من أجل قضاء نزيه و مستقل
علي المرابط
لقد أصبح للقضاء في عصرنا الحاضر دور هام و جسيم قبل اي وقت مضى . يتطلب الأمر تطويره و تأهيله لمسايرة التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي في بنياته الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و في مختلف الميادين . يتعلق الأمر بالأساس في استتباب الامن و الاستقرار التي تعاني منها المجتمعات البشرية في مختلف ارجاء المعمور بسبب تنامي ظاهرة الارهاب و الاجرام و التي تحدت بأساليب متطورة و كذلك ظهور انواع جديدة منها و متقدمة نتيجة التقدم التكنولوجي و المنافسة من اجل الريع المادي و السريع و قد انعكس هذا التحول سلبا على القيم الإنسانية و أثرت على العلاقات بين الافراد و المجتمعات تفقد معها الثقة و الوازع الديني بين الافراد و الاقرباء في الاسر التي تجمعها العلاقات الدموية التي جاءت بها الشريعة الاسلامية قد الحفاظ عليها. و مما يزيد في دور القضاء ايضا ارساء قواعد الديمقراطية و صيانة الحقوق و الحريات و الاستثمارات التي تساهم في التنمية و الازدهار و تعزيز الدفاع و تحصينه و تقوية شرطة القضاء حماية للحقوق و الحريات . و هكذا لم يبق دور القضاء ينحصر في الفصل في النزاعات الفردية و الجماعية في الاحوال و الاعراض و الانفس و غيرها التي كانت تعرض عليه من قبل . ومن تم اصبح من الضروري الارتقاء بقطاع القضاء الى المستوى الذي يؤهله لمسايرة كل التحولات المجتمعية للاضطلاع بالمهام الجديدة المنوطة بهم ، و يبدو ان الأمر يحتاج الى تفعيل الترسانة القانونية المتطورة التي يعرفها المغرب ليتمكن القضاء من اعمالها و الاجتهاد في تطبيقها تطبيقا سليما لتحقيق العدالة التي تشكل الغاية المتوخاة منه و هي الغاية التي جيئت بها الرسالات الالهية بواسطة انبيائه و رسله مع التوحيد ذلك ان العدل واجب لكل احد على كل احد و هو قوام العالمين و الظلم فسادهم و هو محرم اطلاقا . و لا يتأتى ذلك إلا بتوفير الاليات و ظروف الاشتغال للقائمين بهذه المهمة و توفيرهم الشروط المادية و المعنوية يضمن استقلاليتهم من كل المؤثرات كيف ما كان نوعها و مصدرها
و يجب كذلك تطهير هذا الجهاز من جميع عناصر الافساد و جميع الفاعلين المرتبطين به لان الاصلاح كل لا يتجـــرأ و عليه فان العدل هو قيمة من القيم الاسلامية العليا . تم ان اقامة الحق و العدل هي التي تشيع الطمأنينــة و تنشر الامن و الاستقرار . تشد علاقات الافراد بعضهم ببعض و تقوي الثقة بين الحاكم و المحكــــــوم و تنمي الثروة و تزيد في الرخاء و تستقر معه الاوضاع . و يمضي كل واحد منهما في العمل و الانتاج و خدمة البلاد دون ان يقف في طريقه ما يعطل نشاطه. و مما تجدر الاشارة اليه ان العدل لا يتحقق إلا بايصال كل حق الى مستحقه و تجنب الهوى بالقسمة بين الناس بالسوية اسوة بالرسول (ص) حيث انه كان اول من تولى القضاء بنفسه في الاسلام . و اتباع نهجه و قد كان عليه الصلاة و السلام يحرص على القيام بالقسط و الانصاف بين المسلمين و غير المسلمين ، لذلك أثنى عليه الله سبحانه بقوله (( فلا و ربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم و لا يجدوا حرجا فيما قضيت و يسلموا تسليما )) سورة النساء . كان يعتمد (ص) في احكامه على قوله سبحانه (( و لقد ارسلنا رسلنا بالبينات و نزلنا معهم الكتاب و الحديد ليقوم الناس بالقسط )) . سورة الحديد ، و في هذا الصدد روي عنه (ص) انه اذا قضى لشخص بحق دون استحقاقه وعده بقطعة من النار . اما اهم الوسائل التي يتحقق بها القسط « العدل « و تحفظ الحقوق و تصان الدماء و الاعراض و الانفس . هي اقامة النظام القضائي الذي فرضه الاسلام و لو كان الأمر يتعلق بالقوانين الوضعية التي يعمل بها في اغلب الامور و القضايا . فالإسلام جعل القضاء جزءا من تعاليمه و ركيزة من ركائزه التي لا بد منها و لا غنى عنها و يراد به القضاء العادل و النزيه و المستقل ، و هو فرض كفاية لدفع التظلم في الخصومات و لأهمية القضاء و ضرورته فقد اوجب الاسلام على الحاكم ان ينصب للناس قاضيا و من ابى