التهريب الحقيقي والأكثر خطورة !

اسماعيل الحلوتي

على غرار ما باتت تعرفه عدة مدن مغربية في السنوات الأخيرة من غليان، عاشت مدينة الفنيدق مساء الجمعة 5 فبراير 2021 على وقع احتجاجات صاخبة، حيث خرج مئات المواطنات والمواطنين نساء ورجالا، صغارا وكبارا، استجابة للدعوة التي أطلقها نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، قصد التنديد بتدهور الأوضاع والمطالبة بضرورة إيجاد حلول عاجلة لمشاكلهم المتفاقمة، إخراج المدينة من دائرة التهميش والإقصاء وتحرير أبنائها من قيود الفقر والبطالة، لاسيما بعد فقدان مورد رزقهم الوحيد المعتمد على «التهريب المعيشي»، مما أجبر السلطات على التدخل لفض التجمهر، بدعوى خرق مقتضيات حالة الطوارئ الصحية وعدم الترخيص بتنظيم الوقفة الاحتجاجية…
وبصرف النظر عما ترتب عن التدخل الأمني العنيف والرشق بالحجارة من طرف بعض الصغار، من وقوع إصابات متفاوتة الخطورة في صفوف الطرفين واعتقال عدد من النشطاء، فإن خروج الساكنة بذلك الزخم الكبير أملته ظروف العيش الصعبة التي لم يعد أحد منهم يطيقها، خاصة بعد نفاد صبر الجميع في انتظار تحقيق وعود المسؤولين أو فتح معابر «التهريب المعيشي» المغلقة منذ أزيد من سنة، وما تلا قرار الإغلاق من تداعيات تفشي جائحة «كوفيد -19»، وفقدان ما لا يقل عن 12 شابا من أبناء منطقة المضيق والفنيدق في عرض البحر، الذين كانوا يريدون الفرار من «جحيم» بلادهم إلى الضفة الأخرى نحو أوربا من أجل تأمين قوت عيشهم وعيش أسرهم.
فرغم أن الحركة التجارية بالمدينة كانت تعرف رواجا واسعا، وأنه ليس لها من أنشطة اقتصادية أخرى غير التهريب، عبر نقل السلع من مدينتي سبتة ومليلية السليبتين وبيعها في مختلف ربوع المملكة، باعتباره التجارة الوحيدة التي تشكل مصدر رزق آلاف المغاربة منذ عقود، إلا أن بعض الجمعيات الحقوقية لم تفتأ تطالب في أكثر من مناسبة بإغلاق المعبر الحدودي والبحث للمشتغلين في «التهريب» عن السبل الكفيلة بإنقاذهم من الضياع، إذ أصبح المعبر الذي يستقبل يوميا آلاف الأشخاص يشكل وصمة عار في جبين مغرب القرن الواحد والعشرين، بسبب الظروف غير الإنسانية التي يشتغل فيها «المهربون» من الجنسين، وتساقط أرواح بعضهم في حوادث تدافع تحط من كرامة الإنسان…
فالمسؤولون في مختلف المناصب وبجميع المدن يعلمون جيدا أن عشرات الآلاف من المواطنات والمواطنين يعيشون على عائدات «التهريب المعيشي» للسلع والبضائع من المدينتين المحتلتين السالفتي الذكر، وأن هذا النوع من الاتجار غير المشروع ليس وليد اليوم، بل هو من الأنشطة التي اعتادت عليها مدن الشمال منذ أكثر من نصف قرن، وأن هناك حوالي نصف مليون امرأة مغربية تضطر إلى امتهان هذا النشاط لإعالة أسرهن التي ترزح تحت وطأة الفقر المدقع، وأن سد المعبر الحدودي دون اتخاذ إجراءات مرافقة لفائدة المتضررين، قضى على آمالهم وأدخل المدينة في ركود مدمر، ويعد ضربة قاسية لهم ولأسرهم التي لولا «التهريب» ما كان لها أن تستمر في الحياة طوال كل هذه السنوات…
وفي ذات الوقت لا أحد منا يجادل في أن ل»التهريب المعيشي» عواقب وخيمة على البلاد والعباد، إذ إلى جانب كون البضائع المهربة تنافس بقوة السلع المحلية، يكبد «التهريب المعيشي» الاقتصاد الوطني خسائر فادحة تقدر بملايير الدراهم التي يمكن بواسطتها إحداث الكثير من المرافق الحيوية وتشغيل آلاف العاطلين، فضلا عن أن هناك شبكات إجرامية تستغل مثل هذه الأنشطة في تمرير أشياء أخرى أخطر، في ظل عدم وجود أي مراقبة صارمة حتى على مدى جودة وصلاحية تلك المنتوجات، التي من شأنها الإضرار بصحة وسلامة المواطنين. فأين نحن من تلك المنطقة الاقتصادية الموعودة، والهادفة إلى توفير فرص الشغل لأبناء المنطقة وإسعاف المدينة، التي أضحت تعيش أزمة اقتصادية خانقة تهدد الاستقرار والسلم الاجتماعي؟
فما يحز في النفس ويدمي القلب هو لزوم الحكومة والمنتخبين الصمت والاعتماد فقط على المقاربة الأمنية في مواجهة مثل هذه الأزمات الاجتماعية الحادة، علما بأن هناك الكثير من المقالات والتقارير الإعلامية التي ما انفكت تنبه إلى استفحال الأوضاع بالمنطقة وغيرها وتدعو إلى تجاوز الاختلالات القائمة قبل أي انفجار ممكن، وأن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي سبق أن أشار بدوره في أحد تقاريره إلى أن حل مشكل تنامي تجارة «التهريب المعيشي» لا يكمن في إغلاق معبري مدينتي سبتة ومليلية، وإنما في تنمية المناطق المحيطة بهما التي ظلت مهملة منذ عقود، والعمل على تخصيص تحفيزات ضريبية وتمويلية، وتبسيط الإجراءات الإدارية أمام الشركات الوطنية، تشجيعا لها على التوسع هناك. ثم لماذا لم تتم مواكبة المشاريع الملكية والبنيات التحتية التي أنجزت من أجل جلب الاستثمار؟
إن احتجاجات مدينة الفنيدق لم تكشف فقط عن حجم الاحتقان الشعبي وشعور الساكنة بالظلم والإحباط، بل كذلك عن فشل السياسات العامة وعجز المجالس المنتخبة عن تحقيق التنمية، وتؤكد على أن الحاجة باتت ملحة إلى خلق مشاريع تنموية حقيقية لتشغيل العاطلين وابتكار بدائل واعدة عن القطاعات غير المهيكلة. وعلى الحكومة تحمل كامل مسؤولياتها في ما يحدث بالمنطقة وباقي المناطق المهمشة والمقصية، فالتهريب الحقيقي والأكثر خطورة من باقي أنواع التهريب الأخرى من تهريب البضائع والأموال والمخدرات والبشر وغيرها، هو تهريب حقوق المواطنين إلى جيوب كبار المسؤولين والوزراء والبرلمانيين الذين يستنزفون أموال الشعب، بواسطة الأجور العليا وتعدد التعويضات والامتيازات والمعاشات الاستثنائية الخيالية…

الكاتب : اسماعيل الحلوتي - بتاريخ : 10/02/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *