ملامح العلاقة مع المغرب في ظل العهدة الثانية للرئيس الجزائري

محمد بنمبارك *

أعيد بالجزائر، في 7 شتنبر المنصرم، انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون لولاية ثانية 2024/2029، هذا الرجل الذي أبْدَع مُسَيَّرا في ولايته الأولى (2019/2024)، في قطع أوصال العلاقات الجزائرية المغربية على هشاشتها، فلم يترك طريقا أو جسرا أو نفقا أو فضاءً أو حبلا أو حتى خيطا رفيعا إلا قطعه، أتى على الأخضر واليابس في هذه العلاقات، دون وازع حسن جوار، أو مراعاة للترابط الجغرافي الحتمي، والمصالح المشتركة وروابط شعبي البلدين المتعددة الروافد، أو حتى الالتفات إلى ما سيخلفه للتاريخ من تركة مقيتة في عهدته، فلا أحد يغفر جرائم التاريخ….
تعزز موقف الرئيس تبون الصِّدامي هذا بإقحام المغرب ضمن حملته الانتخابية لولايته ثانية، التي أعاد فيها إنتاج سيناريوهاته العدائية المتطرفة، التي تؤكد إعلانه الصريح الواضح والمباشر أن لا جديد ولا أمل ولا أفق لإعادة النظر في العلاقات مع المغرب بنية إصلاح الأعطاب والأضرار والتطلع لمستقبل أفضل. بما يفيد أن هذه العلاقات حُكِمَ عليها طيلة فترة ولايته الجديدة إلى غاية 2029 بمزيد من التشرذم والقطيعة إن لم تكن مقبلة على مزيد من التوتر والتصعيد.
الرئيس تبون وهو يوجه شراراته للمغرب، لا ينطلق من فراغ بل وراءه مؤسسة عسكرية متحكمة في دواليب النظام، تُغذيه تُحَركه تُحَرضه وتدفعه للتعبير عن مواقفها ونظرتها وتوجهاتها المغرضة نحو الجار الغربي، بإمعان في العداء والتفرقة وتسميم الأجواء. نظام جزائري من هذا القبيل، يُعْلِن صراحة أنه مُصِّر على القطيعة والعمل في الاتجاه الغلط بالدفع بالعلاقات إلى النفق مع مزيد من الانسداد والإغلاق، بما فيها قضية الصحراء المغربية التي يتهرب من جهة الانخراط في مفاوضات الحل السياسي، ويعمل من جهة ثانية على الانغماس في تأجيج الصراع كطرف غير معني، والدفع بجبهته الانفصالية إلى الواجهة.
لم يمهلنا الرئيس تبون ووزارة خارجيته كثيرا، ليدشن عهدته الجديدة بقرار غريب صوب المغاربة هذه المرة، يقضي بفرض التأشيرة على كل مغربي يرغب في زيارة الجزائر، في قرار لم يثر قلقا أو امتعاضا أو تساؤلا أو حتى التفاتة رسمية، بل حَفَل بسخريات الشارع المغربي، وتحول القرار وصانعيه إلى فسحة للتنكيت والفكاهة الظريفة اللطيفة، لا لشيء سوى لتفاهة الخطوة الجزائرية وعدم تأثيرها وجدواها للأسباب المعروفة لدى القاصي والداني.
ما العمل إذن أمام رئيس ونظام على هذه الشاكلة؟ فلا يبدو أن هناك من سبيل أو خيار أمام المغرب لتغيير الوضع وإنقاذ هذه العلاقات من انهياراتها المتوالية رغم النداءات الحكيمة والشجاعة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، في ظل غياب محاور جزائري عقلاني راشد قادر على الانفتاح على الحوار والتفاوض وتَفْسيخ شحنة المشاكل والالتفات إلى رداءة العلاقات والانخراط في كل ما يمكن اتخاذه من خطوات بناءة تصب في مصلحة البلدين، وفي التوجه نحو تطوير منظومة اتحاد المغرب العربي، والأهم تعزيز استقرار منطقة الساحل والصحراء.