اجبره عليه اذا كان أهلا له ، في حين ان كثيرا من الصحابة و الائمة فقد رفضوا توليته خوفا من السقوط في الظلم كما هو الشأن بالنسبة للإمام أبي حنيفة النعمان ، و ان الله وعد القاضي العادل بالجنة لقول النبي (ص) ( ان الله مع القاضي ما لم يجر فإذا اجار جار الله عنه و لزمه الشيطان . ) اما الحديث الذي جاء في التحذير في الدخول في القضاء ما رواه سعيد المقبري بقوله ان الرسول (ص) قال ( فمن تولى القضاء فقد دبح بغير سكين ) . اما بخصوص الحديث المتداول و التي مفادها ( قاض في الجنة و قاضيان في النار ) فيعني بها القاضي الذي سيدخل الجنة هو الذي علم بما انزل الله و يعرف حق المظلوم فيحكم به و ذلك يأخذ حق المظلوم من الظالم اما القاضيان اللذان سيدخلان النار فيعني بالأول الذي علم بالحق و لم يحكم به اما الثاني فيقصد به الجاهل بالحق فيصدر حكمه بدون علم . و بذلك يأتي حكمه اما صائبا او خاطئا و اقامة العدل مصدره الكتاب و السنة كقوله تعالى : (( و اذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل )). و قوله ايضا (( فاحكم بما اريناك )) اي احكم بالعدل . و لهذا السبب فقد اشترط بعض الائمة و الفقهاء شروطا لتولية القضاء اذكر منها على سبيل المثال ما جاء عن ابن عبد البر في كتابه الكافي و سابق في كتابه فقه السنة و كلاهما تابعين لمذهب الامام مالك إمام دار الهجرة الذي تبنى المغرب مذهبه منذ قرون . و قد اجمع الامامين سابق و ابن عبد البر و غيرهما من المذاهب على الشروط التي يتوجب ان تتوفر فيمن يتولى القضاء شروطها اهمها : – ان يتوفر فيمن يقضي بين الناس من كان عالما بالكتاب و السنة و يخش الله. – فقيها في دين الله قادرا على التفرقة بين الصواب و الخطأ . – بريئا من الجور و بعيدا عن الهوى و الغل . كما ان بعض الفقهاء يشترطون بلوغ القاضي درجة الاجتهاد عالما بآيات الاحكام و احاديتها و عالما بأقوال السلف سواء ما اجمعوا عليه و ما اختلفوا فيه عالما باللغة و بالقياس . اما من ليس اهلا للحكم فلا يحق له ولاية القضاء حسب بعض العلماء اطلاقا . فان حكم فهو اتم و لا ينفد حكمه سواء وافق الحق او خالفه ، و أحكامه مردودة كلها و لا يصدر في شيء من ذلك . و يقول السيد سابق ان على القاضي ان يتحرى الحق فيبتعد عن كل ما من شأنه ان يشوش فكره فلا يقضي اتناء الغضب الشديد او الجوع المفرط او الهم المقلق او الخوف المزعج او النعاس الغالب او الحر الشديد او شغل القلب شغلا يصرفه عن المعرفة الصحيحة و الفهم الدقيق . ففي حديث ابي بكرة في الصحيحين و غيرهما قال سمعت رسول الله (ص) يقول ( لا يقضي الحاكم بين اثنين و هو غضبان ) فإذا حكم القاضي اثناء حالة من هذه الحالات صح حكمه ان وافق الحق عند جمهور الفقهاء . هذا و مهما اجتهد القاضي في معرفة الحق و اصاب الصواب فهو مأجور و لو لم يصب الحق و يعني بالمأجور الاجر . اما ابو بكر الجزائري فيرى في منهجه انه لا يولي القضاء من يطلبه و لا من يحرص على الحصول عليه . و يضيف الجزائري ان القضاء تبعة ثقيلة و امانة عظيمة لا يطلبها إلا مستخف بشأنها ، مستهين يحقها لا يؤمن ان يخونها و يعبث بها . و في ذلك فساد للدين و البلاد و العباد ما لا يتحمل و لا يطاق استنادا الى ما جاء عن الرسول (ص) (( انا و الله لا نولي هذا العمل احدا يسأله او احدا يحرص عليه )) رواه البخاري في كتاب الاحكام و مسلم في كتابه الامارة . و قال (ص) ايضا (( انا لن نستعمل على عملنا من اراده )) يعني به من ليس بفاسق بذنب من الذنوب اما بخصوص اداب القاضي فقد اشار اليها الجزائري في نفس المرجع كما يلي ( ان يكون قويا من غير عنف و لينا من غير ضعف لا يطمع فيه ظالم و لا يهابه صاحب حق و ان يكون حليما في غير مهانة حتى لا يتجرأ عليه سفهاء الخصوم و ان يكون ذا رؤية غير مماطلة و لا اهمال و ان يكون فطنا ذا بصيرة في غير اعجاب بنفسه و لا استخفاف بغيره . أما الاثبات فهو لا يختلف عما اشارت اليه المادة 399 من قانون الالتزامات و العقود و يتعلق الأمر بالإقرار و البينة و اليمين و النكول ، أما القاضي فلا يحكم بعلمه .
