مخاطر سطحية وسذاجة التفكير المجتمعي

الحسين بوخرطة

لقد عبرت مجريات التاريخ أن فترات تسلط السذاجة والبساطة على تفكير مجتمع ما لا يترتب عنها إلا ترعرع نزعات العنف وهدر الوقت وضياعه سدى، وسيطرة الحقائق والبديهيات السطحية، وضعف النتائج النفعية للروح الجماعية. وأنا أتابع ما تخلل المشهد السياسي المغربي، في تعاطيه مؤسساتيا مع وباء الكورونا المستجد، من خطابات رجعية روجت لفكرة محاربة الدين مؤسساتيا، مشككة في قرارات الدولة للحد من انتشار هذه الجائحة، خصوصا قرار إغلاق المساجد وأماكن العبادة الجماعية، وما أثارته من ردود الفعل، خيم على مخيلتي سؤال محير في شأن حماية المجتمع من نفاذ «الحقائق» السطحية والساذجة إلى روحه. لقد انتابني انطباع، وأنا أتابع عدد من ردود الفعل، الإعلامية على الخصوص، وكأن نتائج محاولات المواجهة، لم تكن في خدمة الهدف المطلوب، نظرا لما أعطته من قيمة لرواد الفتنة، ولما يمكن أن تحدثه من تشنجات ونتائج معكوسة جراء سهولة كسب عطف جمهور معين من خلال تصنيف المنتقدين العقلانيين في خانة العلمانيين المعادين للدين، ومهاجمتهم بعبارات لا تخدم إلا مصالح رواد التقليدانية.
إن الاعتراف باستمرار تسلط الحقائق السطحية والساذجة على الروح الجماعية ببلادنا وسهولة نفاذها إلى العقول الأفراد والجماعات، يجب أن يشكل بالنسبة لنا فرضية تستوجب البحث العميق، الذي يجب أن يمكن من الوقوف عن الأسباب الموضوعية لهذه الظاهرة، وأن يدفع إلى التفكير في الحلول والاستراتيجيات الناجعة لخلق رأي عام عارف يعقلن النقاش داخل المجتمع. كما أن سهولة هذا النفاذ واستغلاله من طرف الأقليات، يطرح كذلك فرضية ضعف التعامل التاريخي لمجتمعنا الحالي مع الحقائق العقلانية لتاريخ الأجيال السابقة. من المفروض أن تشكل التطورات الوطنية والدولية، التي عرفها المغرب منذ الاستقلال، رصيدا ثقافيا وسياسيا يضفي المصداقية والنجاعة على السياسات العمومية لسنوات ما بعد تسعينات القرن الماضي. فالضمير الجمعي للمغاربة، وهم يعيشون السنة الأولى من العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين، يجب أن يكون اليوم مستنبطا وواعيا بالشكل الكافي كون الحقيقة اليقينية ليست مرتبطة بزمن دون آخر، وأن حقائق الحاضر ليست هي حقائق الماضي، وليست منفصلة عنها تماما. لقد تبين أن جهود مسار تحقيق التراكمات، في مختلف المجالات في هذه الفترة بالذات، لم تستحضر ضرورة تمحيص حقائق المغرب التقليدي ما قبل الحماية، وويلات فترة احتلاله، وحقائق عقود الاستقلال. لم يتم إعداد أجيال الحاضر لتقوية قدرتهم على قراءة الحقائق العقلانية لتاريخ بلادهم الزاخر بالدروس والعبر، والتفكير في تطويرها، متسلحين بمناهج فلسفة التاريخ وتاريخانية الأحداث المتعاقبة، ومهووسين بحرص شديد بتحقيق جودة حقائق المستقبل بمنهجية ومنطق تقدمي يعقلن التعاطي مع الماضي وتطورات الحاضر وتطلعات المستقبل. فالتسليم بطغيان السطحية في الفعل المجتمعي لا يمكن أن يكون مرده إلا كون أجيال اليوم قد فرض عليها إهمال أو طمس حقائق