مسيرة الرباط: درس في تضافر الشجاعة والتبصر

حسن السوسي

يمكن النظر الى مسيرة الرباط الجماهيرية باعتبارها أجوبة او مشاريع أجوبة لأسئلة معلنة واُخرى مضمرة، حول طبيعة الاحتجاجات التي عرفتها، وتعرفها منطقة الريف، وعدد من المدن والمناطق على امتداد ساحة الوطن الجغرافية من جهة أولى، كما يمكن اعتبارها، من جهة ثانية، رسائل مفتوحة او حتى مشفرة الى عدة اتجاهات في آن واحد. وذلك مهما بدت عناوينها متناقضة لأول وهلة، الا ان بعضا من التفكير يدفع الى تبين وجود قواسم مشتركة بينها، على تعدد مواقعها وتنوع مصالحها على المدى القريب والمنظور. كما انها من جهة ثالثة، اعلان لموقف واضح للدولة من هذا النوع من المسيرات الشعبية ذات الطابع السلمي والموحد.
اجوبة المسيرة انها اولا، جواب جوهري على سؤال راود الكثير من المراقبين ومتتبعي ما جرى ويجري في مدينة الحسيمة ومنطقة الريف عموما، حول طبيعة الحراك القائم وعلاقته بقضايا البلاد برمتها على مستويات تنميتها والإكراهات والمعاناة التي تعيشها مختلف مناطق البلاد شمالا وجنوبا شرقا وغربا ووسطا. وقد كانت المسيرة، على هذا المستوى، جوابا قاطعا من حيث جوهره الموحد والتوحيدي، وحيث ليس التمايز في بعض الشعارات المرفوعة هنا وهناك، غير تعبير عن عدم تماهي الحالة بين اقليم وآخر والذي ادى أصلا الى اعتماد المغرب التنظيم الجهوي باعتباره القادر على بلورة الاجوبة الملموسة للأسئلة الملموسة لساكنة مختلف جهات المملكة والتي توضح مرة اخرى بالملموس ان تفعيله هو الضمانة الأساسية لكل توازن وتكامل بينها في مجالات التنمية والحكامة المجالية والحد من الاختلالات التي رافقت نمط التنمية في المراحل السابقة. انها ثانيا، جواب على كل كل التساؤلات التي تقوم، صراحة او ضمنا، على زعم وادعاء ان الريف ينطلق من خلفيات ذات منحى مغاير لخلفيات مجمل الحركات الجماهيرية في مناطق اخرى من المغرب والتي ميزت طبيعة الاحتجاجات في البلاد خلال السنوات الأخيرة. ولا يختلف هنا من أطلقوا وأشاعوا هذه الدعوى من داخل المغرب في منطقة الريف او خارج البلاد سواء كان ذلك في أوساط أبناء المنطقة في المهاجر او في أوساط عدد من المنظمات ذات المنحى الحقوقي في الظاهر والتي شكلت حصان طروادة لكل التوجهات الإقليمية والدولية الداعمة لأطروحات تخدم اجندات ليست ضمن اجندات الحراك الريفي وحركات الاحتجاج الاجتماعي في مختلف مناطق العالم. ولا يغير من طبيعة هذا الجواب طول امد الحراك في الريف وتداخل مطالب الساكنة حيث يمكن الوقوف عند ما هو اجتماعي مستعجل الى جانب ما هو مرتبط بالبنى التحتية وما يندرج ضمن سياق ما هو ثقافي مثل تفعيل دسترة اللغة الامازيغية.
وتعتبر المسيرة، ايضا وايضاً، جوابا برسم عدد من القوى التي تعتبر انها هي الوحيدة المالكة لحق التحدث باسم حركات الاحتجاج الجماهيري، لأن القوى المشاركة في مسيرة الرباط تتجاوز مثل هذا المنطق الاحتكاري لتندرج ضمن منطق وطني عميق عبأ أوسع فئات وقوى المجتمع المؤمنة بضرورة التقدم القائم على تحقيق مكاسب جديدة للمجتمع المغربي في مختلف المجالات ضمن أفق وحدوي لا غبار عليه، أفق البناء الوطني الديمقراطي لمغرب لا يتردد في بناء مستقبل مشرق لكل ابنائه. رسائل