مونديال 2030: هل تصنع الجامعة المغربية الفرق أم تكتفي بالمشاهدة؟

محمد السوعلي(*)
حين نال المغرب شرف تنظيم كأس العالم 2030، لم يكن ذلك مجرد انتصار دبلوماسي أو لحظة استثنائية في مسار التظاهرات الرياضية، بل محطة فاصلة تُعيد ترتيب الأولويات الوطنية. ولعلّ أحد الأسئلة المركزية التي يفرضها هذا الورش العالمي هو: ما موقع الجامعة المغربية من كل هذا؟ هل ستكتفي بدور المتفرّج من المدرجات كما جرت العادة، أم تنخرط بفعالية في قلب الحدث وتتحول إلى شريك حقيقي في صناعة النجاح؟
إن الجامعة ليست فقط خزانًا بشريًا ولا مجرد فضاء أكاديمي، بل هي اليوم مدعوة لأن تكون فاعلًا استراتيجيًا، قادرًا على تأطير المتطوعين، إنتاج الحلول الرقمية، احتضان المبادرات الشبابية، والمساهمة في ترسيخ الأثر التنموي للحدث بعد إسدال الستار عليه.
مونديال 2030 فرصة تاريخية لإعادة تعريف العلاقة بين الجامعة والمجتمع، بين التكوين وسوق الشغل، بين المعرفة والمواطنة. فهل تملك الجامعة الجرأة على تجاوز منطق الانتظار والانزواء؟ وهل تمتلك الدولة الرؤية والشجاعة لإشراكها كقوة اقتراح وتعبئة لا كديكور هامشي؟
هذا المقال دعوة صريحة لإعادة التفكير في أدوار الجامعة، ليس فقط من أجل إنجاح المونديال، بل من أجل تحويله إلى لحظة تأسيسية لنموذج تنموي جديد تقوده الكفاءات، وينطلق من المعرفة، ويُراكم الأثر.
الجامعة: من متفرج إلى فاعل في معركة التنظيم
يُعد تنظيم المغرب لكأس العالم 2030، بشراكة مع إسبانيا والبرتغال، لحظة فارقة في المسار التنموي الوطني، ليس فقط من حيث الاستثمارات أو الإشعاع الخارجي، بل أيضًا كفرصة لإعادة بناء أدوار الفاعلين الوطنيين. وفي مقدمة هؤلاء الفاعلين، تبرز الجامعة المغربية، التي لطالما ظلت بعيدة عن المشاريع الكبرى، رغم كونها الخزان الأهم للرأسمال البشري والمعرفي.
لقد أثبتت التجارب الدولية السابقة أن غياب الجامعة عن الورش التنظيمي يُفقد التظاهرة بعدها المجتمعي، في حين أن حضورها يُعد عنصرًا حاسمًا في تعبئة المتطوعين، إنتاج الحلول التكنولوجية، وتحليل الأثر الاجتماعي والاقتصادي للحدث. من قطر إلى جنوب إفريقيا، ومن روسيا إلى إسبانيا، كانت الجامعات حاضرة حين أُتيحت لها الفرصة، وغائبة حين تم تهميشها، وكانت النتيجة واضحة في نجاح أو فشل استثمار الحدث بعد انتهائه.
الجامعة المغربية اليوم أمام مسؤولية تاريخية:
تضم أكثر من 2.5 مليون طالب خلال الموسم الجامعي 2024-2025، بزيادة 5.9% عن الموسم السابق، ويعمل بها نحو 20000 أستاذ باحث. كما يبلغ المعدل الوطني للتأطير البيداغوجي 67 طالبًا لكل أستاذ، مع تفاوت بين المؤسسات ذات الولوج المفتوح (105 طلاب لكل أستاذ) وذات الولوج المحدود (23 طالبًا لكل أستاذ).
تملك الجامعات مختبرات متقدمة في الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، علوم البيانات، والسياحة الذكية، إضافة إلى بنيات جامعية قابلة للتأهيل اللوجستي في مدن رئيسية مثل الرباط، طنجة، مراكش، وفاس.
