هل الحداثة مفهوم مراوغ؟

عزيز بعزي

بإمكان الحداثة أن تعطي هامشا لبعض الظواهر الجزئية من الحداثة المطلوبة عمليا، لكن دون تغيير البنية المتخلفة لبلداننا التي مازالت ترزح تحت وطأة التخلف، مادام ارتباطها بالحداثة لا يتجاوز ما هو شكلي، بمعنى مظهري، تقني وبراني؛ حيث عملت في إحدى تجلياتها على إعادة إنتاج الطابع التبعي، فقد أتت الحداثة التي نحن بصدد الحديث عنها بالقوة- أي من الخارج – إذ لم تكن ثمرة تطور داخلي ذاتي، وإنما هي حداثة غازية، وافدة مع السيطرة الاستعمارية، وإن وجدت لها، ونمت معها ركائز اجتماعية محلية.
ليست الحداثة مرادفة للاستعمار كما يعتقد البعض بل نتيجة له، فمقاومة الاستعمار في صورها المتعددة ارتبطت بمقاومة الحداثة نفسها ورفضها، فكيف تحقق ذلك؟
الجواب عن هذا التساؤل، يمكن التوصل إليه من خلال التعرف إلى المستويات الثلاثة لمقاومة ورفض الحداثة، والمتمثلة في ما يلي : – أولا: على المستوى الديني باعتبار أن الحداثة عدوان على الإسلام، وعلى التقاليد السلفية – ثانيا: على المستوى الوطني لارتباطها بالمستعمر – ثالثا: على المستوى القومي لما يفرضه الاستعمار من تمزق قومي.
من الجائز القول إن الطابع المميز للفكر العربي-الإسلامي الحديث لا يبتعد عن الشكل التوفيقي بين «الحداثة والتراث»، بين «الحداثة والمحافظة على التقاليد»، بين «الوافد والموروث». ويمكن أن نسجل هنا بأن الحداثة إما أن تكون صياغة وتجديدا للبنية الاجتماعية الشاملة بكل مستوياتها السياسية والاقتصادية والثقافية… أو لا تكون إلا مجرد جزر مضيئة متناثرة في محيط غامر من التقليد والتخلف والتبعية، وفي المجال العربي- الإسلامي لا نزال حتى اليوم نناقش مسألة الحداثة لا من حيث ما وصلت إليه في العالم من منجزات اجتماعية وعلمية وتكنولوجية باهرة، أو ما نواجهه في بلداننا من عقبات ومشكلات موضوعية بشكل عملي، بل إننا نناقشها من حيث قبولها أو رفضها، من حيث ضرورتها أو عدم ضرورتها، دون أن نغفل بطبيعة الحال التغيرات التي تشهدها أوضاع المجتمعات العربية – الإسلامية من حين لآخر في بعض المواقف والاتجاهات.
في محاضرته التي ألقاها في ندوة حول «الحداثة في الفكر العربي المعاصر»، والمنعقدة في جامعة القيروان بتونس عام 1988م، أكد المفكر محمود أمين العالم أن الحداثة مفهوم مراوغ، ومن ثم فالبحث عن حقيقتها، أو بالأحرى تعريفها تعريفا أوليا، دفعه إلى استعارة ثلاثة مصطلحات طريفة، عرَّفت بها باحثة سويسرية
«مفهوم التنمية»، في ندوة عقدت في تونس حول «التنمية والثقافة»، وهي كالتالي – الحقيبة – الفخ – الصنم. فمن ناحية يمكن القول بأن مفهوم الحداثة أشبه بالحقيبة، ومن ناحية أخرى أشبه بالفخ، ومن ناحية ثالثة أشبه بالصنم.
– الحداثة أشبه بالحقيبة: فهذا المفهوم يتضمن في داخله أكثر من دلالة، فقد نشأ مع بروز النظام البرجوازي الأوروبي على أنقاض النظام الإقطاعي، ومع ظهور القوميات، وتطور حركة التنوير ثم مع الثورة الفرنسية، وأخذ يواصل مسيرته وتطوره مع مختلف ظواهر التطور والتجديد في مختلف مجالات الفكر والعلم والمجتمع والصناعة، وأخذ يمتلئ بدلالات شتى جديدة مثل: العقلانية، العلمانية، الفردية الإنسانية، الموضوعية، والديمقراطية…
