة

حبيل رشيد
الريادة ليست لقباً عابراً، ولا جائزة تُعلّق في واجهةٍ ثم تنزوي مع الزمن… الريادة عبء معرفي ثقيل، يقتضي استعداداً داخلياً للاستمرار، وانتصاباً شامخاً في وجه التحديات، ومكابدة طويلة في محراب التعليم والتنوير… وحين يلتفت العالم، عبر مؤسساته الأممية، اعترافاً واحتفاءً إلى مؤسسة تربوية بعينها، فذلك يعني أن مسارها لم يكن عارضاً، بل كان بناءً متيناً، ورحلة تأصيلية في فن التربية وحكمة التعليم…
لقد كان حضور مجموعة مدارس اقرأ في لقاء اليونسكو، بالتعاون مع مؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية، مناسبةً لتظهير هذا المعنى العميق، لأن الأمر لم يكن محض مشاركة اسمية، ولا بروتوكولاً شرفياً عابراً، وإنما اصطفاء واعٍ يضع المؤسسة في مصاف الكيانات القليلة التي تستحق أن تُنصت إليها الأصوات، وأن يُنظر إلى تجربتها كإضافة حقيقية في تاريخ مبادرة تحدي القراءة العربي… إن المشاركة بتلك الهيئة تضع مسؤولية الريادة فوق أكتاف المؤسسة، فتغدو الخطوة اعترافاً وطنياً ودولياً في آن، وتجعل من مسيرة المدرسة برهاناً على أن المغرب حاضر بفعالية ضمن هذا المحفل الأممي المرموق…
لقد كان اختيارها، وسط سبع مؤسسات مغربية فقط، دلالة على حذق نوعيّ في النظر إلى المنجز التربوي، فهي ليست تكراراً للمدارس التقليدية ولا نسخة مطابقة لمؤسسات عابرة، بل هي فضاء يتصادى فيه الفكر مع القيم، واللغة مع الهوية، والمنهج مع الابتكار… والريادة التي صارت قرينة باسمها لم تكن لتنغرس لو لم يكن وراءها مشروع تربوي مؤسس على صرامة علمية وجرأة بيداغوجية وعمق ثقافي…
إن القراءة التي تُعتبر لُبّ فلسفة المؤسسة ليست مجرد وظيفة جانبية في برامجها، بل هي الروح التي تحرّك الدماء في شرايين وجودها… لذلك لم يكن غريباً أن يُنظر إليها بوصفها مدرسة قارئة، تَسهر على أن يتحول فعل التعلّم إلى ذائقة معرفية، وأن تصير النصوصُ فسحاتٍ للتحرر، وأن يُصبح الكتاب رفيقاً لا ينفصل عن أعماق التلميذ… لأن القراءة هنا ليست تراكماً ميكانيكياً للكلمات، وإنما هي؛ في جوهرها؛ بناءٌ للذات وتحريرٌ للفكر ومجاوزةٌ للسطحية نحو الغور العميق… ولهذا فإن أثر تحدي القراءة العربي في هذه المؤسسة لم يكن زخماً موسمياً، بل نسغاً يومياً متدفقاً، فأضحى المنجز شاهداً على تحوّل القراءة إلى ثقافة جماعية ومناخٍ تعليمي شامل…
المشهد الذي احتضنته قاعات اليونسكو لم يكن اعتيادياً… فضاء يُهيمن فيه الوقار المؤسسي، وتتقابل فيه العقول من مشارق الأرض ومغاربها، وتُعرض فيه التجارب بصرامة المنهج وحنكة التحليل… وفي ذلك المقام احتلت مجموعة مدارس اقرأ المكانة التي تليق بها، مشرئبة برؤيتها، ناطقة بلسان الوطن، مبرزة أن المدرسة المغربية ليست في الصفوف الخلفية، بل قادرة على أن تقف شامخةً بين المراجع التربوية الكبرى… هناك امتزجت الاعتزازات الوطنية بالرهانات العالمية، وانفتحت التجربة المحلية على الفضاء الكوني الرحب، وتحوّل اسم المدرسة إلى رمز مصغر لبلد بأسره…
حين نتأمل مغزى هذا التتويج ندرك أن الأمر ليس قراراً تقنياً يتعلق بتأشير دعوة أو تمرير اقتراح… بل هو تتويج لمسار طويل من الاجتهاد، وتصديق على أن الاستراتيجية التي اتبعتها المؤسسة في التركيز على القراءة لم تكن عبثية، بل كانت تعبيراً عن وعيٍ استباقي بأن مستقبل الأمم مرتهن بقدرتها على صناعة المواطن القارئ… وهنا تغدو الفلسفة التربوية أداة استشراف وليست فقط وسيلة تلقين…
