محمد بنعيسى: عاشق أصيلة المتيم وخادم الثقافة الشغوف وفارس الدبلوماسية المحنك

عبد الصمد بن شريف
بسرعة قياسية، انتشر خبر وفاة محمد بنعيسى، وزير الخارجية والثقافة وسفير المغرب السابق في واشنطن، والأمين العام لمنتدى مدينة أصيلة عن 88 عاما. تناسلت الأسئلة وتعددت عن واحد من عمالقة الفعل الثقافي في المغرب، وخبير محنك في نسج العلاقات العابرة للقارات. اجتهدت المخيلات والأقلام في سرد حكايات وتفاصيل عن أحد الوجوه الأساسية للدبلوماسية الرسمية والثقافية، والذي استطاع أن يجترح معجزة استثنائية، بتوظيف الخيال والثقافة والإبداع وتحويلهما إلى مورد للتنمية، عندما حول مدينته الصغيرة إلى منتدى عالمي لحوار الثقافات والحضارات. والتناظر في القضايا الكبيرة والاستراتيجية والمصيرية، في عالم يتغير باستمرار، ويتحول بإيقاع مدهش. وكيفما كانت مشاعر التقدير والإشادة بمناقب وصفات الراحل، فإن المؤكد أن رجلا من العيار الثقيل غاب عن الساحة الثقافية المغربية والعربية والإفريقية والدولية، وعن مدينته أصيلة التي فقدت فيه ابنا بارا تسلح بالصبر والشغف والإرادة والحلم، دفاعا عن حقها في التنمية والإشعاع والتميز، وسعى بكل الوسائل، إلى زرع قيم راقية، كانت دليلا على دماثة خلقه وتواضعه وبساطته، وعمق إنسانيته، وامتداد علاقاته في مختلف أنحاء العالم.
حاز محمد بنعيسى من الصفات الإنسانية والمؤهلات الفكرية ما أهله ليفرض احترام الجميع، وينسج علاقات وطيدة مع مفكرين وخبراء ووزراء وفنانين، ينتمون إلى مرجعيات فكرية وسياسية متباينة، فتوحدت المواقف والألوان الإيديولوجية في تقييم ما قام به من عمل ثقافي، يعترف بفعاليته ونجاعته اليمين واليسار والوسط، لأنه كان كبيرا وفريدا وحالما بلا حدود، ومبدعا خلاقا آمن بالفكرة فحولها إلى مشروع، سرعان ما انعكس تنمية وتأهيلا لمدينته وتطويرا للخدمات فيها وتحسينا لشروط عيش ساكنتها. المؤسف هو أن الكبار لا يتكرّرون، ولا يعوضهم أحد، وهنا الخسارة المطلقة، لأن قبيلة المثقفين داخل المغرب وخارجه وكذا الدولة المغربية سيفتقدونه في اللحظات الصعبة، حيث الحاجة ماسّة إلى الحكمة والإنصات والرؤية البعيدة، التي تقرأ الأحداث والسياقات وتجترح المقاربة الأفضل والأقدر. وهو الذي كان مرجعا في هذا الميدان، وكان النموذج والمثال، فلطالما أظهر انتصاره لقيم التسامح والانفتاح والاختلاف البناء والأخلاق والفضيلة ونكران الذات، وبقي ملتزما بهذه القيم والخصال، إلى أن رحل. علما أن هاجسه الأبدي كان الدفاع عن سمو الفكر والثقافة ومناهضة الإقصاء، واعتبار الخلاف مع الخصوم فكرياً، هو مصدر ثراء وتنوع وخصوبة.
فهو على الرغم من انسحابه من معترك السياسة بمعناها الاحترافي، وعدم تحمله أية مسؤولية قيادية في حزب التجمع الوطني للأحرار في وقت سابق، أو حزب الأصالة والمعاصرة الذي انتمى إليه سنة 2021 ودخل مجلس المستشارين بلون وقبعة هذا الحزب، فقد ظل متابعا نبيها ومراقبا يقظا للأحداث السياسية ومفككا ذكيا للأوضاع في شتى مناحيها. وتبعا لذلك كان يستخلص العبر والدروس، ويستلهمها لتحقيق نتائج إيجابية تنمويا وثقافيا، مستندا في ذلك إلى مساره المهني المركب، وتجربة غنية بكل المقاييس. وإلى سلطة رمزية صنعت منه مرجعا في الصناعة والسياحة الثقافية. علما أنه ظل عمدة لمدينته لعدة عقود، احتك خلالها عن قرب وكثب بالناس. والتقط مشاكلهم، وأدرك انشغالاتهم. وهو الذي كان يؤمن بأن من يريد خدمة مدينته، يتوجب عليه أن لا يطل عليهم من برج عاجي أو من شرفة بعيدة.
