هل تتجه العلاقات الألمانية الفرنسية إلى القطيعة؟

باريس: يوسف لهلالي

في سابقة عرفتها العلاقات الألمانية الفرنسية، تم تأجيل اجتماع ألماني-فرنسي لأعضاء الحكومة كان مقررا عقده الأسبوع الماضي، بعدما اعتبرت برلين أن إيجاد تفاهم مشترك في عدد من الملفات يتطلب مزيدا من الوقت. ويمكن اعتبار هذا التأجيل للاجتماع الدوري الذي تتناوب الحكومتان على استضافته، انعكاسا لاتساع الشرخ بين القوتين الأوروبيتين، في وقت تبذل فيه أوروبا جهودا حثيثة للتصدي لأزمتي الطاقة وغلاء المعيشة على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا.
وتفاقمت الخلافات بين باريس وبرلين بسبب ملف الطاقة وطريقة تدبير الأزمة وقضايا الدفاع حيث بدأ يبرز تباعد الاختيارات بين الجانبين.
ومما أفاض الكأس، الخطة التي أعلنتها حكومة شولتز من خلال قرارها تقديم مساعدة مالية قدرها 200 مليار يورو لدعم الأسر والشركات الألمانية لمواجهة ارتفاع الأسعار، وبسبب هذا القرار تتعرض برلين لضغوط يمارسها عدد من الشركاء في الاتحاد الأوروبي، خاصة فرنسا، لإبداء مزيد من التضامن الأوروبي.
وقال ماكرون إن «ألمانيا تمر بلحظة تغيير لنموذجها يجب ألا نقلل من أهمية طابعها المزعزع للاستقرار»، وتابع «لكن إذا أردنا أن نكون منسجمين يجب ألا نتبنى استراتيجيات وطنية بل استراتيجية أوروبية في هذا المجال».
اختلاف المصالح بين البلدان الأوربية هو الذي فاقم الأزمة، الدول السبع والعشرون التي تعتمد مزيجا مختلفا من مصادر الطاقة، فبعضها يعتمد على النووي وأخرى على الغاز أو حتى الفحم لإنتاج الكهرباء لتلبية حاجياتها من إنتاج الطاقة.
وتنقسم هذه الدول أيضا حول مسألة تحديد سقف لسعر الغاز المستخدم لإنتاج الكهرباء، وتطبق آلية كهذه في إسبانيا والبرتغال حيث سمحت بتراجع الأسعار.
وتطالب دول عدة مثل فرنسا بتوسيع هذه الآلية «الأيبيرية» لتصبح على مستوى الاتحاد الأوروبي إلا أن ألمانيا تعارض ذلك فضلا عن دول شمالية عدة، من بينها الدنمارك وهولندا، المتحفظة على تدخل السلطات بالأسواق. وترى برلين أن تخفيض الأسعار اصطناعيا يضر بهدف الاقتصاد في استخدام الطاقة ويدفع إلى مزيد من الاستهلاك.
وألمانيا على عكس فرنسا تعارض وضع سقف للأسعار، وذلك لأنها تتخوف من وقف روسيا تزويدها بالغاز وتوجيهه إلى بلدان أخرى.
وتطالب مسودة نتائج القمة المفوضية بإعداد اقتراح حول هذه الآلية. وقالت فون دير لايين إن «النمط الأيبيري يستحق أن يدرس. وصدرت عن القمة الأوروبية المنعقدة الأسبوع الماضي حول هذا الموضوع اقتراحات أخرى تنظم شراء الغاز بشكل مشترك وقواعد جديدة في محاولة لفرض تقاسم الغاز في أوروبا لمساعدة الدول التي تواجه صعوبات.
لكن الخلافات بين باريس وبرلين لا تقتصر على مجال الطاقة وتصورهما لتدبير هذا الملف بل مست أيضا مجال التسلح حيث برزت خلافات عديدة وتباين وجهات النظر بين الجانبين بالإضافة إلا تخلي ألمانيا عن العديد من المشاريع الدفاعية المشتركة واختيارها الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية في هذا المجال، منها مختلف مشاريع» ايربيس» المشتركة، وتخلي ألمانيا عن مشروع «طاليس» للحماية من الصواريخ الذي كانت تدعمه إيطاليا وألمانيا، التي اختارت في غشت الأخير، إطلاق مشروع جديد للقبة الحديدية مع 14 دولة بشراكة مع «باتريوت» الأمريكية، وهي كلها خلافات تهدد المشاريع الدفاعية التي كانت مشتركة بين باريس وبرلين.
