وداعا عبد المالك الجداوي ….رحيل ليس ككل رحيل

عبد السلام المساوي

نحن جيل الصدمة، فتحنا أعيننا والاتحاد ينطلق انطلاقة جديدة سنة 1975 بجرح انغرس في الذات الاتحادية، وكان من الصعب التئامه بسرعة، ففي وقت انعقاد المؤتمر الاستثنائي، والانطلاق نحو النضال الديموقراطي بالديموقراطية وليس بشيء آخر، تأتينا الصدمة ونطعن مرة أخرى في أحد القادة الكبار، ومن حق هذا الجيل وهو يبحث، ليس عن أجوبة، بل عن أسئلة جديدة، أن يستحضر تجربة عمر، وهو يفكر في المؤتمر الاستثنائي من داخل السجن، وعند خروجه من السجن، بدأ يفرغ كل المخاض الفكري الذي كان يحمله على الورق، وبدأ في الإعداد بدينامية للتحضير للمؤتمر واستراتيجية النضال الديموقراطي، والتي كانت متميزة في تاريخ الفكر السياسي المعاصر…
لكن لا بد مما ليس منه بد، حتى ولو كان عبء النعي ثقيلًا وثقيلًا جدا، فلا مناص من التحمل، ولا سبيل إلى الهروب من مثل هذا العبء وهذا الثقل. لقد رحل عبد المالك الجداوي وليس رحيله أي رحيل.
هناك عدد كبير من الأعزاء، أصدقاءً وإخوةً ورفاقًا، رحلوا وهم يرحلون بوتيرة متسارعة مع تقدم عمري وأعمارهم أو بطريقة لا يعرف أسرارها العشوائية غير الموت ربما، لكنه مع ذلك رحيل يبدو من منطق الأشياء. رتابة الحياة الدنيا: ميلاد وفرحته ومرض وآلامه ورحيل ونصيبه المؤكد من الأحزان ومن الدموع. ولكن ذلك يظل ضمن منطق الأشياء. فمن سيدفن من؟ ومتى؟ هذا سؤال متواتر بين الإنسان ونفسه وبينه وبين أحبائه. يقال جهارًا مرات قليلة ربما، لكنه سؤال وجودي عميق ملازم للنفس لا يكاد يغيب عنها حقا إلا في ما ندر من الأحوال.
هذا قدر. هذا قضاء وقدر، نقول عبر لغاتنا المختلفة، استكانةً وخضوعا، تعبيرًا عن يقين عاجز حتى عن التفكير في تغيير منطق الرحيل المتواتر الأبدي بل وعن استعادة السكينة إلى رجة الأعماق وتوتراتها جراء وقع صدمة ساعة الرحيل.
لكن الرحيل الذي يبدو متماثلا في مواصفاته البادية بل والذي يمكن الاعتقاد بكونه وحيد جنسه بين بني البشر، ليس كذلك في الواقع. فكل رحيل فريد نوعه. وهذه الفرادة بالذات هي التي تقف حاجزًا رئيسًا أمام تقديم هذه الكلمة في حق عبد المالك الجداوي.
لا أريد الإيحاء بأن كلمتي في الفقيد مجروحة بحكم علاقات المحبة والرفاقية العالية التي جمعت بيننا لسنين طويلة، وخلال منعطفات مصيرية من حياتنا النضالية المشتركة. فهذا ليس قصدي، على الإطلاق، بل أقصد دعوتكم ان لا تنتظروا مني كلمة الوقائع والأحداث والمسؤوليات، لأنها لا تفي بالغرض في هذا الرحيل، وفي هذا الراحل الكبير عبد المالك الجداوي بالذات. لذلك اخترت لكلمتي أن تكون كلمة الوجدان العميق، كلمتي الفريدة التي تتلاءم مع هذا الرحيل والفقد والمصاب الفريد.
قد تستغربون إذا قلت لكم اليوم إنني لم أكن أعرف عبد المالك الجداوي حقًا، وعندما عرفته كذبت نفسي وهمها فيه، إذ أثبتت لي أنني أعرفه منذ زمن بعيد لا بداية له في وعيي، وربما في لا وعيي العميق أيضا. لذلك يستحيل علي اليوم أن أقول الكثير حول ما أعرفه أو خبرته من عبد المالك، لذلك اعذروني إذا قلت لكم إنه عبد المالك الجداوي.
لكن المناسبة تفرض طقوسها وكل الطقوس لها لغتها ورموزها الخاصة، ولست هنا لأتهرب من منطقها لكنني سأحاول قدر الإمكان إخضاعها لما يتطلبه بعض الوفاء لروح رجل كبير، وفي مقام مهيب مقام الرحيل ومشهد التأبين.
عرفت عبد المالك بقلبي، استوطن الوجدان قبل أن تستقر عيني على عينه، لذلك فأنا سأنطلق من وجداني في كلمتي المتواضعة هذه في حق فقيدنا الكبير.
ليس عبد المالك متفائلًا كغيره من المتفائلين، ليس عبد المالك حالمًا مثل غيره من الحالمين، وليس عبد المالك سياسيا كما غيره من السياسيين، هو تركيبة نوعية خاصة لكل ذلك، لأنه كان يميز دومًا وبدقة لا متناهية وبقدرة فائقة، بين تلك الحالات الوجدانية والنفسية عندما يكون التمييز بينها ضروريًا ودالًا أو موجهًا للفعل النضالي والإنساني معًا. فلا تجد عبد المالك في ذلك يتنكر لهذه الحالة ليعانق تلك، في قطيعة وهمية بينها وإنما يضع كلا منها في المكان المناسب في الوقت المناسب في أعماق أعماقه. لذلك تراها تتبادل البروز على السطح وتتخذ مركز الصدارة الذي يليق بها عند تعاظم منسوب كل منها ضمن البيئة التي هي بيئتها الخاصة بها، وفي سياق قراءة عبد المالك الخاصة والفريدة لعناصرها وما يريده منها أن تعبر عنه أو تقوم به من أدوار.