لقد ظلّت مدارس اقرأ تؤمن بأن التعليم بلا قراءة مجرد جدار أملس لا يعكس شيئاً… وأن القراءة بلا مؤسسة راعية لا تدوم ولا تتحوّل إلى تقليد أصيل… ومن هنا جاء تموقعها المتميز، إذ شيدت جسوراً متينة بين القيم الوطنية والآفاق العالمية، وخلقت فضاءً يمكّن التلميذ من أن يتجذر في أصالته ويحلّق في الآن نفسه بمحاذاة الطموح الكوني… وهذا التناقض الظاهري بين المحلية والعالمية يذوب في فلسفة «اقرأ» ليتحوّل إلى جدلية مُبدعة تجعل منها شجرة جذورها في المغرب وأغصانها تعانق سماء العالم…
إن ما أبانت عنه مشاركة المؤسسة في هذا اللقاء لم يكن عرضاً معلوماتياً كما اعتاد الحضور في بعض الفعاليات… بل كان بياناً تربوياً له ما يسنده من منجز فعلي وأثر ملموس… خطابها هناك لم يكن زينة لفظية، بل حجج مترابطة؛ إذ قدمت الرؤية مدعومة بالمعطيات، وعرضت التجربة مؤطرة بالممارسات، وأكدت أن فعل القراءة فيها لم يظل شعاراً يُرفع بل مشروعاً يتجدد ويترسخ… ولهذا فقد أبهرت الحاضرين بما حملته من زخم تربوي، حتى بدا وكأن المؤسسة تختصر تجربة وطن طويل في محراب صغير…
إن الاعتراف الدولي له سلطة رمزية تفوق ما يُتصور… فهو ليس مجرد خبر يذاع في الصحف أو إشادة تُكتب في تقارير المؤسسات، بل هو دليل على أنّ التجربة استطاعت أن تدخل في ذاكرة النظام التربوي الأممي، وأن تُسجّل في أرشيف المقارنات الكبرى، وأن يُعترف بها كإضافة تستحق الإصغاء إليها… وهذا الاعتراف يعادل في مغزاه شهادات أكاديمية وميدانية معاً، لأنه يُقَدَّم من طرف مؤسسة مرجعية ذات سلطة معرفية وأخلاقية كهيئة اليونسكو… ولأن التحدي الذي يتعلّق بالقراءة هو أحد أعظم التحديات التي تواجه العالم العربي بما يعيشه من تحولات ثقافية ومعرفية تحتاج إلى جسور راسخة، فإن مساهمة «اقرأ» جاءت لتجسد المعنى الواقعي لكيفية تعزيز القراءة والسمو بها إلى ممارسة جماعية…
قد يتساءل المرء: ما الذي يجعل مؤسسة تعليمية مخصوصة تحظى بهذا الاعتراف وتتبوأ موقع الريادة؟ والجواب كامن في جملة من الأسباب المتضافرة: أولها وعيُها بأن التربية ليست مجرد عملية نقلٍ للمعرفة، بل هي بناءٌ للعقل والقيم، وصياغة للوجدان، وإعادة تشكيل للهوية ضمن نسق مستقبلي… وثانيها شجاعتها في جعل القراءة محوراً مركزياً في استراتيجيتها، إذ لم تتردد في جعل الكتاب مركز الفعل التربوي، وهو أمر قد يظنه البعض بسيطاً لكنه في الواقع قرار استراتيجي يعكس أصالة ووعي مستقبلي… أما ثالث الأسباب فيتمثل في قدرتها على إحداث التكامل بين الفضاء المحلي للمؤسسة والفضاء الوطني والدولي، أي جعل المدرسة فضاءً مفتوحاً على الأسرة والمجتمع والدولة والعالم في آن واحد…
ومن خلال ذلك كله تُدرك المؤسسة أن الريادة امتحان يومي… إذ لا يُقاس التميز باللحظة العابرة بل بقدرة التجربة على أن تتجدد دون أن تفقد أصالتها، وأن تستمر في رفع مستوى تلاميذها دون أن تنغلق على ذاتها… ومن هنا فإن مشاركة «اقرأ» في هذا المحفل العالمي ليست نهاية المطاف، ولكنها بداية لمسار أصعب، مسار المداومة على الابتكار، وضمان الاستمرارية في رفع مشعل القراءة، وتحويل الفعل القرائي إلى عادة لصيقة بالناشئة…
