مــن يوقــف الحرب على غـزة؟

محـمـد بـنـمـبارك (*)

 

«أوقفوا إطلاق النار في غزة فورا» لعلها العبارة الإنسانية، الأكثر تداولا بالمؤتمرات والندوات والمشاورات السياسية بين عدد من رؤساء الدول والحكومات، ومختلف وسائل الإعلام العالمية. العبارة/ النداء صدحت بها أيضا حناجر شعوب العالم في المظاهرات والمسيرات التي جابت مختلف العواصم والمدن، داعية إلى وضع حد للعدوان الإسرائيلي على المدنيين في غزة.
من يملك مفاتيح الاستجابة العاجلة لهذه الأصوات والنداءات الإنسانية، ووقف آلة الدمار الإسرائيلية التي يصر متزعمها رئيس الوزراء نتنياهو على المضي في مخططه الإجرامي القائم على القتل والدمار ثم الترحيل، تحت غطاء القضاء على حركة المقاومة حماس. العالم اليوم ليس أمام رفاهية التفكير والاختيار والمشورة بل الوضع شديد التأزم، فهذا شعب غزة يستغيث من أجل حمايته والإسراع بوقف الحرب، إنه الجحيم بعينه. فما هي التوقعات والافتراضات والمطالبات عربيا ودوليا ؟:
إن وضع مثل هذا التساؤل يتطلب تحليلا عميقا لكل السيناريوهات التي يسعى إلى تحقيقها طرفا النزاع وبقية الأطراف الدولية الفاعلة والمؤثرة في مجريات هذا الصراع، بعدما تجاوزت إسرائيل في حربها على غزة كافة الحدود وباتت آلياتها العسكرية تدميرية عبثية للإنسان والعمران ليس إلا.
في الحروب الأربعة الماضية (2008/2009، 2012، 2019 و2021) فشل مجلس الأمن الدولي في كل محاولاته ومساعيه لوقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل، بينما نجحت الوساطة المصرية. وهي الحروب التي انتهت بلا غالب ولا مغلوب في الهدف، كانت فيها إسرائيل تضع نصب أعينها هدفا موحدا: «إنهاء حكم حركة حماس في القطاع» بينما حركة حماس كانت تقوم بدورها في مقاومة الاحتلال كاختيار استراتيجي مناهض للعملية السلمية ورافض الاعتراف بالكيان المحتل «دولة إسرائيل». غير أن هذه الحروب كانت دائما تخلف دمارا وشهداء فلسطينيين.
أما الحرب الدائرة حاليا فتختلف عن الحروب الأخرى لأن العدوان الإسرائيلي تجاوز وتيرة الحروب السابقة، رفع فيها نتنياهو سقف أهدافه الرامية إلى «القضاء نهائيا على حماس وتدمير قدراتها العسكرية والسلطوية واستعادة الأسرى المحتجزين لدى حماس»، الذي يتراوح بين 200 و250 أسيرا، قتل منهم 22 أسيرا جراء القصف الإسرائيلي للقطاع. وترغب إسرائيل في استغلال فوضى الحرب لتنفيذ مخططها التصفوي بترحيل سكان غزة إلى سيناء أو حشرهم بالشمال وخنقهم في مساحة ضيقة.
هذه الحرب جاءت أيضا ومنطقة الشرق الأوسط كانت تعيش على إيقاع متغيرات جيوسياسية واقتصادية، بدت على أنها ستأخذ المنطقة خارج سياق الصراع التقليدي الموروث عن القرن الماضي، فالتطبيع العربي الإسرائيلي آخذ في الانتشار والسعودية على أبواب تل أبيب، وتحقق المصالحة السعودية الإيرانية وتوقف الحرب اليمنية والحرب الأهلية في سوريا وعودة دمشق للجامعة العربية، بينما نتنياهو شرع بالتلويح ببرنامجه الاقتصادي بإقامة مشروع ميناء حيفا المتوسطي على محاور آسيا والشرق الأوسط وأوربا، معتقدا أنه طوى ملف القضية الفلسطينية بعد إقصاءها من طاولة المفاوضات والحل. لكن مصدر الإزعاج الذي ظل يخيم على إسرائيل بالمنطقة يكمن في التنافس والحرب الباردة مع إيران وتربص أدرعها العسكرية بالمنطقة، وهيمنتها على بغداد، دمشق، بيروت، صنعاء وغزة، بشكل يوحي بمشهد حذر وقلق في المنطقة بين إيران وحلفائها من جهة، ومن جهة ثانية بين الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إسرائيل، التي ظلت تدفع وتحرض واشنطن على الحرب على طهران.