وفق هذا المنظور HYPERLINK “https://www.belpresse.com/politique/519789.html”عبر مؤخرا السيد أنطونيو غوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة، عن أسفه لعدم حدوث تحسن ملموس في العلاقات بين الجزائر والمغرب، مشجعا البلدين على إعادة تأسيس الحوار لإصلاح علاقاتهم وتجديد الجهود الهادفة إلى التعاون الإقليمي، بهدف إنشاء بيئة مواتية للسلام والأمن، وذلك نظرا للدور الحاسم للدول المجاورة في تحقيق حل نزاع الصحراء. لكن “لا حياة لمن تنادي”.
في الحقيقة كان يفترض أن تشكل هذه الطموحات عناوين المرحلة الجديدة بعد التجربة المؤسفة للخمس الأولى من العهدة التبونية، لم تحصد فيها العلاقات سوى كم هائل من الخيبات وتراكم حجم المشاكل وترسانة الاتهامات ومخاطرها، ومحاولة إقحام بعض دول المنطقة في هذه التخبطات والمطبات الجزائرية (حالة تونس). والملاحظ ان الجزائر بسلوكها هذا ظلت مقعدة معوقة عاجزة عن الذهاب أبعد مما تنادي به من خصام وعداء فريد وليس غريب مع المغرب، ولإصرارها على فكرتها الوهمية المناوئة المتجسدة في “التقسيم الانفصال التشطير” على المستويين المغربي والمغاربي، فظلت لا تتكلم إلاَّ بلغة الماضي، بأوهام وخرافات تقرير المصير، وفبركة مغرب عربي جديد ثلاثي ومرة رباعي بل حتى ثنائي، فلم يُحْبِط مشروعها سوى موريتانيا الحكيمة وليبيا الجريحة بخداع دبلوماسي جميل.
ماذا يمكن أن تقدم الجزائر للمغرب خلال الخمس سنوات القادمة في ظل، رئيس الظل، السيد عبد المجيد تبون؟، بالتأكيد لا جديد لا تحول لا أفق بل نفق، فالعنوان البارز هو ما يعبرون عنه صراحة وعلى أعلى المستويات تجاه المملكة المغربية: ” العدو…” ومسميات أخرى دنيئة لا تستحق الذكر.
يتردد كثيرا في الأوساط السياسية والإعلامية إقليميا وقاريا ودوليا، تساؤلات حول سيناريوهات حلحلة الأزمة في العلاقات المغربية الجزائرية، وفيما إذا كان الوضع سيزداد تأزما أم على الأقل سيظل يراوح مكانه:
1 ــــــــــ الأمر القار والثابت لحد الآن هو أن الجزائر ستستمر في تفريخ الاتهامات والأزمات، ماضية في استخدام لغة التحدي والتصعيد السياسي والاقتصادي والإعلامي والتلويح من وقت لآخر بالقوة العسكرية الضاربة في استعراض كلامي للعضلات، والدفع بالانفصاليين إلى الاستمرار في التمسك بموقفها عدم الالتزام بقرار وقف إطلاق النار. ما يفيد الاستمرار في تأجيج مناخ العلاقات وتَوَقُدِها، في ظل الإعلان الرسمي والتباهي العنتري الفارغ بالامتناع عن التقارب ورفض كل أشكال الوساطة الرامية لإيجاد مخرج للأزمة مع المغرب، ومن أي طرف كان.
2 ــــــــــ يبدو هذا التصعيد شيئا ما غريبا، حيث يلاحظ أنه تجاوز كل حدود ما كان يعرف سياسيا ب تقاليد النزاع الجزائري المغربي الذي تعودنا عليه في الماضي، والذي حافظ على نوع اللياقة الدبلوماسية، التي كانت تُؤَثِّث مشهدية الخصام والصراع بين الطرفين دون الاخلال بقواعد الاشتباك، لكنه ومنذ وصول الرئيس تبون للسلطة 2019، لوحظ أن الوثيرة تسارعت في تَأْزيم العلاقات وتسميم أجوائها بشكل تصاعدي عدائي دون توقف حتى اليوم، بالشكل الذي يُسائِل حكام قصر المرادية/ العسكر، إلى متى هذا التصعيد؟ وما هي حدوده وغاياته؟ والملاحظ أنه تجاوز إطار النزاع حول الصحراء المغربية، واتسع ليشمل كل المناحي دون هوادة، اقتحم حتى الجانب الرياضي لما يُمْنَع بالملاعب الجزائرية رفع العلم المغربي وعزف النشيط الوطني أو التدخل في اختيار شكل ونوع قميص فريق مغربي، في تعارض صارخ مع ما تنص عليه اللوائح والقواعد الرياضية ل “الكاف والفيفا”.