الماضي القريب، ولم يتم تنشئتها على قياس المحسوسات والمعقولات التي تخيم على ذواتهم وعقولهم ليل نهار بفعل سهولة الولوج إلى فضاءات التواصل الاجتماعي المتعددة والمتنوعة. كما أن طبيعة هذا التسليم لا يمكن أن نستخلص منه إلا كون بلادنا عانت وتعاني من خلل في تناقح أفكار ثلاث أو أربع أجيال متعاقبة، خلل عاق عملية تأمل الأحداث التاريخية، واستخراج الملاحظات الضرورية، وطرح الفرضيات اللازمة، وإخضاعها للتمحيص والتحليل البرهاني أو التجريبي، ومن تم إعادة تركيبها بمنطق تطوري، ليفسح المجال لهم، أفرادا وجماعات، لتحويلها إلى حقائق يقينية صالحة لزمانهم، ونافعة لهم في الحاضر، وملهمة لهم لتوقع أحداث المستقبل.
إن الحديث عن الخلل في هذا المقال ما هو إلا استحضار تحفيزي للتسلح بالأمل في غد أفضل. إن افتراض استمرار وجود السطحية والسذاجة كسلطة مؤثرة في المجتمع، سلطة تعيق وتضايق الإبداع والابتكار والاجتهاد والتسامح والانفتاح عن الآخر، ليس بالمستوى المخيف المشابه لأزمنة إعدام الحقائق اليقينية وروادها. إن الشعب المغربي، بعدما تأكد له قوة ارتباط واقعه مع شعوب العالم، أصبح بلا شك تواقا، بوعي معين، للتغيير والتحديث خدمة لمستقبله، ومطالبا على مستوى الخطاب الشعبي بتجديد نخبه في مختلف مستويات المسؤولية، والانطلاق بوثيرة مقبولة في ورش الكشف عن أخطاء وعوائق الماضي التي حالت دون تمكينه من توسيع هوامش مجالات التفكير العلمي لأجياله على أساس احترام تساوي الفرص، وتسليحه بالوسائل المعرفية والمادية لمجابهة مختلف السلط الواهية التي كانت ولا زالت تستمد شرعيتها من شيوع الآراء السطحية والساذجة في المجتمع.
خلاصة
أمام التطورات الأخيرة التي عرفتها بلادنا، لا يمكن لأحد أن ينكر كون الشعب المغربي يحتاج اليوم إلى مخطط استعجالي حقيقي في مجالي الثقافة والتحديث. لقد حان الوقت لتوجيه الدعم المؤسساتي المادي والمعنوي، على أساس الاستحقاق ومعيار قوة الوقع، للفنون والثقافة والرياضة والفكر لخدمة الحداثة والديمقراطية. طموح التغيير الذي نلامسه مجتمعيا لا يمكن أن تعطى انطلاقة تجسيده إلا من خلال تحويل الحقائق الساذجة والسطحية السالفة الذكر إلى محاور مشاريع عمل، دراسية ونقدية، لزعزعة المنظومات الفكرية المقاومة للتطور، ولخلق المحفزات المجتمعية للرفع من مستوى الجدال العقلاني المكرس للشك المنهجي في الثقافات البالية السائدة، وبالتالي انتقاء الآليات والمناهج العصرية المساعدة على تحديد يقينيات جديدة، تمكن المجتمع من تجاوز بديهياته المعرفية الزمانية والجغرافية. فبالاستثمار الجدي في هذا التوجه الواعد لا يمكن موضوعيا إلا أن يحقق التكامل المأمول ما بين بلورة وتنفيذ الاستراتيجيات العمومية والخاصة، والتنشيط الثقافي والفني والرياضي، والتثبيت القانوني للحقائق اليقينية، وتقوية الروابط ما بين العلم والسياسة والأخلاق، وتحويلها إلى منبع لقيم الألفية الثالثة الضامنة لتصالح مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع.

الكاتب : الحسين بوخرطة - بتاريخ : 30/03/2020