«التشغيل» الذي يحرم طفولتنا البريئة من حقوقها المشروعة

محمد أديب السلاوي

-1-
الفقر في مجتمعنا الراهن، لم يعد يدفع فقط الآباء والأمهات إلى البؤس / إلى جحيم الحياة، بل امتد إلى الأطفال ليحرمهم من براءة طفولتهم، وليدفعهم إلى التخلي عن التمدرس والقيام بأعمال ومهن خطيرة لا تتناسب مع أعمارهم وحداثة سنهم، من أجل العيش، أو من أجل إعالة ذويهم، أي من أجل تحميلهم مسؤوليات الإنفاق على البيت والأسرة، في ظل إكراهات السياسات الاجتماعية الفاشلة والظالمة للحكومة / الحكومات المتعاقبة…
لقد كشف تقرير جديد حول هذه الإشكالية، أنجزته مؤخرا المندوبية السامية للتخطيط بمناسبة الاحتفاء باليوم العالمي لمكافحة تشغيل الأطفال، أن حوالي 250 ألف طفل (تتراوح أعمارهم بين 7 و17 سنة) يعملون في خدمات ومهن لا تناسب أعمارهم، 162 ألف منهم يزاولون أعمالا خطيرة.
ويقول التقرير: من بين القطاعات التي تسجل أعلى مستويات تعرض أطفال الفقر للأخطار، يأتي قطاع البناء والأشغال العمومية، متبوعا بقطاع الصناعة…والصناعة التقليدية، إضافة إلى قطاع الخدمات، وقطاع الفلاحة والغابة والصيد البحري.
طبعا تقرير المندوبية السامية للتخطيط لم يشر لأمن قريب ولا من بعيد، إلى «أطفال الشوارع»، المتسولون / ماسحو الأحذية / الباعة المتجولون، الأطفال المتخلى عنهم، ويعدون بعشرات الآلاف إن لم نقل مئات الآلاف الذين يشكلون وحدهم ظاهرة مؤلمة في كل جهات المملكة، ولا يشملهم أي إحصاء، في غياب شبه كلي لحمايتهم من ويلات الفقر وأمراضه المعدية التي لا تعد ولا تحصى.
يعني ذلك بوضوح، أن حالة الفقر التي بدأت تشمل الأطفال الأبرياء في العالمين القروي والحضري، والتي تلتهم حياتهم وحقوقهم، وتدفعهم ليتحملوا ما لا طاقة لهم به، أضحت تحرمهم من كل الحقوق البسيطة، التي من واجب الأسرة والمجتمع والدولة توفيرها لهم، منها حق التعليم / حق اللعب / حق الرعاية الصحية والنفسية، وكل الحقوق الإنسانية الأخرى.
-2-
تقودنا هذه الإشارات المؤلمة حتما إلى ظاهرة / قضية « تشغيل الأطفال» في بلادنا، وهي قضية كبرى في قطاع الطفولة، تتخذ أبعادا سلبية مختلفة، في مجتمع مغرب اليوم، ومجتمع مغرب المستقبل القريب على السواء، مادام طفل اليوم، هو رجل الغد.
ولأن ظاهرة « الأطفال الكادحين» في بلادنا واسعة، تصبح أسئلتها محرجة ومخيفة في مغرب الألفية الثالثة / يعانق الديمقراطية وحقوق الإنسان ويتخذهما سلاحا لمواجهة التخلف والعولمة.
فإلى أي حد يستطيع مغرب الألفية الثالثة تأمين حقوق طفولته، وهي حقوق لا تؤمن فقط سلامة المغرب الراهن، بل يمتد تأمينها إلى الأجيال القادمة…؟
وبداية ما هو حجم ظاهرة تشغيل الأطفال بالمغرب ؟
وما هي آثارها السلبية على أجبال مغرب الغد ؟
وما هي الخطوات التي يقطعها المغرب الراهن لمعالجة هذه الظاهرة ؟
في واقع الأمر، إن « تشغيل الأطفال» لم يكن في الماضي المغربي مرتبطا بأية أزمة اجتماعية أو اقتصادية، ولكنه كان (ببعض مناطق العالم القروي) مرتبطا بتقاليد القبائل، والأسر الفلاحية الصغرى وبأعرافها المتوارثة، حيث كان الأطفال يصاحبون آباءهم في الحقول من أجل التكوين أو من أجل التدريب، على تحمل المسؤوليات، ولكن تفشي ظاهرة الفقر ودخول سياسة التقويم الهيكلي حيز التطبيق في مطلع الثمانينات الماضية، أعطى ظاهرة تشغيل الأطفال وجودها الفعلي على ارض الواقع، بشكل ملفت للنظر.
