نزيف الأسعار في حاجة لإعادة هيكلة المشهد

عبد الحليم بنمبارك
عنوان «نزيف الأسعار» ليس دعوة للتشاؤم، لكنه محاولة صادقة لقراءة الواقع المعاش في الأسواق. فغالبا ما تختفي عن النقاش العمومي قضايا تحظى باهتمامات الرأي العام، وتغيب أيضا عن التداول داخل الحقل الاعلامي الرسمي، الذي عليه الاستماع إلى صوت المواطن العاكس لحقيقة ما يجري على أرض الواقع. من هذه القضايا ظاهرة الارتفاع الحاد للأسعار… حديث المجتمع.
فمن خلال المتابعة المنتظمة لوضعية الأسعار خلال السنوات الأخيرة، تبرز بشكل مهول التقلبات المستمرة وغير المسبوقة حد التغول، بعدما بلغت مستويات قياسية شملت كافة المواد الاستهلاكية والخدمات، ولامست كافة مناحي الحياة. والظاهر أن هذه الأسعار لن تعود إلى سابق عهدها، بل أن لهيبها لن تخمد جذوته وسيزداد اشتعالا حتى في حالة وفرة المنتجات، مما يجبر المواطن على التطبيع مع معدلاتها المرتفعة.
ولنا في الانخفاض الذي عرفته أسعار المحروقات خلال الأشهر الأخيرة (الغازوال من15 و 16 درهم إلى 10 ,50درهم، البنزين من 14 إلى 15 ف 16 ثم 17 إلى 12,60 درهما)، خير دليل، في حين أن أسعار المواد ظلت في مستوياتها القياسية، لتتبدد بذلك مقولة تبرير ارتباط مستوى الأسعار بارتفاع أسعار المحروقات.
ظلت الحكومة على الدوام تبرر في خطابها استمرار وتيرة ارتفاع الأسعار بالأزمة العالمية، تداعيات الحروب، ارتفاع أسعار البترول عالميا، انعكاسات جائحة كورونا، سنوات الجفاف المتتالية، وغيرها من المبررات التي وإن كانت حقائق تقتضي الضرورة استحضارها، لكن ليس من الصواب التعلل بها كشعار دائم لنزيف الأسعار.
لقد سبق للمندوب السابق للمندوبية السامية للتخطيط السيد أحمد لحليمي في حوار له سنة 2023 أن اعتبر : «التضخم أصبح عاملا هيكليا في اقتصادنا وعلينا التعود على التعايش معه، ويرجع ذلك إلى نقص العرض في السوق المحلي» مضيفا أن «التضخم المرتفع لا يرجع إلى أسعار السلع الأساسية في الأسواق الدولية، ولكنه مدفوع بشكل أساسي بارتفاع المنتجات الغذائية التي يتم انتاجها محليا في المغرب» أي بتعبير أدق أن التضخم داخلي وغير مستورد وبات مؤشر هيكلي يستوجب القلق والحذر.
عندما يجري الحديث عن الأسعار، لا يمكن اختزال الأمر بربطه فقط بالمواد الغذائية، بل إن الواقع أعم وأشمل، يضم كافة السلع والخدمات الأساسية التي تمثل الاستهلاك العادي للأسر كالسكن، النقل، الاتصالات، الصحة والتعليم…..
الوضعية الراهنة للأسعار تستدعي قراءة موضوعية، بهدوء، وعمق وواقعية، لحيثيات هذا الارتفاع، تداعياته والتساؤل حول الآليات الكفيلة بالمحافظة على التوازن في السوق وحماية المستهلك وتأمين استقرار المجتمع.
بعض ملامح هذا الارتفاع يمكن بسطها كما يلي:
ما من شك في أن للمستهلك/المواطن مسؤولية مباشرة في التحكم في مسار ارتفاع الأسعار أو خفضها. فقد أثبتت التجارب أن ارتفاع الأسعار لا يكون فقط بسبب المضاربة أو نقص في المنتجات وجشع التجار، بل أيضا بسبب عدم ترشيد الاستهلاك بالإقبال الكثيف للمواطن، رغم تذمره من الغلاء، على اقتناء السلع بكميات كبيرة وعدم تقنين مشترياته تجنبا للتبذير والهدر الغذائي.
ولنا في تهافت بعض المواطنين، بمناسبة عيد الأضحى، على اقتناء اللحوم وأحشاء الغنم، أو ما يعرف ب»الدَّوَّارة»، بكميات كبيرة، لاسيما بعد إلغاء شعيرة النحر، خير دليل. تهافت كان له الأثر في ارتفاع أسعار اللحوم التي بلغت مستويات قياسية (150درهم للكلغ) كما قفز سعر «الدَّوَّارة»من 300 إلى 900 درهم. وشجع هذا السلوك الاستهلاكي المفرط على ظهور الذبيحة السرية مع خطرها على صحة المستهلك.