فتفجر الصراع فجأة بشكل قلب كل الموازين وبدد حسابات إسرائيل وحرق أوراقها الرابحة، فانتقلت المنطقة المنهكة من جديد من وضعية اللاحرب إلى حالة حرب ضروس. لم تغفر إسرائيل لحماس فعلتها يوم السبت الأسود التي كانت نتائجها كارثية على إسرائيل داخليا وخارجيا، فسلكت طريق الحرب لتصفية حساباتها مع حماس، لكن الحرب تحولت إلى حرب إبادة على قطاع غزة الذي بات يعيش على وقع كارثة إنسانية شاهدها العالم وندد بها.
رفضت إسرائيل كل النداءات العربية والدولية لوقف إطلاق النار مصرة على إطالة أمد الحرب بغزة. وتكمن الغاية من وراء ذلك ليس فقط تدمير حماس كما تدعي، بل أيضا لتحقيق مشروعها الرامي إلى إشعال حرب موسعة بالمنطقة تدفع بها الولايات المتحدة الأمريكية إلى المواجهة العسكرية مع إيران، بمعنى حرب بالوكالة وحرب تصفية حسابات بين واشنطن وطهران تصب في مصلحة إسرائيل.
لكن الإدارة الأمريكية مدركة جدا خطورة الموقف، لذلك ظلت تعاكس النظرة الإسرائيلية لعوامل داخلية وخارجية، فالرأي العام الأمريكي وعدد من السياسيين ومسؤولين بالبيت الأبيض ووزارة الخارجية يعارضون استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة ولا يتوافقوا مع اندفاع الرئيس «جو بايدن» سياسيا وعسكريا وراء أجندة نتنياهو، ويطالبون بالتدخل والضغط على نتنياهو لوقف إطلاق النار، وبعدم تحميل أمريكا مسؤولية جرائم حرب ترتكب في حق المدنيين بغزة.
من جهة أخرى، معلوم أن الولايات المتحدة الأمريكية خرجت منهكة من حروبها الطويلة بأفغانستان والعراق مثقلة بضحاياها من الجنود وبتكاليف باهظة في المجهود الحربي، فضلا عن تركيزها وانشغالها اليوم بالحرب الروسية الأوكرانية المتواصلة منذ أكثر من عام وكلفتها المالية العالية، وبالصراع المتعدد الأبعاد مع الصين، فلا طاقة والحالة هذه للإدارة الأمريكية على فتح جبهة حرب جديدة ضد قوة إقليمية لا يستهان بقدراتها بالمنطقة.
وأمام انشغال المنتظم الدولي بتواصل الاعتداءات الإسرائيلية وتدهور الأوضاع الإنسانية بقطاع غزة، صدرت عدة نداءات واقتراحات دولية متباينة صوب واشنطن، بين من يطالب من الدول العربية والإسلامية والأمين العام للأمم المتحدة ومنظمات حقوقية وإنسانية ورأي عام بوقف فوري لإطلاق النار، وبين من يدعو من الدول الغربية إلى الاقتصار على «هدنة إنسانية» تسمح بوصول مساعدات الإغاثة وإخلاء سبيل الأسرى الأجانب لدى حماس.
بين المصطلحين الأول والثاني يبرز التوافق والتناقض في المعنى والمدلول من حيث الآلية والظرفية والآجال، ويتجلى أيضا في تعارض وتضارب المواقف والتلاعب المصطلحي الدولي، بين مبدأ « وقـف إطلاق النار» ومبدأ « الهدنة الإنسانية»، فـإذا كـان الأول ـ حسب مصدر الأمم المتحدة ـ يفيد «تعليق للقتال باتفاق أطراف النزاع، وهو عادة جزء من عملية سياسية»، فإن الثاني تنحصر غايته في «الإيقاف المؤقت للأعمال العدائية لأغراض إنسانية بحثه» ليترك الباب مفتوحا للعودة إلى الحرب أية لحظة.
في هذا الصدد، اكتفت الإدارة الأمريكية ب «الدعوة لهدنات إنسانية مؤقتة تسمح بإدخال المساعدات إلى قطاع غزة وإجلاء المدنيين لكنها رفضت مناقشة وقف إطلاق النار، معتبرة أن من شأن هذه الخطوة أن تخدم حركة حماس». ولم يخرج الاتحاد الأوربي عن نطاق الموقف الأمريكي، عندما طالب وزير خارجيته جوزيب بوريل ب «هدنة في الأعمال الحربية في غزة للسماح بإدخال المساعدات الإنسانية وتحرير المختطفين». بينما تصر الدول العربية وروسيا والصين وكبار المسؤولين بالأمم المتحدة على وقف فوري لإطلاق النار لأن الشعب الفلسطيني بات عرضة لخطر جسيم يتمثل في الإبادة الجماعية.
إذن ما العمل في حالة ما إذا فشل المنتظم الدولي في فرض إرادته لوقف الحرب وقد تجاوز عدد الشهداء 11 ألف فلسطيني وبلغت مداها 41 يوما قابلة للتجاوز؟ هل يستسلم العالم للإرادة الإسرائيلية التي عودتنا على التمرد على كل المقررات الدولية والتنكر للقانون الدولي باعتبارها دولة فوق القانون؟.