وحسب المحللين والدارسين: أن تشغيل الأطفال في « المغرب الجديد» جاء نتيجة طبيعية لعدة عوامل مركبة، يعتبر الفقر وسوء التخطيط والتخلف وسياسة التقويم الهيكلي من أهم عواملها.
فالسياسات الحكومية الفاشلة المتعاقبة، نتيجة لهذه العوامل، تخلت عن بعض من أدوارها في القطاعات الحيوية، كالصحة والتشغيل والسكن والتعليم، كما تخلت عن دورها الأساسي في بلورة إستراتيجية وقائية للتنمية الاجتماعية، فتدنت القدرة الشرائية للمواطنين وبدأ المجتمع يعجز عن كفالة نفسه، فانفجرت ظواهر سلبية عديدة، منها ظاهرة البطالة وظاهرة الهجرة القروية وظاهرة أطفال الشوارع وظاهرة «تشغيل الأطفال» موضوع هذا المقال.
وحسب المحللين أيضا، أن الطفل في الأوساط التي مسها الفقر بالعالمين القروي والحضري، دفع الطفولة بقوة وعنف إلى عالم التشغيل، لتصبح أجيرة ثانوية في العائلة تساهم ب 30% إلى 40% من دخل الأسرة، كنتيجة طبيعية لانعدام إمكانيات التدريس والرعاية، وأن الوضعية المادية المتدنية للشريحة الكبرى من المجتمع قياسا للحالة الاجتماعية والاقتصادية العامة ومقارنتها بالارتفاع المتزايد الذي يمس أسعار المواد الضرورية للحياة الكريمة، تدفع العديد من الأسر إلى دفع أطفالهم إلى جحيم التشغيل، حيث يعيش السواد الأعظم مرارة الغلاء، غلاء المعيشة وارتفاع تكاليف السكن وانسداد آفاق التشغيل في المدن. وتخلف الحياة في البوادي لعدم توفرها على ضروريات العيش من غذاء وماء وكهرباء وقنوات للري وشبكات للطرق، ومستشفيات ومدارس ومعامل ومنشآت فلاحية وزراعية وصناعية، تؤمن للناس حياتهم.
نتيجة لهذه الوضعية، أصبحت « أوضاع « الطفولة المغربية عامة، ( وهي تشكل اليوم حوالي 15 مليون طفل تقل أعمارهم عن 18 سنة) أوضاعا مزرية تتميز بالهشاشة في كل المجالات، وفي مقدمتها مجالات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والتشغيل.
-3-
ولاشك، فإن انعكاسات الفقر وضعف «التعامل» مع حقوق الطفل في مغرب اليوم، كما تمس الآليات والأدوات البيداغوجية والترفيهية والتنشيطية لعالم الطفل، تمس تطور وإصلاح المؤسسات المكلفة بتكوين المكونين والمؤطرين لعالم الطفل. فالفقر آفة تمس الآليات التربوية والثقافية، قبل أن تمس حقوق الطفل داخل المؤسسات الاجتماعية ودور الشباب. وهو ما يضعف الإسهام في تلبية حاجياتهم التربوية المتعددة والمختلفة وبدفعهم إلى البحث عن عيش بديل.
يعني ذلك، أن الطفل في الفئات المحرومة أصبحت تتكاثف ضده عوامل بيئية ومادية عديدة، تدفع به إلى خارج الأسرة وخارج المدرسة ليبحث عن معيشه اليومي… وعن حياة بديلة.
