مصادرة حقوق الأطفال خارج إطار مؤسسة الزواج: إلى أين؟

اجلان الشروقي (*)

لا شك أن مسألة إثبات النسب خارج إطار الزواج من أشد المسائل إثارة للحساسية والحرج لا سيما حينما يتعلق الأمر بثوابت دينية لا تقبل النقاش وأحكام قانونية لها خصوصيتها ومرجعيتها الراسخة التي لا تقبل التأويل في ظل نصوص قانونية محددة وواضحة .
والواقع أن الابن الطبيعي أو الابن الناتج عن علاقة خارج إطار الزواج لطالما عومل بجفاء وإقصاء إذ لم تعترف التشريعات السماوية له بأي حق إزاء والده البيولوجي فلا نسب ولا نفقة ولا إرث، بل إن أقصى ما يمكن أن يناله الطفل هو ثبوت نسبه لأمه بمجرد تحقق واقعة ولادته.
وضعية هذا الطفل في ظل ربط الواقع بظواهر اجتماعية معقدة يجعلنا أمام الكثير من الالتباس و غياب الاستقرار.
وأمام غياب المساواة في المسؤولية في الإنجاب نتساءل بكل جدية عن مصير هذا المولود خارج إطار مؤسسة الزواج لأن تكريس هذه المسؤولية من شأنها حماية الطفل وتكريمه لأنه ليس من باب الإنسانية مصادرة هذه الحقوق بسبب التصلب والجمود في القواعد والآراء.
إن الأحكام القضائية لا تتحمل مسؤولية أحكام البنوة لأن هذا الوضع القانوني نابع من التشريع نفسه وذاته الشيء الذي يستوجب تفعيل نصوص قانونية وفتح المجال لنقاش حقيقي ومسؤول يراعي الحقبة، خاصة أن أغلب الأحكام القضائية الصادرة بالخصوص تتجه نحو عدم إمكانية لحوق الابن بالأب إذا كانت العلاقة غير شرعية، ومنها قرار لمحكمة النقض عدد 289 الصادر بتاريخ 10/05/2006، جاء أيضا في قرار لما قضت المحكمة بلحوق نسب المولود من الزنا، رغم ثبوت ذلك تكون قد خرقت القواعد الشرعية المتعلقة بالنسب كما خرقت المادتين 142/140 من مدونة الأسرة، وعرضت قرارها للنقض قرار عدد 481 ، الصادر بتاريخ 26/09/2007في الملف الشرعي عدد 60/2/2/2007، وبالتالي فإنه لا يمكن ممارسة اجتهادات قضائية وتكريسها في ظل نصوص جامدة ولا تقبل التغيير، فإذا كان هذا التغييرحتميا فإنه من باب الأولى أن يكون تشريعيا.
إن الاعتراف للأم بالبنوة بمقتضى المادة 147 من مدونة الأسرة ليس إنجازا يحسب لمدونة الأسرة في غياب ضمانات للمولود بل هو مؤشر على أن حقوق المرأة والطفل مجرد نضالات وشعارات واهية تم إفراغها من هدفها الحقيقي، وأن هذه الحقوق لا تتجاوز سطور الاتفاقيات الدولية والدستور والنصوص القانونية الجامدة فقط، وفشل المشرع في إيجاد حلول على جميع المستويات القانونية والاقتصادية والنفسية بل ومصادرة حقيقية لحقوق الطفل.
إن وضع الأمهات العازبات لم يكن أبدا مؤشرا على التفتح وأن المرأة قادرة تماما على تحمل المسؤولية بل هو مصادرة لحقها في الاستقرار، وحقها في تكوين أسرة، وتحمل مسؤولية المولود في جريمة مكتملة الأركان ارتكبتها الأم و الأب معا في حق طفل.
فهل نكون أمام استباحة للعلاقة الجنسية الرضائية مع تحميل الأم كامل المسؤولية في حالة حدوث حمل و إنجاب؟
وضع الأمهات العازبات يتسم بالهشاشة أمام ما يلحقه من إجهاض سري والتخلي عن الرضع أحيانا إلى ارتكاب جريمة التخلص من الطفل بعد ولادته مخافة علم الأهل والمعارف.
إن استحضار بعض الفئات وكيفية حمايتها يستدعي استحضار العلاقة بين التشريع والدين، هذه العلاقة الجدلية التي تجعلنا أمام نقاش عقيم أحيانا لتشدد البعض في تطبيق الشريعة الإسلامية، والذي نعلم أنه دين يسر ولم يكن أبدا دين عسر، بل إننا أمام ضرورة فصل الدين عن التشريع خاصة في المواضيع ذات الصلة، وخصوصا في حالة وجود أطفال لا ذنب لهم . أليس من باب أولى حماية الأطفال الموجودين خارج إطار الزواج بدلا من استباحة العلاقة الرضائية تحت لواء الحقوق والحريات، وإذا كان الأمر كذلك فإنه من باب أولى تحمل مسؤولية كلا الطرفين لنتائج هذه العلاقة. فلا يعقل أن تكون العلاقة الرضائية الاستثناء المشرعن تحت لواء الحقوق والحريات، وإلا سنعيش في فوضى الأهواء التي تجعل الأطراف يعيشون كما يرغبون دون أساس قانوني أو شرعي، وفي مجتمع لا يحاسب فيه الرجل إلا إذا ضبط متلبسا بجريمة أو إخلال أو في ما يمكن سماعه باعتبار أننا نعيش في مجتمع ذكوري تمنحه حرية عيش نزواته بكل أريحية لسبب واحد ووحيد وهو أنه رجل.