ألمانيا التي اختارت في السابق توجها سلميا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، جعلتها صدمة الحرب الروسية على أوكرانيا تخصص إمكانيات استثنائية لمواجهة هذه الوضعية، ووضعت 100 مليار إضافية بميزانية الدفاع هذه السنة. واختارت شراء المقاتلات الأمريكية اف 35 بدل المشروع الألماني الفرنسي للتسلح في هذا المجال، كما اختارت أنظمة للدفاع الجوي إسرائيلية الصنع بدل الفرنسية بالإضافة إلى اختيارات أخرى كلها تتجاوز التعاون بين باريس وبرلين، الذي كان يشمل عددا من مشاريع التسلح. البعض يفسر هذه الاختيارات الألمانية الأحادية بعيدا عن باريس، وذلك لحاجة ألمانيا إلى أسلحة بأسرع وقت، وهو ما يمكن أن توفره أمريكا، هذا بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه لوبيات واشنطن من أجل الظفر بهذه الصفقات التي تتزامن مع الحضور الكبير لإدارة بايدن في الحرب الروسية الأوكرانية من خلال المساعدات الكبيرة التي تمنحها لكييف.
الخلافات هي أيضا حول توسيع الاتحاد الأوروبي من عدمه، ففي الوقت الذي تريد ألمانيا توسيع الاتحاد تجاه بلدان أوربا الشرقية كما قال سولتز في خطابه ببراغ، إلى 30 أو 36 دولة، فإن فرنسا تدافع عن مقاربة «ونوات صلبة» للبلدان التي تريد الاندماج أكثر في ما بينها بدل التوسع. هناك خلاف حول السياسة الخارجية للاتحاد ورغبة ألمانيا في أغلبية مؤهلة لتجاوز الاجماع الذي يشل هذه السياسة اليوم.
التباعد الاستراتيجي واختلاف الرؤى بين ألمانيا وفرنسا بسبب الحرب الروسية لم يصمد أمام علاقة الصداقة بين البلدين التي تعود إلى 60 سنة، وتسارع القرارات الأحادية التي تتخذها ألمانيا دون إخبار شريكتها باريس، منها قرار 200 مليار للمساعدات في مجال الطاقة. بالنسبة لماكرون ألمانيا تنعزل من خلال هذه القرارات الأحادية.
استراتيجية الدفاع الذاتي والتي دعا لها ماكرون والتي كانت تتركز على أوروبا بدون البلدان الشرقية، هي اليوم حاجة ملحة بسبب الحرب بأوروبا، لكن الاستراتيجية الفرنسية تجاهلت بلدان أوروبا الشرقية التي توجد في قلب الأزمة اليوم مع روسيا، وهي نقطة خلاف أخرى كبيرة بين باريس وبرلين، خاصة أن أي تحول في الإدارة الأمريكية وعودة ترامب أو حلفاؤه سوف يكون له انعكاس سلبي على الأزمة بين أوروبا وروسيا، لأن الدعم الأمريكي لأروبا خاصة أوكرانيا سوف يتقلص، وهو ما يجعل استراتيجية الدفاع الذاتي أولوية اليوم بالنسبة للأوربيين، والتي لا يمكنها أن ترى النور بدون تفاهم ألماني فرنسي وبدون صناعة حربية أوروبية. الحرب بين روسيا وأوكرانيا كشفت نفاد مخزون بلدان أوروبا من السلاح، وهو الأمر الذي تعاني منه حتى روسيا.
اليوم، تعيش العلاقات الألمانية الفرنسية تراكما كبيرا للخلافات حول مواضيع استراتيجية بينت تباعد الرؤى بين الجانبين، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى قطيعة في التوجهات والاختيارات سواء في مجال الطاقة أومجال الدفاع. لكن هذه الخلافات تخترق بلدان أوروبا أيضا، بين محور يضم بلدان شمال وشرق أوروبا تتزعمه ألمانيا، ومحور آخر في جنوب أوروبا تتزعمه فرنسا بدعم من إيطاليا واليونان مع تردد إسباني، وهو محور ضعيف اقتصاديا رغم قوته السياسية.

الكاتب : باريس: يوسف لهلالي - بتاريخ : 26/10/2022

التعليقات مغلقة.