يقول المربون الذين تابعوا هذه الظاهرة، عن قرب : إن «أطفال الفقر» الذين يجبرون على الشغل في سن مبكرة لا يعانون فقط من قسوة الظروف الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، التي دفعت بهم إلى «الشغل» ولكنهم أكثر من ذلك، يعانون من قسوة المحيط، الذي يعاني بدوره من الأمية والقهر والفقر والفراغ، محيط يعرضهم إلى العقاب الجسدي والعقاب النفسي، والتخجيل والاستهزاء، وكلها أسباب تدفع إلى الاغتراب والى البحث عن بديل، حتى وان كان أقسى من وجودهم.
وفي نظرهم أيضا، أن الطفل في البيئات الفقيرة، في الحواضر والبوادي، بالإضافة إلى معاناته التقليدية داخل محيطه الأسري، أصبح بسبب شغله المبكر، يعاني أيضا من التهميش والعزلة، ومن صعوبة الاندماج والتواصل مع المجتمع.
في العالم القروي، أصبح الطفل يعاني بالإضافة إلى كل ذلك، من سوء التمدرس، حيث تلعب المدرسة دورا بارزا في زرع «القلق» في عقله وفي واقعه. ذلك لأن ما تنقله إليه المدرسة من قيم وأفكار وصور ذهنية ومعلومات، لا علاقة له ببيئته ومحيطه وحياته ومعيشه. فهي غالبا ما ترتبط بعالم مغاير، بحياة مدنية مغايرة وربما بتاريخ مغاير أيضا.
لربما تجعل المدرسة من طفل العالم القروي مهاجرا بالقوة، ينتظر الفرصة السانحة لمغادرة قريته والانضمام إلى قوافل أطفال «الفقر» و»السياحة» في أطراف مدن القصدير من أجل البحث عن حياة بديلة.
إحدى الدراسات المتعلقة بالهجرة القروية في المغرب، تشير إلى أن عدد قدماء التلاميذ الذين يهاجرون إلى المدينة «للعمل» و»العيش» قد يصل في بعض المراكز القروية إلى تسعين بالمائة، فاحتكاك التلاميذ بالأفكار الحديثة التي توفرها المدرسة، ووسائل الإعلام، ولاسيما التلفزيون يجعل هؤلاء التلاميذ يكتشفون سلبية الحياة في البادية، ويحلمون بحياة المدينة بما فيها من مغريات لا تتوفر في العالم القروي.
وفي نظر أحد الخبراء في علم التربية، إن الكتاب المدرسي يلعب دورا هاما في شعور الطفل، لا سيما في البوادي، وأن ما يلقن إليه من خلال هذا الكتاب، لا علاقة له بواقعه وباهتماماته…وقلما يحاول الكتاب المدرسي تناول موضوعات تسمح للطفل القروي أن يتفتح على بيئته الطبيعية ومحيطه الاجتماعي ويتعرف على ذاته…
وفي نظر أحد المربين، أن طفل العالم القروي، نظرا للوضعية الاجتماعية والاقتصادية لمحيطه شديد الفقر، أصبح مجبرا على «بيع عضلاته» من أجل الخبز، فهو يفتقر إلى تربية متكاملة ومتوازنة، ويحتاج إلى المساعدة الغذائية والتربوية في نفس الآن، ولن بتأتي ذلك، سوى بالعمل الكريم وبالعيش الكريم….
وحسب دراسات أكاديمية مغربية، آن معظم الأطفال الكادحين في مغرب اليوم، هم من «أطفال الفقر» مهاجرون من القرى أو ينتمون إلى أسر عاطلة أو إلى أسر فلاحية تملك قطعا أرضية صغيرة أو لا تملك شيئا، ينتمون إلى أسر تعيش في أكواخ مدن القصدير، أو إلى أسر كبيرة العدد، تعيش ظروفا اقتصادية صعبة بسبب الفقر ومشتقاته، في المدن وأحزمتها.
إن الفقر بقوته الشرسة / فرض / يفرض على الطفولة البريئة «العمل» / المغامرة، بحثا عن المال والخبز، للمساهمة في إنقاذ أسرها المرابطة بأحزمة الفقر في المدن وفي البوادي، تنتظر الذي يأتي ولا يأتي.
أفلا ينظرون…؟

الكاتب : محمد أديب السلاوي - بتاريخ : 27/06/2018