هذا و قبل مغادرة الموضوع اود الاشارة الى ان عددا من القضاة قد يحصل لديهم اللبس حول المراد من قوله تعالى في الاية 46 من سورة المائدة (( و من لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون )) و قوله في الاية 47 (( و من لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون )) تم قوله في الاية 49 (( من نفس السورة (( و من لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون )) . و في هذا الصدد جاء في تفسير الايات للعلامة محمد علي الصابوني في صفوة التفاسير قوله من لم يحكم بما انزل الله فقد كفر مشيرا الى الزمخشري بقوله ( من لم يحكم بما انزل الله مستهينا به فأولئك هم الكافرون و الظالمون و الفاسقون و و صفهم بالعتو في كفرهم حيت ظلموا ايات الله بالاستهزاء و الاهانة و تمردوا بان حكموا بغيرها . اما ابو حيان فقد اشار الى ان الخطاب موجه لليهود إلا انها عامة تسري على الجميع من المسلمين و غبرهم . ، أما الشيخ نصر الدين الالباني فقد خالف راي ابا حيا ن في تحليله للحكم بغير ما انزل الله في كتابه الاختيارات العقائدية و ذلك بقوله بان الدكتور خالد العنبري قد فسر ذلك بما فيه الكفاية في كتابه « الحكم بغير ما انزل الله و اصول التكفير في ضوء الكتاب و السنة و اقوال سلف الامة « و سار في اتجاهه الالباني في كتابه المدكور ( انه لا يجوز تكفير الحكام الذين يحكمون بغير ما انزل الله إلا اذا كانوا مستحلين هذا الفعل و ان الكفر الذي يخرج صاحبه من الملة هو الكفر القلبي او الاعتقادي ) اما الكفر العملي فقد صنفه الى صنفين: – كفر عملي مخرج من الملة بالكلية اذا دل على الجحود و التكذيب و اقامة الحجة عليه و يسمى البواح . – كفر عملي غير مخرج من الملة و الدائرة الاسلامية إلا اذا ادل على الجحود . اما ما سار عليه العلماء من السلف و الخلف في هذا الاطار فهو ما جاء عن ابن عباس قوله ( فمن لم يحكم بما انزل الله فهم الكافرون او الظالمون او الفاسقون .) فالكافر هنا يعني بالنسبة اليه من جحد بما انزل الله فقد كفر . ومن اقر به و من لم يحكم به فهو ظالم فاسق و هو ما سار عليه عكرمة و الطبري و القرطبي و الفخر الرازي في تفسيره حيت ان عكرمة قال ( و من لم يحكم بما انزل الله انما يتناول من انكر بقلبه و جحد بلسانه «بواح» ) اما من عرف بقلبه كونه حكم بما انزل الله و اقر بلسانه كونه حكم الله الا انه اذا اتى بما يضاده فهو حاكم بما انزل الله و لكنه تارك له فلا يلزم بقوله تحت هذه الاية . و يبدو ان هذا الاتجاه سليم خاصة انه لم يوجد في عصرنا الحاضر اي حاكم (قاض) يجحد بما انزل الله و بذلك لا يجب نعتهم بالكفار او الظالمين او الفاسقين و ان كان الأمر يتعلق بالقوانين الوضعية الا انه أتم و مرتكب الكبائر كلما جاء حكمه ظالم و غير منصف و ما اكترها في الظرف الراهن حيت طاله الفساد المدقع . و يبدو ان ما جاء به العنبري هو نفس ما جاء به العلماء السابقين كشيخ الاسلام ابن تيمية في منهج السنة النبوية و غيره من العلماء السابقين و المحدثين و على رأسهم نصر الدين الالباني في كتابه « الاختيارات العقائدية « بقوله لا يمكن الاقرار بالكفر العملي الذي يخرج من الملة بالكلية و ذلك الا اذا دل على الجحود و التكذيب او دل على الاستهانة و الاستخفاف فيجب التثبت من الحكم بغير ما انزل الله من غير جحود او استحلال من الكفر العملي غير المخرج من الملة و الدائرة الاسلامية و لا اختلاف بين شيوخ الاسلام و الائمة و الاعلام على انه كفر دون كفر و ظلم دون ظلم و فسق دون فسق . و قال البيضاوي في تفسيره ( و من لم يحكم بما انزل الله ) مستهينا به منكرا له فأولئك هم الكافرون لتمردهم بان حكموا بغير ما انزل الله ولذلك وصفهم بقوله فأولئك هم الظالمون و الفاسقون فكفرهم او ظلمهم بالحكم على خلافه و فسقهم بالخروج عنه .