الملفت للانتباه، أنه مباشرة بعد دعوة صاحب الجلالة للإحجام عن ذبح الأضاحي حفاظا على القطيع الوطني، شهدت أسعار اللحوم تراجعا ملحوظا وذلك بعد الارتفاع القياسي الذي سجلته قبيل الإهابة الملكية، حيث انخفضت الأسعار إلى ما بين80 و100 درهم مقارنة بمستوياتها السابقة التي تراوحت ما بين 120 و135درهم. لكن التهافت على الاقتناء المفرط للحوم أفسد الاستفادة من هذه الوضعية وشجع التجار الجشعين على استغلال التهافت للرفع الجنوني من الأسعار؛
كان الرهان على «مخطط المغرب الأخضر» (أطلق سنة 2008) كأحد الاستراتيجيات العمومية الهادفة لتطوير القطاع الفلاحي في تحقيق الأمن الغذائي، لكن الملاحظ أن اتجه نحو تهميشه لحاجيات السوق الداخلية وتركيزه على التصدير، مما أدى إلى إهدار الموارد المائية، وتوسيع الفوارق بين الفلاحين الكبار والصغار، فضلا عن عدم الشفافية في إدارة جانب من أموال المخطط ومراقبة ومتابعة المشاريع، وغيرها من الاخفاقات المسجلة. ومن بين نتائج هذه الاختلالات عجز المخطط عن تلبية الحاجات الاستهلاكية الأساسية من اللحوم والدواجن والبيض والخضر والفواكه والحليب وغيرها، مما أدى إلى نقص في العرض وارتفاع للأسعار. ولنا في مثال لجوء الحكومة إلى دعم المستوردين والمهنيين من خلال الاعفاءات الجمركية والدعم المالي، الذي بلغت كلفته ما يقارب 13 مليار درهم، لاستيراد الأبقار والأغنام واللحوم خير دليل على انحراف أهداف «مخطط المغرب الأخضر» عن غاياتها الفضلى. فرغم لجوء الحكومة إلى الاستيراد لخفض أسعار اللحوم، إلا أن الأخيرة ظلت مرتفعة تتراوح ما بين 100 و 130 درهم، مما أربك الخطة إثر الفساد والخلل الكبير الذي شابها، وحال دون ظهور مؤشرات ايجابية على استقرار الأسعار في الأسواق؛
استمرار مسلسل هدر المال العام من خلال نماذج (برنامج دعم المواشي واللحوم، ملف المحروقات، خروقات في صفقات عمومية إن على مستوى محلي أو مركزي، شطط في التدبير المالي،..) والذي يعتبر أحد الأسباب المساهمة في ارتفاع أسعار الخدمات والمواد بمختلف أصنافها؛
تنامي حجم صادرات المنتجات الغذائية الزراعية والبحرية نحو الأسواق الخارجية. فإذا كان هذا القطاع يكرس مكانة المغرب كقوة فلاحية في تصدير هذه المنتجات، فلابد من بيان الوجه الآخر الغير مطمئن لهذا التصدير والمرتبط بالإجهاد المائي الكبير، فرغم الجفاف، فإن المنتجات الزراعية الموجهة للتصدير تعتمد بنسب عالية جدا على المياه الجوفية، وكذا بانعكاس ذلك على حجم عرض منتجات الخضر والفواكه والأسماك بالأسواق المحلية والارتفاع الملحوظ لأسعارها؛
التأخر الكبير في الحسم لتنظيم وتحديث مسالك التوزيع بغاية محاربة والقطع مع الوسطاء والسماسرة وتطويق ظاهرة الاحتكار والمضاربة والادخار السري، باعتبار أن تنظيم هذه المسالك له ارتباط مباشر بضبط مستوى الأسعار؛
غياب المنافسة الحقيقية في السوق حيث تلعب عوامل الريع والاحتكار والمضاربة دورا رئيسيا في تفاقم أزمة العرض وارتفاع في الأسعار وتنامي القطاع غير المهيكل. وجبت الإشارة، بخيبة أمل، أن مسار حرية الأسعار تم تحريفه وزاغ عن الأهداف المرجوة منه، فتنافس التجار فقط (المنتج، الموزع، البائع، ومقدم الخدمات بمختلف أشكاله: الفنادق، المطاعم، المقاهي، أصحاب الحرف والمهن، …) في الرفع من مستوى الأسعار وتحولت هذه «الحرية المنظمة قانونا !؟» إلى استبداد وفوضى عارمة انهالت طامَّتُها الكبرى على المواطن؛
عدم مراعاة النسب الضريبية والرسوم الجمركية لطبيعة بعض السلع والمنتجات يساهم في ارتفاع فاتورتها ويؤثر على القدرة الشرائية؛