لذلك نادرا ما تشعر أن عبد المالك قلق أو حزين أو يائس، بل تجده غاضبا في الحالات التي تدعو إلى القلق أو الحزن أو اليأس. فلكأن الغضب وسيلته لقهر أسباب القلق والحزن والقنوط واليأس. وفي ظني أن عبد المالك بارع في إدارة معركة الغضب في وجه القلق والحزن واليأس. وهكذا انتصر على تلك الحالات جميعها فأعطى مثالًا حيًا على التفاؤل الحالم المتوازن، وقدم أكثر من عربون على شيم السياسي النزيه، السياسي المتفاني في حب الوطن في خضم الشدائد: شدائد الوطن والشدائد على الوطن.
من هنا أصالة الرجل في حياته المفعمة بالأحداث الجسام خلال المنعطفات السياسية الكبيرة، تمامًا كما في الحالات الإنسانية الكبرى في حياته الخاصة وفي حياتنا العامة جميعًا. ومن هنا وجه الفرادة في رحيله المفعم بالعبر والدلالات .
جاء في نعي الكاتب الأول باسم القيادة والقواعد في الاتحاد الاشتراكي لأخينا عبد المالك الجداوي
«لبى نداء ربه الأخ عبد المالك الجداوي، أحد الوجوه البارة في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ومن الأطر المغربية الأصيلة، التي جمعت بين الالتزام الاشتراكي الديموقراطي، والأفق الوطني، والانحياز الكوني، المناضل الذي ميزتْ علاقاتِه الانسانيةَ والتنظيمية قيمُ الوفاء والشهامة، يعرفه المناضلون الشباب والنقابيون في الجامعة والديبلوماسيون في الجبهات الخارجية بخصال التفكير العقلي والعلمي الصارم والقلب الإنساني الخصب والحرص التنظيمي على النجاعة، بشكل لا مثيل له… عرفه إخوانه وأخواته في الاتحاد دوما مناضلا ملتزما بوطنيته وتقدميته وحريص على اللباقة الأخلاقية وفن التواصل، وكل ذلك متلازم مع الصبر الكبير في كل الملمات..
ولقد سجل الفقيد صفحات شخصية وجماعية ناصعة، عندما كان مناضلا بارزا في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، أيام الرصاص، كما عرف عنه نشاطه خارج المغرب عندما التحق بروسيا السوفياتية لمتابعة تعليمه العالي، ويتخرج من كلياتها مهندسا كيميائيا، عمل بعدها أستاذا جامعيا بكلية العلوم بجامعة محمد الخامس بالرباط ما بين سنة 1971 و 1981.
وعُرف عن الفقيد نشاطه الديبلوماسي داخل أروقة الخارجية، لما شغل منصب مدير الشؤون العربية والإسلامية بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون لمدة أربع سنوات، وكذلك مدير التعاون الاقتصادي والتنسيق القطاعي لأربع سنوات بنفس الوزارة. وهو أحد المؤطرين العاملين في الظل للأطر الديبلوماسية…
نال الفقيد ثقة جلالة الملك محمد السادس، فتم تعيينه سفيرا للمملكة المغربية بروسيا الفدرالية من سنة 2000 إلى 2005، وقبل ذلك تم تعيينه سفيرا للمملكة المغربية بدولة السويد ما بين سنتي 1999 و2000.
ولم يمنعه أي ظرف من الظروف من العمل النضالي والتنظيمي داخل تنظيمات حزب القوات الشعبية، وظل يشتغل مع قيادة الحزب في الواجهة الديبلوماسية الموازية، ناصحا وعاملا ميدانيا ومؤطرا وموجها ورفيقا في كل الرحلات والأنشطة، إلى أن نال منه المرض وفرض عليه، رحمه الله، تحجيم نشاطه الجسدي.
رحم الله أخانا عبد المالك الجداوي، وأسكنه فسيح جناته وألهمنا وألهم أسرته الصغيرة والكبيرة الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون..»
عبد المالك أستاذ، حكيم، وفي؛ وفي للحزب، للوطن ، وفي للملكية؛
عبد المالك اتحادي أصيل، صادق ونزيه، وفي للأصدقاء والإخوان، وفي لقيادة الاتحاد الاشتراكي …بدأ وفيا ومات وفيا…
إنها خسارة كبرى يمنى بها المغرب بكل مكوناته الوطنية الحداثية والديمقراطية.
رحم الله فقيد الحزب والوطن، وألهم ذويه الصبر والسلوان.إنا لله وإنا إليه راجعون.

الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 21/07/2023

التعليقات مغلقة.