اما ابن القيم الجوزية فيرى ان الحكم بغير ما انزل الله فيميز بين الكفر الاصغر و الكفر الاكبر حسب حال الحاكم فانه ان اعتقد وجوب الحكم بما انزل الله في هذه الواقعة و عدل عنه عصيانا مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا كفر اصغر و ان اعتقد انه غير واجب و انه مخير فيه مع تيقنه انه حكم الله فهذا كفر اكبر و ان جهله او اخطاه فهذا يسري عليه حكم المخطئين . و الجدير بالذكر ان الايات المشار اليها قد نزلت في اهل الكتاب من اليهود و النصارى لأنهم تركوا العمل بالتوراة و الانجيل و حكم عليهم بالكفر و الظلم و الفسوق ، إلا ان بعض العلماء من يرى ان هذه الايات جاءت بالتعميم و بذلك تسري حتى على المسلمين و غيرهم . و في هذا الصدد تجدر الاشارة الى ان المغرب يعرف ترسانة قانونية متطورة في الميدان الاداري و التجاري و الاحوال الشخصية احدتث في شأنها محاكم ادارية و تجارية و قضاء اسري و تولى القضاء شباب و كذلك الشأن بالنسبة للمحاماة الأمر الذي يتطلب التأطير و التكوين من اجل الاضطلاع بمهمة القضاء و استقامته . و لا يمكن تحقيق العدل إلا باستقامة المجتمع و توفر الارادة لدى المسئولين من اجل اقامة قضاء نزيه و مستقل و محاربة الرشوة التي اتخذت منحى خطيرا في افساد القضاء و ما ترتب عنه من فقدان المصداقية و الثقة كما هو الشأن بالنسبة لأغلبية المؤسسات العامة و خير دليل على ذلك الفساد المالي الذي عجزت المحاكم المختصة للبت في جرائم الاموال في استرداد المال العام المختلس . و قد عبر السيد وزير العدل و الحريات السابق الاستاذ الرميد في اكثر من مناسبة الى ان المحاكمات التي تجري في شأنها يتم ايقافها من طرف دوي النفوذ و قوة الضغط ، أما الاستفتاءات الشعبية فرغم استعمال المال في شأنها جهارا و نهارا فلا احد يتوفر على الارادة الجادة للحد من هذه الظاهرة الخطيرة التي تفسد الانتخابات و تسيء الى سمعة البلاد و الاجهاز على المسلسل الديمقراطي ومن عناصر الافساد مستعملي المال هم الذين يشكلون الاغلبية في المؤسسات المنتخبة بمختلف درجاتها . و قد نتج عن هذا الوضع السيئ المساس بالمكتسبات التي ناضل من اجلها الشعب المغربي و قواه الحية و تعميق الازمة التي تعاني منها الطبقات المستضعفة لعدم العناية بمسألة العدالة الاجتماعية وتنامي ظاهرة ثقافة التيئيس و الاحباط لدى المواطنين . و اخطر من هذا اضعاف الاحزاب الوطنية و بات المغرب بدون احتياط اذا حلت به السكتة القلبية من جديد نتيجة السياسة التي مازال تنهجها الحكومات المغربية من جديد و التي تلت حكومة اليوسفي . و لا شك ان الحكومة الحالية التي تشكلت بعد مخاض عسير سوف تكون عاجزة عن مواجهة التحديات الداخلية و الخارجية و على محاربة الفساد و ضمنها اصلاح قطاع العدل لأنه اساس الملك . لهذا فالأمر يقتضي ان يكون المغرب قويا سياسيا و اقتصاديا و ديمقراطيا و حقوقيا و لا يمكن ان يقوم بهذه المهمة الا ذوي الكفاءات و المؤهلات الصادقة في اقوالها و مخلصة في اعمالها ، اما الفاسدون فلا يمكن محاربة الفساد في القضاء او غير القضاء . اما النزاهة او الاستقلال في القضاء فيرجع الى شخصية القاضي .
الكاتب : علي المرابط - بتاريخ : 28/06/2017