بالرجوع إلى مدونة الأسرة فإنها نصت على وسائل الإثبات وجعلت الخبرة الجينية وسيلة في حالة وجود عقد زواج أو شبهة أو خطبة وأقصت الحالة التي يكون فيها الابن خارج إطار مؤسسة الزواج.
نتساءل عن الحالة التي كانت هناك إمكانية اللجوء إلى الخبرة الجينية في فترة كان ينسب فيها الابن للفراش وللعاهر الحجر، فهل سنكون أمام هذا الواقع؟
الحقيقة أن تفكيرنا في الموضوع يستدعي استحضار وسائل الإثبات قديما والإمكانيات المتاحة آنذاك!
قديما اعتمدت القيافة لإقناع العرب منذ القديم للكشف عن أوجه الشبه بين شخصين أو انعدامها، ومن ثم إثبات النسب أو نفيه، وهو دليل على أنهم يدركون بالحس والملاحظة أن النسب ينتقل بالوراثة، والذي اعتمده العلم في ما يسمى بالبصمة الوراثية، والقيافة أخذت بها المالكية كما أخذت بها الشافعية والحنابلة. روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي لله عنها أنها قالت: إن رسول لله صلى لله عليه وسلم دخل علي مسرورًا، تبرق أسارير وجهه.فقال ألم تري أن مجززًا نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد. فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض.
فإذا كانت مدونة الأحوال الشخصية لم تأخذ بالقيافة فإن مدونة الأسرة اتسمت بنوع من المرونة لاعتمادها وسيلة إثبات النسب بالخبرة الجينية، والتي يمكن اعتبارها وجها للقيافة في وجهها المعاصر.
لقد أصبح إمكانية اللجوء إلى الخبرة الجنيية لإثبات الأطفال المولودين خارج إطار الزواج ضروة ملحة حتى لا تزر وازرة وزر أخرى، وأننا، كحقوقيين، متشوقون لإثبات النسب،خاصة أن النسب يثبت بأدنى دليل ولا نتشدد إلا في حالة نفيه، وأنه لا ينتفي إلا بأقوى الأدلة.
إن الشارع متشوق لإثبات النسب مهما أمكن ولا يحكم بنفي النسب إلا حين تعذر ذلك، رغبة منا في أن يكون لكل طفل نسب وأب يعترف به.
التشريع التونسي قفز قفزة نوعية مستحضرا وضعية الأطفال خارج إطار الزواج حيث قضت محكمة الاستئناف بصفاقس بإثبات نسب طفل رغم عدم وجود عقد زواج محرر وفقا للصيغ الشكلية اللازمة، فتمسك الوالد بكون العلاقة التي جمعته بوالدة الابن علاقة فساد في ما تمسكت الأم المذكورة بأنها مكنته من نفسها بناء على وعده لها بالزواج.
ولعل من المفارقات العجيبة التي نراها في التطبيق العملي للنصوص هو عدم إمكانية إثبات العلاقة خارج إطار الزواج باعتبارها غير شرعية، وفي وضع آخر فإنه لا يمكن إن ينفي المقر نسبه بعد إقراره بالاعتماد على الوضع الذي كان أقل من مدة الحمل المعتمدة شرعا أو اكتشافه أنه عقيم مع أن النتيجة واحدة في جميع الحالات.
خلاصة، لا بد من خلق نصوص تشريعية تستجيب للوضع في حالة وجود أطفال، ولعل استبعاد العقوبة في مقابل الاعتراف اليسير بالابن سيجعلنا أمام حل لأزمة ولتلافي ظواهر أكثر خطورة لأن استحضار المصلحة الفضلى للطفل يستدعي استبعاد العقوبات الرادعة مع تحميل المسؤولية للأب ليس فقط في ما يخص البنوة بل أيضا ما يستتبعه من نفقة ونسب، خاصة إذا كان الأب معلوما، مع استحضار أن الأم تواجه صعوبات، وقد تقوم بالاعتراف بكون الأب مجهولا حتى تتمكن من سلوك مساطر قانونية تستدعي مواكبة نفسية للابن في ما بعد في ظل مجتمع لا يرحم..

(*) محامية بهيئة الدار البيضاء

الكاتب : اجلان الشروقي (*) - بتاريخ : 26/08/2023

التعليقات مغلقة.