تعبئة الطاقات الجامعية: من التطوع إلى الابتكار
من أجل ضمان انخراط فعلي ومثمر للجامعة، ينبغي تفعيل مسارات عملية تبدأ بإحداث دبلومات مهنية ومسالك قصيرة في مجالات مثل تنظيم الفعاليات الكبرى، التسويق الرياضي، الترجمة الفورية، إدارة الجماهير، واللوجستيك. كما يجب إدماج موضوع كأس العالم داخل وحدات التكوين ومشاريع نهاية الدراسة، بما يفتح الباب أمام أبحاث ميدانية، ابتكارات رقمية، وحلول ذكية يمكن أن تُساهم في إنجاح الحدث.
تأطير هذه الدينامية يتطلب إطلاق برنامج وطني للتأهيل التطوعي داخل الجامعات، يمنح الطلبة شهادات رسمية معترف بها، ويخلق حافزية للمشاركة. كما يُفترض إحداث خلية تنسيق وطنية تضم وزارة التعليم العالي، اللجنة المنظمة، الجامعات، والجهات المانحة، لتوحيد الرؤية والموارد، وتحقيق التكامل بين مؤسسات الدولة.
أما على المستوى الثقافي واللوجستي، فيمكن استغلال البنيات الجامعية لاستقبال الجماهير، توفير خدمات الإيواء، وتنظيم أنشطة ثقافية ترسّخ صورة المغرب الحضارية. هذه المبادرات تمثل فرصة للطلبة لاكتساب مهارات التواصل، التنظيم، والعمل في بيئة دولية، مما يعزز فرص إدماجهم المهني بعد التخرج.
ويُتوقع أن يوفر المونديال أكثر من 100 ألف فرصة شغل مباشرة وغير مباشرة، في قطاعات كالسياحة، الخدمات، الأمن، والإعلام، مما يحفز على تطوير وحدات التكوين المتخصصة. وتشير تقديرات رسمية إلى أن عدد المتطوعين المطلوبين قد يتجاوز 30 ألفًا، وهو رقم يمكن للجامعة المساهمة في تأطيره وتأهيله ميدانيًا.
ما بعد 2030… من الملعب إلى معركة التنمية
إن تنظيم كأس العالم 2030 يجب ألا يكون لحظة انبهار عابرة، بل منعطفًا استراتيجيًا يطلق مسارًا طويل الأمد من الإصلاح والابتكار والتحول المجتمعي. فحين تنطفئ أضواء الملاعب ويغادر الزوار، لن يبقى للمغرب سوى رصيده البشري، ومعرفته المؤطرة، ومؤسساته القادرة على تحويل الزخم الظرفي إلى دينامية مستدامة. وهنا تحديدًا، يبدأ الامتحان الحقيقي.
تشير تقديرات دولية إلى أن قطر مثلاً استثمرت ما يفوق 220 مليار دولار في مونديال 2022، وخلقت 200 ألف وظيفة، وأطلقت شراكات جامعية لإدارة التطوع وتحليل البيانات. كما أسهمت روسيا في 2018 بابتكارات جامعية في الأمن الذكي وتحليل الجماهير. هذه النماذج توضح أن النجاح الحقيقي يرتكز على إشراك الجامعة في كل مراحل التنظيم وما بعدها.
الجامعة المغربية، إن أحسنت التموضع، يمكن أن تكون العجلة التي تدور بعد توقف صافرة النهاية؛ تؤطر شبابًا اكتسبوا مهارات، وتحتضن مشاريع خرجت من رحم الحدث، وتنتج معرفةً تُلهم السياسات العمومية المقبلة. إنها مطالبة اليوم بإعادة تعريف نفسها، لا كمؤسسة مغلقة على البحث الأكاديمي، بل كمنصة مفتوحة على المستقبل، وعلى الاقتصاد، وعلى الوطن.
كسب رهانات ما بعد المونديال يبدأ من الآن، من تهيئة الجامعات لتكون بؤرًا للحلول، وحاضنات للابتكار، وجسورًا بين الطموح الوطني والتحولات العالمية. والمطلوب ليس فقط إرادة سياسية، بل شجاعة مؤسساتية تُخرج الجامعة من التهميش، وتمنحها مكانتها كقاطرة لبناء مغرب جديد، أكثر عدالة، وأكثر كفاءة، وأكثر قدرة على مواجهة تحديات القرن.
فالجامعة ليست ترفًا في زمن الأزمات، بل هي الإجابة الأكثر واقعية لسؤال: “ماذا بعد المونديال؟”
(*)عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والأخلاقيات
الكاتب : محمد السوعلي(*) - بتاريخ : 03/06/2025