وجب التذكير أنه بعد فشل القرار الرابع لمجلس الأمن، جراء الاصطدام بمعادلة فيتو ضد فيتو. اضطرت الدول العربية اللجوء إلى أكبر تجمع دولي/الجمعية العامة للأمم المتحدة (193 عضوا)، وتمكنت من الحصول على موافقة واسعة النطاق على قرار، في السابع والعشرين مـن أكتوبر المنصرم،
يدعو إلى «هدنة إنسانية» في غزة تهدف إلى وقف الأعمال العدائية بين إسرائيل وحماس. غير أن قـرارات الجمعية العامـة الأممية غير ملزمة، وتظـل فـي حدود التعبير عن وجهة نظر منـتـظـم دولــي لا تأبه به إسرائيل.
أمام ارتفاع النداءات من كل بقاع العالم المنددة باستمرار الحرب، عاد مجلس الأمن الدولي مساء 15 نوفمبر الجاري، في محاولة خامسة للتوصل إلى صيغة مناسبة بين وقف إطلاق النار أو الهدنة الإنسانية، وتركزت الخلافات على اقتراحات قدمتها الولايات المتحدة «التنديد بشكل لا لبس فيه بهجمات حماس ضد المستوطنات والمناطق الإسرائيلية بغلاف غزة في السابع من أكتوبر الماضي، والمطالبة بـإطلاق جميع الرهائن فوراً ومن دون أي قيد أو شرط، ومنح إسرائيل حق الدفاع عن النفس».
لكن روسيا والصين ودول غير دائمة العضوية أصرت على «إعطاء الأولوية لـوقف إطلاق النار فورا وإدخال المساعدات الإنسانية إلى نحو 2.4 مليون من الفلسطينيين المحاصرين في القطاع». وبعد مفاوضات عسيرة، وافقت أمريكا على «هدنات إنسانية محدودة الزمان والمكان للسماح بإيصال الغذاء والمياه والأدوية للمدنيين».
وقد انتهت المشاورات السياسية بين أعضاء مجلس الأمن إلى التوافق على اعتماد القرار رقم 2712، الذي حظي بتأييد 12 عضوا وامتناع الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبريطانيا عن التصويت، يدعو القرار إلى « إقامة هدن إنسانية عاجلة ممتدة في جميع أنحاء قطاع غزة، والإفراج الفوري وبدون شروط عن كل الرهائن الذين تحتجزهم حماس وغيرها من الجماعات»…
وقد لمحت إسرائيل إلى أنها لن تلتزم بقرار مجلس الأمن الدولي،  الداعي إلى هدن إنسانية عاجلة في الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة، وجاء هذا التلميح في سياق بيان صادر عن وزارة الخارجية الإسرائيلية، أكدت فيه أنه لا مكان لهدن إنسانية متواصلة ما دامت حركة حماس تحتجز 239 مخطوفاً في قطاع غزة، داعية مجلس الأمن والمجتمع الدولي إلى الإصرار على تحرير جميع المخطوفين الإسرائيليين بسرعة، وشددت على أن إسرائيل تتوقع من مجلس الأمن إدانة حماس بصورة واضحة، وأن يأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى إيجاد واقع أمني آخر في غزة. أما سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، فقال إن قرار مجلس الأمن ليس واقعياً، ولن يكون للقرار أي معنى من الناحية العملية، بحسب القانون الدولي.
لم يكن متوقعا أن توافق إسرائيل على هذا القرار الدولي ولو جاء في حدوده الدنيا «الهدنة»، التي تبعدنا عن صيغة وقف إطلاق النار ووقف جحيم الحرب، لتدفع أصحاب الضمائر الحية في العالم إلى رفع سقف التساؤلات، أبعد من سؤال من يوقف الحرب على غزة ؟، فالعالم اليوم بات أمام تساؤلات أبعد وأعمق من ذلك: من يوقف إسرائيل؟ من هو قادر على إخضاعها للقانون الدولي؟ من يوقف المشاهد المتـكررة للاعتـداءات عـلى الفلسطينيين منذ أكثر من 50 عـامـا بتكــلفتها الــبشرية الباهظة؟ من يوقف
سياسة إسرائيل الاستيطانية التوسعية في الضفة الغربية؟ من يرغم إسرائيل على العودة إلى حدود 48 أو بالأحرى 67 ؟ و.و.و؟ بل ومتى تصحو الدول الغربية من غفلتها في التبعية العمياء لدولة الاحتلال «إسرائيل» والاستمرار في التنكر للقوانين الدولية والمبادئ والقيم الإنسانية التي وضعتها بأيديها وتتنكر لها عندما تقف مدافعة عن كيان غاصب ومحتل؟
(*) دبلوماسي سابق

الكاتب : محـمـد بـنـمـبارك (*) - بتاريخ : 23/11/2023

التعليقات مغلقة.