الاتحاد الاشتراكي والسعي المتواصل لإعادة الاعتبار للفعل السياسي في وقت الأزمات

محمد السوعلي (*)
مقدمة: تساؤلات من عمق الأزمة
هل يكفي أن نتحدث عن مؤشرات النمو لنقنع الناس أن الأمور بخير؟ وهل تنجح الشعارات الحكومية في حجب مرارة الواقع المعيشي؟ ثم، إلى متى سنواصل إدارة شؤون هذا البلد بنفس الأدوات التي أثبتت فشلها مرارًا؟
أسئلة تتزاحم في ذهن المواطن المغربي، وهو يواجه يوميًا مزيجًا خانقًا من الغلاء، وتردي الخدمات الصحية والتعليمية، وسكن غير لائق، وانهيار الثقة بين الدولة ومواطنيها. فالأزمة لم تعد ظرفية، بل أصبحت هيكلية، تنخر كل تفاصيل الحياة اليومية.
إننا لا نعيش مجرد اختلالات متفرقة، بل أزمة بنيوية تتجسد في منظومة تعليمية متراجعة، وقطاع صحي منهك، وأسواق تتحكم فيها المضاربة، وإدارة عمومية مثقلة بالبيروقراطية والجمود. هذه كلها ليست سوى تجليات لوضع أكثر عمقًا، وضع يُعمّق التفاوت ويُضعف اللحمة الوطنية.
نحن لا نواجه فقط أزمة معيشية، بل أزمة تدبير. ولأن الحكومة تمتلك كل أدوات السلطة ومع ذلك تفشل في التغيير، فإن ذلك يعني أن المشكلة لا تكمن في الموارد، بل في التوجهات النيوليبرالية المعتمدة.
اللحظة تفرض مراجعة جذرية لنهج الحكم. لقد آن الأوان لإعادة ترتيب الأولويات وبناء نموذج جديد يضع الإنسان في صلب السياسات، بدل أن يظل على هامشها.
حكومة الأغلبية المطلقة… والإنجازات المعدومة
هذه ليست عبارة إنشائية، بل توصيف دقيق لحالة سياسية استثنائية: حكومة تحظى بأغلبية عددية واسعة، بدعم ملكي، وفي ظرفية دولية مواتية، لكنها عاجزة عن تحقيق أي إنجاز نوعي. أغلبية مطلقة في المقاعد… ونتائج محدودة بعيدة كل البعد عن العروض الانتخابية، وخطاب تبريري بائس يعكس عدم توفر القائمين على الشأن العام على رؤية سياسية.
هذه الحكومة لم تَصعد في سياق أزمة أو تحالف هش، بل جاءت بتفويض شعبي قوي، كان من المفترض أن يُترجم إلى إصلاحات حقيقية. لكن سرعان ما بدا واضحًا أن الخطاب الانتخابي تغيّر، أما النهج، فظل رهين المراوحة والتسويف.
رغم محاولات الترويج لإنجازات عبر الإعلام الرسمي، فإن الميدان يكشف واقعًا مختلفًا. قضايا الشغل، والتعليم، والصحة ما زالت تراوح مكانها، بل تتراجع في بعض الجوانب. آلاف الشباب يعانون البطالة، والأسر تغرق في النفقات، والدولة تنسحب تدريجيًا من مسؤولياتها الاجتماعية.
أما الوعود الحكومية حول إصلاح الضرائب، ودعم الطبقة الوسطى، وتحقيق العدالة المجالية، فقد بقيت حبرًا على ورق، فيما تواصلت الضغوط على الفئات الهشة، وسط تدهور متواصل لجودة الخدمات. إن التطبيع مع الأزمة واعتبارها قدرا محتوما في أسلوب الحكم هو أخطر ما في الوضع الحالي، لأنها تعفي الحكومة من مساءلة نفسها ومن مراجعة اختياراتها، و البحث عن بدائل، بل الأدهى من ذلك أنها تصبح هي نفسها منتجة للأزمة لا معالجة لها. وتجعل من التفويض الشعبي الذي حظيت به مبررا لمواجهة الانتقادات التي تطال سياساتها وغطاء للعجز، غير عابئة بتحويل ثقة الناخبين إلى خيبة. لقد أصبحت الأغلبية الحكومية نتيجة ذلك إلى عبء سياسي.
اقتصاد يُجمِّل الأرقام…
ويقسو على الجيوب
في البيانات الرسمية، تتحدث الحكومة عن تحسن المؤشرات الاقتصادية، وارتفاع الاستثمارات، وتحقيق نسب نمو واعدة. لكن على أرض الواقع، في الأسواق، في فواتير الكهرباء، في أسعار البنزين والمواد الأساسية، تظهر صورة أخرى تمامًا.
المواطن العادي لا يلمس أثر هذه المؤشرات، بل يشعر أن الاقتصاد يُراكم الأرباح لفائدة القلة، بينما تزداد معاناته اليومية. وحتى لغة الأرقام الحكومية لا تصمد أمام بيانات المندوبية السامية للتخطيط: نسبة بطالة الشباب الحضري بلغت 33.4%، و27.6% في صفوف حاملي الشهادات، في دلالة واضحة على عجز السياسات الحالية عن إدماج الطاقات والكفاءات.
أما في القطاع الصحي، فـ54.8% من التكاليف تُؤدى مباشرة من جيوب الأسر، ما يكشف هشاشة الحماية الصحية، واستمرار تغول القطاع الخاص في غياب سياسة عمومية منصفة.