المسيرة يمكن رصد رسائل مرتبطة بالأجوبة التي قدمتها المسيرة على عدد من الأسئلة المباشرة وغير المباشرة. اول هذه الرسائل موجهة الى جماهير الريف من قبل مجموع المغاربة الذين يمكن اعتبار المسيرة ممثلة لهم، مفادها ان المغرب يحتضن الحراك الاجتماعي ويتبنى المطالب المحقة التي تم التركيز عليها خلال الشهور الماضية، وبالتالي، فالمسيرة تأكيد ملموس على ان الريف ليس وحيدا في الميدان، وان اخذ هذا الامر بعين الحسبان، عامل قوة لهذا الحراك في بعده الاجتماعي العام اي في ما يشكل جوهره المطلبي رسالة المسيرة الثانية، موجهة الى الحكومة المغربية وهي ذات طبيعة مزدوجة : مضمون شقها الأساسي الأول هو ان الأوان قد حان للتحرك الجدي في التعامل مع مطالب الحراك وعدم الاكتفاء بوعود هنا او هناك، لأن طبيعة هذا الحراك استعجالية لا تقبل التسويف.
ولعل الحكومة قد قرأت جيدا هذه الرسالة عندما أرسلت وفدا وزاريا جديدا الى الحسيمة غداة المسيرة لتدارس الوضع في الميدان وإجراء اللقاءات الضرورية مع مختلف المهتمين بالحراك وربما أساسا المنخرطين فيه لبدء مرحلة جديدة من الحوار تكرس قناعة الجميع بضرورة تعميم ثقافة المصالحة الوطنية في جميع ابعادها وبين جميع أبناء وجهات الوطن. اما شقها الثاني فهو على درجة كبيرة من الاستعجال ويقوم على ضرورة تصفية الأجواء وخلق شروط ملائمة لانطلاق عملية الحوار وتجاوز كل عوامل استمرار الاحتقان، وذلك من خلال المعالجة الإيجابية لملف المعتقلين على خلفية احداث الريف الأخيرة حيث يعتبر اطلاق سراحهم ضمن الأولويات لما في ذلك من فرصة لإطلاق ديناميكية جديدة من شأنها تعميم الأمل بأن الحل في متناول اليد متى توفرت النوايا الحسنة لدى مختلف الأطراف المنخرطة بشكل مباشر او غير مباشر في عملية المصالحة الجديدة التي ينبغي ان تكون عنوان هذه المرحلة بالذات. اما الرسالة الثالثة، فموجهة الى الخارج، القريب والبعيد، وهي ان المغاربة قادرون على حل مشاكلهم الفعلية بأنفسهم وان كل محاولة لحرف المطالب الاجتماعية عن طبيعتها الحقيقية للركوب على الأحداث لغايات ليست هي غايات ساكنة الريف ومجموع الشعب المغربي بمثابة جهد ضائع في ما ليس من ورائه جدوى، لأن وعي المغرب بمختلف مكوناته كدولة ومجتمع أقوى بكثير من كل تلك المحاولات وهو سيتجاوز مرحلة الاحتقان التي يعيشها بالتبصر الضروري والحكمة التي اكتسبها على مدى عقود كثيرة من التجارب السلبية والايجابية في مواجهة مختلف التحديات.
وهذا ما يجعلنا نعتقد ان الرسالة الرابعة موجهة، أساسا، الى المشككين في امكان تنظيم مسيرة جماهيرية كبيرة في اجواء حضارية من الانضباط وعدم المساس بالأمن من جهة، والى من راهن، من جهة اخرى، على ان الدولة واجهزة الامن المختلفة قد تفتعل ذرائع ما لتبرير التدخل العنيف في مواجهة تظاهرة سلمية لا غبار على طبيعتها واهدافها انها إذن، اجوبة ورسائل مطمئنة، على مستوى مختلف قوى المجتمع ومؤسساته، بأن المغرب قادر على مواجهة تحديات الواقع بما يتطلبه ذلك من الجرأة والشجاعة من جهة، وما يرافقها من حكمة وتبصر من جهة اخرى. ولعل هذا هو الدرس الجوهري لمسيرة الرباط الجماهيرية الاحد الماضي .

الكاتب : حسن السوسي - بتاريخ : 17/06/2017