وكان لافتا أن شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية، ضجت بمئات التدوينات وعشرات المقالات، لمثقفين ومفكرين وسياسيين وإعلاميين وفنانين ومواطنين عاديين، والذين عبروا عن حزنهم جراء فقدان المغرب هرماً ثقافيا ودبلوماسيا وإعلامياً. كما رصدت هذه التدوينات والمقالات أطواراً مهمة، ومراحل متداخلة ومحطات أساسية من حياته ومساره المهني. ويعكس هذا الاهتمام النادر والاستثنائي، من طرف شرائح واسعة من المغاربة وأصدقاء الراحل في شتى القارات، المكانة الرفيعة التي كان يحظى بها، كما يترجم هذا الاهتمام التقدير الكبير الذي ناله عن جدارة واستحقاق.
في مختلف ملتقيات منتدى أصيلة كان محمد بنعيسى يتحوّل فيها إلى بؤرة مركزية ونجم يغطي على الحدث الذي يأتي للمشاركة في صنعه أو تنشيطه، أو المساهمة في إضفاء مسحة من الجاذبية عليه من خلال حضوره. وبلغةٍ أدق كان يخطف الأضواء، ويجعل الكل يلتفت إليه بعفوية وتلقائية ودون تكلف. كان الرجل في الجلسات الفكرية أو الحميمية في منزله الذي يقع في قلب المدينة القديمة لأصيلة، أشبه بقطعة مغناطيسية، لها قوة الجذب والتأثير، فالابتسامة الدالة على الثقة في النفس لا تفارقه، والجسد يمشي بخطوات واثقة ومتزنة على الرغم من التقدّم في العمر، والتفاعل مع الناس كان من سماته وصفاته. ظلت ذاكرته متقدة. والاهتمام بالهندام والمظهر الأنيق لا تنازل عنهما، وعندما يحضر الرصيد الثقافي والإعلامي والأخلاقي، ويتضافر مع الصفات التي سبقت الإشارة إليها، ينحت من هذه المكونات، صورة شخص يملك سلطة الكاريزما وقوة العقل، والقدرة على الإحراج والاستفزاز الإيجابي، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمبادرات الثقافية الخلاقة والمشاريع التنموية التي تهم الإنسان والمجال.
كانت ولادة موسم أصيلة الثقافي صعبة ومؤلمة. فقد انبثق هذا المشروع وسط تجاذبات سياسية حادة، ويحكي بنعيسى أنه بعد أن سافر وتجول ودرس واشتغل في أكثر من مؤسسة، في الأمم المتحدة وفي منظمة الأغذية والزراعة، عاد إلى مدينته فوجدها في وضعية متردية على كل المستويات، ومع الفنان الراحل محمد المليحي رفيق دربه، طرحا أسئلة وجيهة على نفسيهما، ماذا يمكن أن نفعل لصالح مدينة أصيلة؟ لقد اقتنعا بأنه آن الأوان ليحققا شيئا لهذه المدينة. لكن كيف؟ اقترح عليه المليحي الترشح للانتخابات المحلية سنة 1976، ورغم أنه لم يفكر أبدا في الانخراط في الشأن السياسي، فقد ترشحا ونجحا معا، وفي سنة 1977 طلب منه الأصدقاء والمعارف أن يترشح للانتخابات التشريعية، وفضل أن يتقدم مستقلا دون لون حزبي معين، وفاز، وعندها تساءل مع المليحي عن الآلية التي يمكن بها إنقاذ أصيلة، فاستقر الرأي على تأسيس جمعية المحيط سنة 1978، وهكذا انطلق القطار، الغاية كانت كيف يمكن تحفيز الدولة والمجتمع والمنظمات لتحسين الأوضاع، وهل في الإمكان توظيف الخيال والثقافة والإبداع كمورد مثله مثل الفوسفاط والنفط للنهوض بالمدينة وتنميتها ؟
ومن علامات التميز المبكر أن محمد بنعيسى استطاع أن يجمع سنة 1979 في مكان واحد بين محمود درويش وأدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي ليتحدثوا عن تجاربهم وشعرهم وإبداعهم بكل حرية وعفوية ودون طابوهات. كانت أصيلة تتلمس الطريق. وكانت أطياف اليسار المغربي ترى في مهرجانها تجمعا للثقافة الرجعية أو المخزنية التي ترعاها الدولة. وكان سلاح بنعيسى في مغامرته المجنونة بالمعنى الإبداعي، الصبر والثبات ودعم قوي من طرف المؤسسة الملكية. وخلال أكثر من أربعين سنة أنتج موسم أصيلة جيلا بكامله تربى في أحضان الفن والثقافة والحوار والانفتاح على الآخر.