في المقابل، اختارت دول كالبرتغال بعد أزمة 2011 أن تعيد ترتيب أولوياتها، فرفعت ميزانية التعليم بنسبة 12% خلال ثلاث سنوات. أما في المغرب، فالتقشف هو الخيار، والفوارق في توزيع الموارد تتسع، والخطاب الحكومي يُبرّر الفشل أكثر مما يبحث عن الحلول.
معارضة غير متجانسة … واتحاد اشتراكي يعمل على تقديم بدائل ملموسة
في ظل هذه الظرفية المقلقة، يبرز الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية كفاعل سياسي أساسي، بحمولته التاريخية، وبرصيده في الدفاع عن الدولة الاجتماعية، وبمساهمته في صياغة النموذج التنموي الجديد.
غير أن السؤال اليوم هو: هل تمتلك باقي أطياف المعارضة الشجاعة الكافية لتشكيل جبهة سياسية موحدة تقودها المدرسة الاتحادية؟ خاصة بعد الموقف المتردد للبعض إزاء ملتمس الرقابة الذي تقدم به الاتحاد، والذي شكّل امتحانًا حقيقيًا للمعارضة في تفعيل أدوارها الدستورية.
صحيح أن المعارضة ليست مجبرة على الانسجام التام، لكن في لحظات استثنائية، كتلك التي نعيشها، تُصبح مطالبة بموقف موحد، واضح ومسؤول، أمام الشارع الغاضب والأزمة المتفاقمة.
الاتحاد الاشتراكي، من جهته، يُظهر دينامية متصاعدة: جولات تنظيمية للكاتب الأول، إعادة هيكلة جهوية وإقليمية، تحرك فعّال للشبيبة والقطاع النسائي، واستعداد مبكر لمحطة المؤتمر الوطني الثاني عشر، الذي يُراهن عليه الحزب لبناء أداة تنظيمية أكثر صلابة وجاهزية للاستحقاقات المقبلة.الاتحاد لا يكتفي بالخطاب، بل يتحرك ميدانيًا، ويؤطر المواطن، ويُعيد الثقة للسياسة. وهو اليوم مطالب أكثر من أي وقت مضى بأن يقود معارضة حقيقية: موحدة، واضحة الرؤية، متجذرة حاملة لهموم المواطن اليومية.
لا مفر من البديل: الإصلاح
أو الانهيار التدريجي
رغم قتامة المشهد العام، فإن الأمل ما زال ممكنًا. لكنه لا يمكن أن يُبنى على مجرد المتمنيات أو الشعارات الرنانة، بل يتطلب وعيًا جماعيًا صادقًا يقطع مع الفوضى والارتجال، ويعيد إلى السياسة معناها النبيل، باعتبارها أداة لخدمة الصالح العام، لا غطاءً للهيمنة أو التسويف.
تجاوز الأزمة التي تعصف بالبلاد يقتضي اتخاذ قرارات جريئة وعاجلة تُعيد الاعتبار للعدالة الاجتماعية وللدولة الاجتماعية، وتضع الإنسان في قلب السياسات العمومية، وفي مقدمة هذه الإجراءات إطلاق إصلاح ضريبي حقيقي يُنصف الطبقات الوسطى والمحدودة الدخل، ويُسهم في إعادة التوازن إلى منظومة الموارد الوطنية. كما يفرض الوضع الاجتماعي المتأزم إحداث صندوق وطني لمواجهة غلاء المعيشة، يُوجَّه لدعم القدرة الشرائية للفئات الهشة والمتوسطة التي باتت تختنق تحت ضغط الأسعار وتكاليف الحياة اليومية.
وفي ظل ما تعرفه القطاعات الاجتماعية من فوضى واختلالات بنيوية، أصبح من الضروري اعتماد منظومة موحدة للرقمنة في مجالي الصحة والتعليم، كخطوة مركزية نحو تحسين التخطيط وجودة الخدمات، وتجاوز التفاوتات المجالية والمؤسساتية. كما أن من مقتضيات العدالة المجالية إعادة توجيه الاستثمار العمومي نحو الجهات والمناطق الأكثر هشاشة وتهميشًا، عوض الاستمرار في تكريس التمركز الجغرافي والاقتصادي. وأخيرًا، فإن كل إصلاح جدي يظل رهينًا بتقوية آليات الرقابة والمساءلة، وربط المسؤولية بالمحاسبة بشكل فعلي، داخل كل مؤسسة منتخبة أو تنفيذية، بما يضمن شفافية التدبير، ويعيد ثقة المواطنين في مؤسساتهم، وفي مستقبلهم الجماعي.
خاتمة
لقد أثبتت حكومة الأغلبية المطلقة أنها الأكثر ضعفًا في الإنجاز، رغم ما تملكه من أدوات. اختارت الانفراد بالسلطة بدل فتح المجال للمشاركة والتشارك، والتسيير الانفرادي بدل الحوار، وغلبت الحسابات على الرؤية.
أمام هكذا وضع، يعمل الاتحاد الاشتراكي، انطلاقا من مسؤوليته كحزب ساهم ولا زال في الدفاع عن الديمقراطية وعن العدالة الاجتماعية، على صياغة تصوره لحلول للمشاكل والتحديات التي أصبحت تؤرق المواطن المغربي، ستتوج بتقديم برنامج واضح، ومشروع سياسي يُراهن على العدالة والكرامة والحق في غدٍ أفضل. لقد حان وقت للقطع مع الوعود الفارغة، وللرهان على بديل سياسي يُعيد الاعتبار للمواطن، ويُرجع الثقة للمؤسسات، ويجعل من السياسة وسيلة للإنصاف لا واجهة للهيمنة.
(*) عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والأخلاقيات
الكاتب : محمد السوعلي (*) - بتاريخ : 24/06/2025