احتجاجات الشباب… الفاتورة المؤجلة لتغوّل الحكومة

نورالدين زوبدي
في لحظة سياسية دقيقة تعيشها البلاد، خرجت احتجاجات شبابية غير مؤطرة، تقودها فئة جديدة من المجتمع المغربي: الشباب. هذه الاحتجاجات لم تأتِ من فراغ، بل كانت نتيجة تراكمات طويلة أفرزتها أزمة ثقة حادة بين الشارع والحكومة، التي فشلت في التفاعل الجدي مع نبض المجتمع، واختارت بدلًا من ذلك سياسة التغوّل والإنكار.
الرد الحكومي على هذه التطورات لم يكن في مستوى اللحظة، ولم يعكس حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الأحزاب المكوِّنة للتحالف الحكومي. فاجتماع ثلاثي مقتضب لقادة الأغلبية، وبيان إنشائي يتحدث عن “تفهم المطالب”، لا يمكن أن يكونا ردًا على حراك اجتماعي شبابي واسع ومتنامٍ.
هل يُعقل أن تُواجه أزمة بهذا العمق السياسي والاجتماعي بهذا النوع من التدبير السطحي؟ المطلوب كان دعوة عاجلة لاجتماع وطني طارئ يضم الأغلبية والمعارضة على حد سواء، لتحمُّل المسؤولية الجماعية، وتغليب المصلحة الوطنية على الحسابات الحزبية الضيقة.
مواقف الحكومة، ولا سيما من خلال تصريحات بعض وزرائها، عكست نوعًا من الانفصال الصارخ عن الواقع. فقد تحوّلت جلسات البرلمان إلى منصات للتبرير واستعراض منجزات غير مقنعة، كما حدث مع وزير الصحة الذي لم يقدّم في اللجنة الاجتماعية سوى تبريرات تُناقض حقيقة ما يعيشه المواطن يوميًا.
وقد بلغ التناقض مداه حين أُجبرت الأحزاب المكوِّنة للحكومة على تعليق أنشطتها الجهوية خوفًا من الغضب الشعبي، رغم أنها هي نفسها التي قدّمت خطابًا انتخابيًا يقوم على الطابع الاجتماعي، وادّعت أنها حققت في هذا المجال ما لم تحققه الحكومات السابقة مجتمعة.
غير أن رد الشارع كان صادمًا، وكان مستشفى أكادير نقطة البداية الرمزية التي كشفت المسافة الشاسعة بين الخطاب والواقع، وبين الادّعاء والإنجاز.
في بداية تشكيلها، وصف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية هذه الحكومة بـ”المتغولة”، محذرًا من اختلال التوازن المؤسساتي وغياب التعددية الحقيقية. لم يكن ذلك الموقف بدافع التموقع أو المعارضة من أجل المعارضة، بل من منطلق الدفاع عن المؤسسات وتحقيق التوازن الديمقراطي.
ولو أن ملتمس الرقابة الذي طُرح في وقت سابق لقي ما يستحقه من تفاعل ونقاش جاد، بدل أن يُقابل بالتحامل فقط لأنه جاء بمبادرة من الاتحاد الاشتراكي، لما وصلنا إلى حالة الانسداد والتصعيد الراهن.
فقد كانت تلك المبادرة فرصة دستورية لتصحيح المسار، وفتح أفق سياسي جديد، إلا أن التعامل معها بمنطق التجاهل والمناورة السياسية فوّت لحظة مهمة كانت كفيلة بإعادة التوازن وإحياء الحوار.
واليوم، تؤكد الأحداث الجارية أن تلك التحذيرات كانت مؤسسة، وأن التغوّل ليس فقط سلوكًا سياسيًا، بل أصبح واقعًا يُغذي الاحتقان الشعبي.
لو كانت الحكومة قد استمعت بجدية للمطالب التي رفعتها المعارضة والمؤسسات الوسيطة، لما اضطُر الشباب إلى التعبير عن غضبهم خارج الأطر التنظيمية.
فالاحتجاجات الشبابية ليست مجرد موجة عابرة، بل تعبير عن وعي جديد، وعن شعور متزايد بالإقصاء من القرار العام، بعد أن أُغلقت في وجوههم أبواب الحوار. إنها نتاج طبيعي لحالة التغوّل، ولنهج الإقصاء السياسي، وللوهم الذي عشّش في بعض الأوساط بأن السيطرة على صناديق الاقتراع تعني نهاية المسار الديمقراطي.
من أبرز العوامل التي فجّرت هذا النمط الاحتجاجي غير المؤطر أن قنوات الاحتجاج العادية، وعلى رأسها النقابات، فقدت صداها وتأثيرها بفعل التهميش المُمنهج من طرف الحكومة.
لم تعد احتجاجات النقابات قادرة على التعبئة أو الضغط، وهو ما دفع شرائح واسعة من الشباب إلى اللجوء إلى الشارع كمنفذ أخير للتعبير، وإن خارج كل الأطر التنظيمية.
لم يجد الشباب وسيلة لإيصال صوتهم سوى الخروج إلى الشارع، مستعينين بما تتيحه الثورة الرقمية من إمكانيات تواصلية هائلة، في مشهد احتجاجي جديد وغير مسبوق من حيث الشكل والمضمون.
في البداية، كانت الاحتجاجات اجتماعية، ترفع شعارات تتعلق بالخدمات والفرص والعدالة. لكن مع مرور الوقت، ومع استمرار التجاهل الحكومي وضعف التفاعل المسؤول، تحولت هذه المطالب إلى شعارات سياسية تطالب برحيل الحكومة نفسها.
وهذا التحول ليس إلا نتيجة حتمية لتعنت في المواقف، وغياب الإصغاء، والاستعلاء في تدبير الشأن العام.
الشباب الواعي الذي شارك في هذه المظاهرات عبّر بشكل صريح عن رفضه لسياسات الحكومة الاجتماعية، التي أثبت الواقع أنها لا تنبع من اختياراتها الحقيقية، بل من التوجه الملكي الذي يفرض التزامات اجتماعية واضحة.
وهو ما يضع الفاعلين السياسيين أمام مفارقة مؤلمة: فهم يرفعون شعار الدولة الاجتماعية دون قناعة، ويطبّقونها دون رؤية، فقط لأن السياق يفرضها، لا لأنهم يتبنونها.
الاحتجاجات التي نشهدها اليوم ليست لحظة عابرة أو موجة مؤقتة، بل إنذار سياسي واجتماعي يجب أن يُؤخذ بجدية.
إنها لحظة لتصحيح المسار، واستعادة الثقة، وفتح قنوات حوار حقيقي مع كل الفئات، خاصة الشباب.
إن الرهان لم يعد فقط على تنفيذ برنامج حكومي، بل على تجديد العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين المواطن والمؤسسات.
وأول شروط هذا التجديد هو الاعتراف بالأزمة، والقطع مع منطق التغوّل، والعودة إلى روح التعددية والإنصات.
الكاتب : نورالدين زوبدي - بتاريخ : 06/10/2025