في مختلف حواراته وجلساته كشف الراحل محمد بنعيسى أن الملك محمد السادس زار موسم أصيلة عندما كان عمره 15 سنة وهو آنذاك وليا للعهد. كان ذلك سنة 1978. في هذه المرحلة كان موسم أصيلة عرضة لهجومات أيديولوجية لأن السياق كان مطبوعا بالحرب الباردة. فقد جوبه بشراسة من قبل قوى اليسار في المغرب. وظلت هذه القوى تقاطع الموسم في مختلف دوراته، إلى أن وصل حزب الاتحاد الاشتراكي إلى السلطة في إطار ما سمي بحكومة التناوب التوافقي، لكن الملك الراحل الحسن الثاني تفهم أهمية العمل الذي كان يتحقق على الأرض، ووفر الضمانة التي حمت بنعيسى وفريقه من السقوط والتراجع أمام جحافل الحروب الأيديولوجية. اليوم كل شيء تغير، لأن مواقف الماضي كانت تبنى على عدم إدراك قيمة وأهمية ما كان يقوم به محمد بنعيسى. كان مثقفو اليسار يعتبرون وقتئذ أن كل عمل يخرج إلى الوجود دون أن يكون صادرا عنهم، وراءه جهة ما وينطوي على مقاصد وأهداف ملتبسة، فكانوا يختزلون المثقف في الرفض ومناهضة أي مبادرة تتعارض مع منطلقاتهم وأفكارهم، لكن بنعيسى ورفاقه صمدوا وصبروا وكانت لهم قراءة أخرى ورؤية استشرافية، ثبت على مر السنوات أنها كانت سديدة وواقعية وبراغماتية في نفس الوقت. وحتى اتحاد كتاب المغرب كمؤسسة وطنية، كان يقاطع الموسم لاعتبارات أيضا أيديولوجية، لكن عددا من أعضائه طفقوا يشاركون في الموسم ابتداء من منتصف الثمانينيات، خاصة لما لاحظوا قيمة ما يناقش، وحجم ووزن الأسماء الكبيرة التي كانت تحج إلى أصيلة، وكشف بنعيسى كذلك، أن الملك الراحل الحسن الثاني حرص على أن تظل أصيلة منبرا حرا، وهذا ما قاله له في لقاء بمنتجع إفران. وكان آنئذ برلمانيا يمثل المدينة، وزاد أن الحسن الثاني، لم يسأله ولو مرة واحدة عن هوية الأسماء المشاركة، بل كان يعتبر الموسم عملا رائدا، يعكس مغربا جديدا ويرسخ تقاليد ثقافية جديدة، ويشيد منارة يلتقي حولها المفكرون والمبدعون من إفريقيا والعالم العربي وأمريكا اللاتينية، ونفس الموقف تبناه الملك محمد السادس، الذي ظل دائما من المدعمين والمعجبين بالموسم، بل تولى خلال سنوات عدة الرئاسة الشرفية له عندما كان وليا للعهد .
بعد أكثر من أربعة عقود أصبح موسم أصيلة منصة دولية للنقاش الفكري والثقافي والسياسي والاستراتيجي والفني وتكريم المبدعين ومنح الجوائز وتحفيز الطاقات والاهتمام بالمجتمع المدني المحلي وتتويج المتميزين فيه، ومدينة أصيلة عرفت تحولات كبيرة وإنجازات مهمة، خاصة ما يتعلق بالبنيات التحتية والخدمات. لضمان كرامة المواطن دون بذخ ووفق مقاربة فيها الكثير من التقشف الصوفي كي يكبر أبناؤها على هذا المنهاج، كما كان يريد الراحل محمد بنعيسى .