3 ـــــــــ هل يبحث حكام العسكر عن ذرائع للحرب بحسابات داخلية، دون التفكير أو الالتفات إلى أخطاره الإقليمية والدولية المتعددة، فتكلفة هذا الخيار باهظة على الطرفين والمنطقة برمتها، فمن البديهي أن يستشعر قادة الثكنات العسكرية، إذا لم يكن لديهم من مرشد سياسي محلي أو دولي، خطورة المواجهة العسكرية المفتوحة مع المغرب لتداعياتها السيئة على البلدين وعلى الأمن الإقليمي والأوروبي بحكم الجوار المحاذي للممر الملاحي الدولي غرب المتوسط، وموجات الهجرة، دون إغفال اقتراب البلدين من مناطق التماس وتحركات ونشاطات التنظيمات الإرهابية في الساحل والصحراء الأفريقي.
فهل يستحضر قادة الجزائر من عساكر ورجال سياسة ونواب أمة وأحزاب بل كل جزائري، إلى أين يقود طريق الخيار العسكري، التي سيَرْتَد دون شك على الداخل أولا وينعكس على الخارج، ولا مكاسب يجني منها الجاني سوى الخراب والدمار. يحاول رئيس الأركان الفريق سعيد شنقريحة من وقت لآخر استخدام بعض الفانتازيا العسكرية على الحدود المغربية، بتحريك قواته وإجراء مناورات/تمرينات تكتيكية، في رسائل عسكرية يستفاد منها استعراض قوة وتعبير عن جاهزية، كما يتَقَصَّد دخول معترك التصريحات الإعلامية بغاية استفزاز المغرب، حين اتهمه في احدى المناسبات: ” بتبني طموحات توسعية والتمادي في تدبير المؤامرات ضد الجزائر لتحجيم دورها في المنطقة”.
كيف يمكن لقادة الجزائر المغامرة بفتح جبهة حرب مباشرة مع المغرب، في خضم أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية مزرية، وجبهة داخلية مفككة متربصة، وصراعات حادة بارزة على مستوى القيادات العسكرية والأمنية، واتساع نشاط الحركات الانفصالية بمنطقة القبائل المطالبة بتقرير المصير والاستقلال، يصاحب هذه المشاكل الداخلية نزاعات إقليمية مع جوارها الجنوبي بمالي وليبيا في محاولات يائسة لاستعادة “نفوذها ومكانتها الإقليمية” حسب قول حكامها، ومشاكل مع دول أوروبية فرنسا واسبانيا وعلامات استفهام حول العلاقة مع روسيا.
من دون شك أن من يقدم على خطوة من هذا القبيل كمن ينتحر أو يبحث عن حتفه. فقد ترى القيادة الجزائرية في الخيار العسكري إعادة للحمة الجبهة الداخلية وتعبئة للشارع بداعي مواجهة البلاد لعدوان خارجي، لكن هذه القاعدة لا تستقيم في كل الأحوال وقد تنقلب على صاحبها. لذلك من المنتظر أن تواصل الجزائر عداءها منشغلة بمناوراتها السياسية وتصعيدها الدبلوماسي ضد المغرب مغردة خارج السرب مما يزيد في عزلتها دوليا، متغافلة، عن جهل أو قصد، التطورات السياسية الحاسمة التي ترجح كفة المغرب على الصعيد الإفريقي والأوروبي والدولي، التي قد تجعلها يوما ما تخضع مرغمة للأمر الواقع خارج حسابات أطروحتها الانفصالية.
كيف يتفاعل المغرب مع هذا التشدد الجزائري؟ تلكم معالم الجزء الثاني من المقال.
* دبلوماسي سابق

الكاتب : محمد بنمبارك * - بتاريخ : 17/10/2024