الجَهْر بتَعاليم القصيدة نداء اليوم العالمي للشعر

عبد السلام المساوي

كلمة اتحاد كتاب المغرب إلى شعراء العالم، بمناسبة اليوم العالمي للشعر

الشعر تقْطيرٌ لشَهْد الحياة ونفْخٌ في مزامير النَّشوة.. فما أجمل ما تصنعه القصيدة بالأشياء والذكريات والأحلام القادمة، عندما يَروقُ مزاجُ الشَّاعر، أو يَأْتلق في شَطَحاته خياله. والشعر بتعدد هُويَّاتِه ولانهائية أشكاله يصون الحضارة، ويُحقّق عزّة الإنسان فوق الأرض. ومثل أورفيوس الهابِط إلى قعْر الجَحيم ليسْترجع حبيبتَه الهالِكة، فإنّ الشاعر يهْبط إلى قعْر اللغة ليأخذَ منْه ما يقْوى على حمله من مَباهج المَعْنى وسحْر المُعجزات. وفي هذا التَّمْثيل تأكيدٌ على أن الحُبّ والشّعر هُما القوتان الوحيدتان القادرتان على مُواجهَة كل أشْكال الموْت المادّي والرَّمْزي التي صارت سلعة رائِجة في أسْواق التّجارة المُعاصرة، بعد أن تجرَّأ الإنسان على نقل الحرْب من مَيادين الشَّرف والبُطولة، إلى المَقاهي والمَدارس والجَنائن التي تَعجُّ بالعُشّاق.
إنَّ ما تفْشلُ الأديانُ في تغييره في أرْواح النَّاس، ينجَح الشعْر فيه، رغْم الخَلفيات المُتقابلة التي تحْكُمُهما.. لأن المُتعبّد أخْطأ في تأويل «إلهه»، بيْنما أجَاد الشَّاعر في رسْم ملامح «شيْطانه»، فصار الجمال إحدي ممكنات التأويل، وأصبحت القصيدة دسْتور الرُّوح الذي يعلو بالإنسان إلى مراقي المحبة والعدالة الكونية.
لقد أصبحتِ الأيَّام الجميلة قليلةً بسببِ ما تراكم فيها من أحْداث وسُلوكات أمْلتها أسبابٌ مشْبوهة، وغذَّتْها نَوازعٌ انْتهازية في غيابٍ فادحٍ للرؤية الجمالية، قاهرة القبْح والفساد.. وما تحتاجه أيّام الناس كي يعود بهاؤها، ليْس الاكتفاء بالاحْتفال الوحيد بالشعر في يومه الأُمَمي الذي يُصادف أولَ أيّام الربيع من كل سنة، بل تحتاج إلى تجْديد درْس الشعر في الحَياة، عنْ طريق اسْتبدال الوعْظ باليَاسمين، ودعوة الكلمات إلى الرَّقْص مع الكلمات على إيقاعٍ يمْدح كل آتٍ جَميل.
لقدْ حانَ الوقتُ للجهْر بتعاليم القَصيدة، فمَا أحْوجنا إلى قَصيدةٍ تمْشي بيْن النَّاس بالحُبّ والخيْر.. قصيدةٍ لا تَرْكُن إلى مُجرد البوْح والشَّكْوى، بل تُعبَّأُ ـ رمزاً ـ بما ينْبغي أن يَحْدث. وما أحْوج الشُّعراء ـ على اخْتلاف مَدامِعهمْ ـ إلى نجْدة أنفسهم قبل أنْ تتوقف المُوسيقى ويَجفَّ نْع البَلاغة: أيّاً كانتْ هذه البلاغة، بلاغة جَدَّتهم الاستعارة، أو بلاغة حفيدتهم قصيدة النثر.. فليس الاعْتبار ببُلوغ النُّجومية في كتابة الشِّعر، ولكنَّ الاعْتبار ببُلوغ الشعر والذَّهاب ـ عبْره ـ بأمْتعةِ النّاس إلى المُسْتقبل..
صَحيحٌ أن القصيدةَ تشْبه زمنَها؛ إذْ لا ينتظر الشاعرُ حياةً سعيدة كيْ يكتبَ قصيدةً جميلة، فالفنُّ تعبيرٌ، وقد أنْتجت البَشريةُ أعْمالاً عظيمةً في ذِرْوة الفتن والكَوارث. إن ما يجْري، اليومَ، في الشَّرق العَربي منْ تَقْتيل سوريالي غذَّاه التطرف، وسَقَتْه اليقينيات حتى استبيحت قيمةُ الإنْسان الجسدية والروحية، إنما يتِمُّ بسبب تغْييب الشّعر واسْتحضار النّص الديني المُتطرف أو المُؤوَّل بإفْراط، وبسبب المناهج التربوية في البلاد العربيّة التي تُصور الشاعر دائماً درويشاً تائهاً في الصَّحْراء، أو تاجراً مُمعناً في بيْع الكلام..
ومَنْ قال إنَّ الشاعرَ أصْبح بعيداً عنْ قَلاقل المُجْتمع وأوْجاعه؟
إنه في صُلبها وصَهْدها، ولكنّه لا يتوجع بصوتها المُباشر، وما ينبغي له.. فوعيُه الجمالي يُحرّضُه على أن يتحول إلى ساحر: يكفي أن يمسَّ اللغةَ ليتحول مُعْجمُها إلى موسوعة من الرموز، ويكفي أن يفكر بالأساليب لترتبك القواعدُ، ويَنْتكس النَّحْو المَهْجور، فاسحاً للعباراتِ كي تخرج من بين أصابعه لاهبةً كالجمْر، ومُزدحمةً كالعنَب.
لقد كان الشاعر النمساوي راينر ماريا ريكله يقول: «إذا بدتْ لك حياتُك اليوميّة فقيرةً ومُقْفرة، فلا تتَّهمْها، بل قُلْ: إنّني لمْ أعُدْ شاعراً بالقدْر الذي يُمَكِّنُني من اسْتدعاء الثَّروات والأشْياء النَّفيسة المَخْبوءة في أغْوار الذَّات!! «. هذه هي الهبَة التي يَمْنحُها الشعر: الإحساس بالامتلاء الرُّوحي الذي يجْعلُ الحياة جديرة بأن تُعَاش.. وكل عام وأرواحُكم مُمْتلئة بالشّعر والحَياة..

الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 20/03/2018