من واشنطن فيصل العراقي يكتب: من المسيرة الخضراء إلى زمن الوحدة.

فيصل العراقي

قراءة في تحول ملف الصحراء ودور الدبلوماسية المغربية

لم تكن المسيرة الخضراء حدثا عابرا في التاريخ السياسي المغربي، بل شكل لحظة استثائية تم من خلالها إحياء علاقة المغاربة بأرضهم، وبالدولة، وبالزمن.
في السادس من نونبر 1975، لم يتحرك 350 ألف مغربي نحو جنوب المملكة فقط، بل ساروا نحو تجسيد الوحدة، نحو فكرة أن الوطن ليس خريطة على الورق، بل إنه وعي جماعي مشترك يتجاوز الجغرافيا واللغة والعرق.
المسيرة لم تكن نهاية معركة، بل بدايتها الحقيقية، و مع مرور الزمن، أدرك المغرب أن الدفاع عن صحرائه لا يكون بالخطابات أو بالعواطف، بل بالعقل والدبلوماسية والعمل الميداني.
وهكذا، حمل جيل محمد السادس المشعل من جيل الحسن الثاني، ليتحول هذا الملف من قضية حدود إلى قضية هوية ومشروع دولة.

من الدفاع إلى المبادرة.
في السنوات الأولى بعد استرجاع الأقاليم الجنوبية، كان المملكة تنطلق في موقع “المدافع”, حيث كانت اللغة السائدة آنذاك هي لغة الرد على الاتهامات و”التصدي” للمناورات، في وقت كانت فيه الحرب الباردة تسقط ظلالها على المنطقة وتمنح خصوم الوحدة الترابية للمملكة غطاءً أيديولوجيًا لتغذية هذا النزاع المفتعل و الذي حارب على إثره المغاربة بقيادة جلالة الملك الحسن الثاني المعسكر الشرقي بشتى أطيافه وقدم ألاف الشهداء من دماء أبنائه الزكية التي ارتوت بها رمال الصحرائه .

لكن الزمن غيّر المعادلة.
منذ مطلع الألفية الجديدة، بدأ المغرب يغيّر هندسة تفكيره الدبلوماسي حيث لم يعد الهدف فقط “تفنيد أطروحات الآخرين”، بل إبداع أطروحة مغربية متكاملة. هكذا جاء مقترح الحكم الذاتي عام 2007، ليتحول من مبادرة وطنية إلى مرجع دولي يصفه مجلس الأمن اليوم بأنه “جدي وواقعي وذي مصداقية”.
بهذه الخطوة، تحولت المملكة من متلق للاتهامات إلى فاعلٍ يضع شروطه للنقاش، ومن طرف يبرر أفعاله إلى طرفٍ يقدم الحلول.
الدبلوماسية الهادئة: مدرسة في الحكمة و الصبر.
خلال العقدين الأخيرين، تبنى المغرب ما يمكن وصفه بـ”مدرسة الهدوء الاستراتيجي”.
لم ينجرف وراء الاستفزازات، ولم يراهن على الضجيج الإعلامي، بل بنى قوة ناعمة متدرجة ترتكز على ثلاث أدوات:
أولا الشرعية الميدانية: من خلال الاستثمار في البنية التحتية في الصحراء المغربية والمشاريع الكبرى خصوصا في العيون والداخلة، لتصبح التنمية أبلغ جواب على دعايات الانفصال.
ثانيا التحالفات الذكية: بفضل الرؤية الإفريقية المتبصرة و الجديدة لجلالة الملك محمد السادس، تحول المغرب إلى شريك استراتيجي في القارة، لا مجرد دولة حدودية، هذا الأمر جعل الدفاع عن وحدته جزءا أساسيا من معادلة الاستقرار الإقليمي.
ثالثا الخطاب المتوازن: لم تسعى المملكة إلى إذلال خصومها، بل إلى نزع الشرعية عن أطروحتهم بلغة العقل والواقعية، وهو ما أكسبه احترام القوى الكبرى في مجلس الأمن الدولي.
من قضية نزاع إلى مشروع وحدة.
إن التحول الحقيقي لم يكن فقط في النصوص الأممية، بل في الوجدان الشعبي للمغاربة، فأبناء جنوب المملكة اليوم هم رواد في التنمية والتمثيل السياسيو المدن التي كانت تذكر في نشرات الأخبار في الثمانينات من القرن الماضي كمناطق توتر، أصبحت اليوم منصات اقتصادية متقدمة تربط المملكة بالعمق الإفريقي.
هذا التحول الميداني جعل العالم يرى أن المغرب لم يكتفِ بترديد “الصحراء مغربية”، اعتمادا على الشواهد التاريخية الثابتة ،بل ثبثت كون المغاربة في صحرائهم بالفعل، وأن السيادة ليست شعارا، بل هو ممارسة يومية للعدالة والكرامة والتنمية.
القرار الأممي 2797: لحظة التحول الدبلوماسي.
إن قرار مجلس الأمن الأخير (2797/2025) لم يكن مجرد رقم جديد في سجل الأمم المتحدة، بل لحظة مفصلية تكرس انتقال الملف من منطق “الاستفتاء” إلى منطق “الحل السياسي الواقعي”, حيث لم يعد الحديث عن تقرير المصير بمعناه القديم، بل عن صيغة توافقية للحكم الذاتي داخل السيادة المغربية.
والأهم أن الجزائر — التي طالما تشدقت بكونها تمثل صوت “الشرعية الثورية” — وجدت نفسها خارج الزمن السياسي، حين امتنعت عن التصويت، لتؤكد أنها لم تعد قادرة على مواكبة منطق العالم الجديد.
من خطاب الدفاع إلى خطاب الوحدة.
حين قال جلالة الملك محمد السادس أن “زمن الدفاع انتهى، وزمن المغرب الموحد بدأ”، لم يكن ذلك مجرد تصريح سياسي، بل إعلانا عن تحول ذهني جماعي للمغاربة. إعلان بكون المغرب من مرحلة “رد الفعل” إلى مرحلة “صناعة الفعل”,فالدبلوماسية المغربية اليوم لم تعد تبحث عن الاعتراف، لأنها أصبحت هي من توزع الاعترافات، وهي من تصنع الشراكات، وتحدد الإيقاع في إفريقيا والمتوسط.
الصحراء المغربية:من رواية إلى رؤية.
خمسون سنة بعد المسيرة الخضراء، لم يعد السؤال: هل الصحراء مغربية؟ بل أصبح السؤال كيف حول المغرب هذا الملف إلى رافعة للوحدة والتنمية والدبلوماسية الحديثة؟
من المسيرة إلى الوحدة، عبر المغرب من صحراء الجغرافيا إلى صحراء المعنى…
مسيرة بدأت بالتحرير وانتهت بالتنوير…
بدأت بالأرض وانتهت بالإنسان…
وبدأت بصوت نداء من الملك إلى شعبه، وانتهت اليوم بنداء من الوطن إلى العالم
فهكذا تكون الأمم التي تعرف من أين جاءت، وإلى أين تمضي.

الكاتب : فيصل العراقي - بتاريخ : 13/11/2025