ارتباط ارتفاع الأسعار باستفحال ظاهرة الفساد والرشوة التي نخرت بقوة جسم المجتمع وأضرت بسمعة بلادنا وجعلته يفقد مؤخرا 23 رتبة على صعيد التصنيف العالمي لتطور مؤشر «إدراك الفساد»، حيث لم يسلم أي قطاع أو مجال من قبضته (إدارات، مؤسسات عمومية، هيئات منتخبة، مستشفيات، جامعات، مؤسسات تعليمية، مهن حرة،….). ولنا في المتابعات والمحاكمات الحالية للتصدي للمفسدين خير دليل. فأصحاب الأموال المتراكمة من الاغتناء غير المشروع (فساد إداري وانتخابي، تهرب تضريبي، اتجار في المخدرات،…) يسعون إلى تبييض أموالهم من خلال استعمالها في العديد من القطاعات، مما ألهب الأسعار بشكل مبالغ. ويعتبر قطاع العقار (الإقامات السكنية، الفيلات، الأراضي، المقاهي،…) من بين المجالات التي تشهد عمليات غسل الاموال من خلال عمليات شراء بأسعار تفوق المتخيل، مما أدى ويؤدي إلى ارتفاع قيمة العقار ويمس بالقدرة الشرائية ويساهم في الرفع من مستويات التضخم؛
إذا كان حدث استضافة المغرب لكأس العالم لكرة القدم 2030 يشكل مشروعا وطنيا للتنمية سيمكن من إنجاز مجموعة من مشاريع البنية التحية من ملاعب ومستشفيات وفنادق وطرق وتحسين أنظمة النقل وغيرها، ومن خلق انتعاش بعدة قطاعات اقتصادية وتوفير فرص للشغل، فإن الكلفة المالية لهذا الحدث تشكل تحديا من جانب آخر. فبكل تأكيد أن السلطات العمومية اتخذت كل التدابير لضمان تمويل محكم لهذا المشروع الوطني الضخم. لكن ما يهمنا الإشارة إليه هنا، أن المشاريع الجاري تنفيذها بمناسبة هذا الحدث العالمي سيكون لها تأثير مباشر على الأسعار التي بدأت تشهد ارتفاعا ملحوظا على مستوى تكاليف المعيشة، لاسيما بالمدن التي ستستضيف المباريات. ارتفاع الأسعار بدأت ملامحه تظهر على مستوى العديد من المواد والخدمات والقطاعات: العقار، الكراء، المقاهي والمطاعم، مؤسسات الإيواء السياحي، مواد البناء والتشييد وغيرها، وهذه الأسعار مرشحة بقوة للارتفاع في القادم من الأشهر، في ظل سعي لاستغلال هذه المناسبة لتحقيق أرباح خارج الضوابط.
مناسبة تنظيم كأس العالم وقبله كأس إفريقيا 2025، يجب أن يذكرنا باستغلال بعض التجار لمثل هذه الظرفية للرفع من الأسعار. ولعل فيما تشهده المناسبات والأعياد الدينية (رمضان، عيد الفطر، عيد الأضحى، موسم الحج، العطلة الصيفية..) من ارتفاع جنوني في أسعار المواد ، النقل بمختلف أنواعه، وخدمات المرافق السياحية، وما يعرفه الدخول المدرسي من ارتفاع في أسعار الأدوات المدرسية وزيادات متواصلة، كل سنة وبدون ضوابط، في تكاليف التسجيل والتأمين بالمدارس الحرة وغيرها، ما هو إلا صورة لاختلال كبير في منظومة السوق وتعبير عن معاناة المستهلك، مسكوت عنها.
لاريب أن أسباب ارتفاع الأسعار واختلال منظومة السوق تبقى مرتبطة بالأداء الجماعي لكل الفاعلين. لكن إذا كان موضوع ضبط السوق مسؤولية يتقاسمها الجميع من أجل تعزيز التماسك والاستقرار الاجتماعي، فإن مسؤولية البرلمان، السلطات العمومية والقضائية، المجلس الأعلى للحسابات، والهيئات الدستورية المكلفة بالحكامة الجيدة (مجلس المنافسة، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، مؤسسة الوسيط،…)، جمعيات حماية المستهلك تبقى كاملة وثابتة لمعالجة، كل من جانب اختصاصاته، بجرأة ونجاعة، لمعالجة أسباب تدهور القدرة الشرائية للمواطن، وتصويب اختلالات منظومة السوق وتداعياتها، مكافحة الفساد، تفعيل القوانين المنظمة للسوق وغيرها من التدابير.
ولابد من التأكيد على مسؤولية الحكومة التي يتعين عليها الإسراع بوضع استراتيجية واضحة المعالم تتضمن حلولا وإجراءات ناجعة للحد من تغول الأسعار ومكافحة أسبابه، إجراءات تأخذ بعين الاعتبار مصلحة المواطن وتسعى لتحسين ظروف معيشته وتقطع مع ممارسات الماضي.
إن الطفرة الاقتصادية التي يشهدها المغرب والتي مكنته من تحقيق نجاحات مهمة في مجالات البنية التحتية، والصناعة، وسلاسل القيمة العالمية، والانتقال الطاقي والتحول الرقمي وتعزيز الانتاجية وتوسيع شراكاته الاقتصادية الخارجية وغيرها من المجالات الرامية إلى تحقيق نمو أكثر استدامة، ينبغي أن تنعكس على وضعية الأسواق وعلى المعيش اليومي للمواطن بما يضمن رفاهيته ويوفر له حياة كريمة ومستقرة.
(*) باحث مختص في شؤون ضبط ومراقبة السوق
الكاتب : عبد الحليم بنمبارك - بتاريخ : 19/06/2025