المدرسة التي استطاعت أن تبلغ هذا المقام تعلم يقيناً أن التربية ليست عملية تقنية محكومة بجداول زمنية ومقررات نصية فحسب… إنها بناء إنساني شامل، يصوغ العقل، ويهذب الروح، ويُنمّي الذوق… ومن دون القراءة يفقد هذا البناء روحه، ومن دون التزام مؤسسي لفعل القراءة يبقى هذا المطمح شعاراً… لذلك فإن رسالة «اقرأ» أعمق من أن تُحصر في نشاط موسمي أو في نتائج امتحانات، بل هي إرادة لتكريس القراءة كقيمة وجودية…
والاعتراف الوطني والدولي يجعل المؤسسة في مقام القدوة، والقدوة تستدعي قيادة، والقيادة تستدعي حمل أعباء… وهذا هو جوهر الريادة كما عبرنا منذ البدء: أن تكون على وعي بأن كل خطوة إلى الأمام تقتضي جهداً أكبر، وأن كل إشادة دولية تُلزمك بمعايير أعلى، وأن كل نجاح يفتح أبواب امتحانات جديدة…
فوق ذلك كله، فإن المؤسسة تدرك أن رسالتها ليست محصورة في تلبية حاجات تلاميذها المباشرين، بل في الانخراط داخل مشروع وطني يجعل من القراءة قاعدة بناء شامل للأمة، ففي التلميذ الفردي تكمن معاني الأمة كلها، وبغرس القيم لدى الطفل يُصاغ الغد برمته… وعندما يصير هذا الوعي جزءاً من ممارسات المدرسة اليومية، تتحول المؤسسة إلى فضاء حضاري، وإلى رمز ثقافي، وإلى صوتٍ يُسمع في العالم…
إن قصة اقرأ ليست مجرد حكاية نجاح مدرسي، بل هي نصّ رمزي لتجربة وطنية تُثبت للعالم أن المغرب، بهويته ولغاته وتاريخه، قادر على أن يسهم في نهضة القراءة العالمية، وقادر على أن يجعل من مؤسساته التعليمية جسوراً للتواصل بين الثقافات… وهذا هو جوهر الحضور في اليونسكو: أن نُسهم في كتابة السياسات الكبرى، وأن نكون طرفاً في المخاض الأممي، وأن نبرهن بأننا قادرون على التعبير عن أنفسنا ليس فقط كلغة بل كثقافة وممارسة…
وحين نعيد قراءة التجربة نجد أن اللحظة التي مثلت فيها «اقرأ» المغرب، تساوي في رمزيتها مجلداً من الكلمات، إذ هي لحظةٌ يُشهد فيها على أن العمل المؤسسي إذا كان صادقاً ممتداً متجذراً، فإنه لا بد أن يُثمر ريادة ويُلفت الانتباه الأممي… هو درسٌ في أن القرارات لا تُصنع من فراغ، بل من جدوى مستمرة، ومن تضحيات يومية، ومن عزيمة مؤسساتية تؤمن أن الكتاب ليس ترفاً بل مصيراً… ومن هنا فإن قصة اقرأ هي قصة الوطن وهو يستعيد لنفسه المكانة اللائقة، وهي في العمق درس للأجيال كلها بأن الريادة قيمتها العليا ليست في ما يُكتب عنك، بل في ما تكتبه أنت كل يوم بمداد إرادتك وعزمك في عقول الناشئة…
… وسيبقى هذا الاعتراف آية على أنّ مدرسة واحدة قد تحمل في وجدانها هموم وطن بأكمله، وتترجم في خطابها صوت أمة بأسرها، وتجعل من نفسها مختبراً لإرادة جماعية تسعى إلى صناعة حضارة تُبنى على العقل والقراءة والمعرفة…
… وسيبقى الحلم ممتداً، لأن الريادة لا تُؤرخ في سطر ولا تنتهي بقرار، بل تمتد عبر الأجيال، وتسكن في الممارسة، وتتشكل في الخطاب وتتجدد في كل لقاء دولي، وفي كل كتاب يُفتح، وفي كل متعلم يتذوق حلاوة النصوص…
… وسيبقى المشروع قائماً في جوهر الرسالة، رسالة تكوين إنسان قارئ، مبدع، ومواطِن، لا يتنصل من قيمه، ولا ينغلق عن عصره، بل يمدّ الجذور عميقاً ويشدّ الأغصان عالياً، ليجعل من ذاته فرداً فاعلاً في بناء الوطن، ومن الوطن عضواً فاعلاً في بناء العالم…
الكاتب : حبيل رشيد - بتاريخ : 09/10/2025