في برقية التعزية والمواساة التي بعث بها الملك محمد السادس إلى أسرة الفقيد محمد بنعيسى تم التأكيد على المكانة التي كان يحتلها الراحل لدى المؤسسة الملكية ومختلف مكونات الدولة، حيث أكد الملك على أنه رغم أن الموت غيب محمد بنعيسى، فسيظل أثره حيا كرجل دولة مقتدر ودبلوماسي محنك، أبان عن كفاءة عالية في مختلف المناصب السامية التي تقلدها، بكل تفان وإخلاص، سواء كوزير للثقافة، أو وزير للشؤون الخارجية والتعاون، أو كسفير بواشنطن، أو كمنتخب برلماني وجماعي، واستحضر الملك في برقيته، بكثير من التقدير، ما كان يتحلى به محمد بنعيسى من خصال إنسانية رفيعة، ومن سعة الأفق والفكر وشغف بالثقافة، إذ أخذ على عاتقه همّ الإشعاع الثقافي والفني لمدينة أصيلة، مسقط رأسه، التي سخر نشاطه وجهوده في خدمة تنميتها، وفرض إشعاعها الثقافي والجمالي وطنيا ودوليا، لا سيما من خلال تأسيسه وتسييره لمؤسسة “منتدى أصيلة”، مجسدا بذلك مثالا يحتذى على الأخذ الصادق بمفهوم المواطنة المسؤولة.
هكذا إذن، أصبحت أصيلة الآن ملتقى مهما للعرب والأفارقة وعدد من الأوربيين يتحدثون بدون قيود ويعبرون عن آرائهم بكل حرية. فقط هناك خطوط وضعت من طرف المنتدى. وهي ذات طبيعة أخلاقية. أن لا تتحول اللقاءات الفكرية إلى محاكم. ولا يمكن قبول أن يكون هناك تهجم. وهذا فيه درس أيضا للأجيال الصاعدة، التي يجب أن نزرع فيها فضيلة الحوار والاختلاف دون تشنج. وأن نجعل من العمل الثقافي، مصدرا لتعزيز الثقة في النفس. من منطلق أن الثقافة هي نظام مناعة قوي وفعال. لقد تحولت أصيلة بعد عقود من العمل الثقافي المتواصل والمواطن، إلى منتجع ووجهة سياحية وثقافية عالمية. تطورت المدينة وتطورت العلاقات والسلوكيات، لكن ما كان يربك محمد بنعيسى قبل رحيله، هو ماذا بعد؟ هل هناك خلف؟ فالموسم يكلف الملايين ولابد من الإرادة والتضحية والعمل الجاد والمستمر، كان يأمل قبل رحيله، في أن يستمر الشباب الصاعد في حمل المشعل ومواصلة المسيرة، ليس بالضرورة بنفس الطريقة والرؤية والمقاربة، لكن كل من سيقود حركة ثقافية من هذا الحجم، لابد أن يشارك هموم الناس وأحلامهم وتطلعاتهم، أي أن يعيش بينهم وينصت إليهم، فالعمل الثقافي كان بالنسبة للراحل، مسألة ضرورية لتنمية الإنسان والمدينة والبيئة. كان الراحل يؤمن بعمق أن المشاريع الثقافية مثل حياة الإنسان لا تكتمل، أكيد حقق بمعية فريقه الكثير من الأشياء، وساهم في إحداث تحول جوهري في المدينة، ومع ذلك وبكل تواضع لا يدعي أن مشروعه الثقافي والجمالي والفكري وصل إلى الكمال، فهذا بالنسبة له غير وارد وغير مستساغ، ويبقى أن ما يميز منتدى أصيلة في صيغته الحالية، وهو العامل الذي ربما سيضمن له الاستمرارية -خاصة وأنه أصبح مؤسسة كاملة الأركان والبنيات-هو اعتماده على شبكة قوية من العلاقات ومن الأصدقاء ممتدة في مختلف أنحاء العالم. فهؤلاء وهم مزيج من الوزراء السابقين والخبراء والمفكرين والمبدعين والفنانين والقادة السياسيين، يقدمون المشورة ويقترحون القضايا التي يجب أن تطرح للنقاش. والمنتدى يختار المشاركين بناء على درايتهم وإلمامهم ومعرفتهم العميقة بالموضوع المطروح للنقاش. علما أن الراحل بنعيسى حرص على أن تكون ندوات الموسم مرتبطة بالواقع، ولها علاقة بالراهن سواء في العالم العربي أو إفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو الغرب. كما راهن المنتدى بناء على رؤية استراتيجية مدروسة ومفكر فيها،على ترسيخ وتقوية الحوار جنوب-جنوب، من منطلق أن أمن المغرب الثقافي والتجاري والاقتصادي لن يكون إلا جنوبيا…
نشر في موقع العربي الجديد
الكاتب : عبد الصمد بن شريف - بتاريخ : 07/03/2025