كما أخذت تتضاءل معه مفاهيم معينة مثل المطلق والمقدس والنهائي،… وتجسد هذا كله في مناهج ونظريات جديدة مثل الديكتاتورية، البروتستانتية، الوضعية، المادية والجدلية والتطورية، الفرويدية، الوجودية، الشخصانية، فضلا عن المكتشفات العلمية أو التكنولوجية المختلفة سواء في العلوم الدقيقة أو في العلوم الإنسانية والاجتماعية، واندلاع الكثير من الثورات الاجتماعية والإبداعات الأدبية والفنية.
وهكذا ظهرت أكثر من صيغة حداثية، حداثة في العلاقات الاجتماعية، وحداثة في التطور الاقتصادي، وحداثة في الفلسفة، وحداثة في التعابير الأدبية والفنية والدراسات اللغوية… وعليه ظهرت الحداثة كإمكانية مفتوحة على دلالات شتى، بل تجتمع داخلها نقائض فكرية مثل الماركسية، الوضعية، الوجودية، البنيوية، والبروتستانتية إلا أنها على اختلافها جميعا تعني الخروج من دائرة التخلف الاجتماعي والجمود الفكري، والاستبداد السلطوي تأكيدا لإنسانية الإنسان، وحريته وفاعليته في المجتمع .
– الحداثة أشبه بالفخ: أجل فخ فكري، فقد انطلق هذا المفهوم من حضن البورجوازية، ويحمل إيديولوجيتها، ومحدود بالضرورة بحدودها وآفاقها، وعليه فالعقلانية الحداثية هي عقلانية أداتية وضعية وظيفية، لتحقيق الأهداف المصلحية الاستغلالية البورجوازية. أما الفخ الأكبر الذي تمثله الحداثة فهو الفخ الذي تقدمه للبلاد المتخلفة باسم الخروج من تخلفها، وقد ضاعف من هذا التخلف بما ضعفه من استغلال هذه البلاد، ومحاولة القضاء على تراثها وخصوصياتها بشكل مطلق.
– الحداثة أشبه بالصنم: تكاد تكون الحداثة عند أغلبية الناس هدفا في ذاتها، وبذلك تتحول إلى صنم مقدس، فالإنسان الحديث يسعى لاستحداث كل شيء في حياته دون أن يكون وراء ذلك الاستحداث أي تجديد أو تغيير حقيقيين، بل هو مجرد تغيير مظهري جزئي ترفي استهلاكي، بل لقد أصبح هذا التغيير المظهري بديلا عما ينبغي أن يتحقق من تغيير جذري حقيقي لحياته، وهكذا باسم عبودية الحداثة تغيب الحداثة، ويتكرس النظام
السائد، ويعيش الناس في حداثة زائفة.
فالحداثة إذن يمكن أن تكون ضد التحديث، وذلك نتيجة الاستمرار في استعارة الهياكل التحديثية من الخارج، وهذا لا يؤدي إلا إلى المزيد من الابتعاد عن مشروع الحداثة المجتمعي المطلوب. فهناك فرق بين الحداثة والتحديث، فالحداثة رؤية فكرية، وموقف إزاء مسألة المعرفة وإزاء المناهج التي يستخدمها العقل في التوصل إلى معرفة ملموسة، في حين أن التحديث مجرد إدخال للتقنية والمخترعات الحديثة إلى الساحة
العربية الإسلامية، أي إدخال للتقنية والمخترعات الأوروبية الاستهلاكية، وإجراء تحديث شكلي أو خارجي لا يرافقه أي تغيير جذري في الموقف العلمي تجاه الكون والحياة.
لذا فالحداثة يمكن أن تكون تغييرا شكليا مظهريا سطحيا يخفي ما وراءه من تخلف واستغلال وتبعية، كما أشرنا سابقا، وفي الوقت نفسه فليس من الجائز على كل حال أن نعادي الحداثة دفاعا عن خصوصياتنا الحضارية، بل هي ضرورة موضوعية للتحرر من التخلف والتبعية، إذا ما تملكتها الإرادة الجماعية المنظمة الواعية للشعوب، بل لا سبيل لحماية خصوصياتنا ووجودنا إلا بالتسلح بها، وليست تلك الخصوصيات جوهرا ثابتا مطلقا، بل هي مشروع مفتوح على المستقبل، ينمو ويتطور بالمعارف والممارسات، والخبرات والتفاعل مع العصر تفاعلا عقليا، بعيدا عن أوهام الحداثة المقيتة.

كاتب وباحث

الكاتب : عزيز بعزي - بتاريخ : 04/06/2022

التعليقات مغلقة.