الحسناء الضائعة !
بقلم: اسماعيل الحلوتي
لسبب ما لم يتبينه جيدا عادت الذاكرة ب»موسى» إلى ما وراء الوراء، قبل اشتعال رأسه شيبا واستعاضته عن أسنانه الطبيعية بأخرى اصطناعية، واستعانته على الرؤية والقراءة بنظارات طبية. حيث مازال يذكر ذلك اليوم الذي مر عليه حوالي ثلاثين سنة، حين كان جالسا في أحد أيام العطل الأسبوعية رفقة ثلة من الأصدقاء هناك بمقهى حديقة الجامعة العربية بالدار البيضاء، يتبادلون أطراف الحديث فيما بينهم، يتحدثون عن كل شيء وعن اللاشيء، ولا يتفقون مرة واحدة. كانت نقاشاتهم في عموميتها خلافا متواصلا وأصواتهم أكثر إزعاجا للآخرين، أو كما يقول المثل: «جعجعة بدون طحين».
بيد أنه في ذلك اليوم المشهود الذي ظل موشوما في ذاكرته، اختلف الأمر وحدث ما لم يكن يتوقعه إطلاقا أو يخطر ببال أحد من الأصدقاء. شيء ما طرأ بداخله، هز مشاعره وزلزل كيانه بشكل فجائي وكما لم يحصل له من ذي قبل. فقد أحس بقوة مغناطيسية تفقده توازنه، وتجذبه نحو فتاة رمته بسهام نظراتها، فتاة بدا له أنها جمعت من مظاهر الحسن والجمال ما تفرق لدى غيرها ممن عرفهن سابقا، كانت تتأبط حقيبة يد بلون حذائها البني وتتجه مسرعة نحو الباب، وكأنها على موعد هام خارج المقهى. بلا استئذان انسحب مهرولا على غير عادته، وسار خلفها.
وفي بضع دقائق، لم يعرف خلالها كيف عبر الطريق بين الدراجات النارية ووسط زعيق السيارات، إذ وجد نفسه بغتة في الرصيف المواجه للمقهى يلهث وراء حسنائه التي ذهبت بقلبه ولبه. أطلق العنان للسان واستمر في الارتجال دون كلل ولا ملل، بينما ظلت فاتنته صامتة صمت الدمى الآلية. استعرض الكثير مما تختزنه الذاكرة من أبيات شعرية لفطاحلة شعراء الغزل من مختلف العصور. كان في تلك الأثناء كمشارك في إحدى المسابقات الأدبية، يمني النفس بالحصول على الجائزة الكبرى. ولم تكن جائزته التي يحدوه الأمل في الظفر بها، سوى أن يتمكن من نيل رضى «الحمامة» البرية المتهادية في مشيتها قدامه والفوز بقلبها. وكان كلما رأى احمرار وجنتيها وانفراج شفتيها عن ابتسامتها الساحرة، إلا وازداد حماسه وتضاعفت سرعة خفقان قلبه وتلعثم اللسان بين الأسنان. يفرح، يضحك ثم يعود لحالة القلق والتوجس، خوفا من أن تضيع منه في زحمة الطريق الموحش.
تسير الحسناء بدون وجهة ويسير خلفها بلا عقل، استغرق المسير حوالي نصف ساعة أو يزيد، وهناك بإحدى زوايا شارع عريض وهادئ حيث تقل الحركة، توقفت. وياليتها لم تتوقف، فقد اتضح له أنها بكماء !!! ورغم قوة الصدمة عليه، حاول احتواء الموقف بسرعة البرق لئلا يجرح كبرياءها، وواصل حديثه بالإشارة، يريد أن يعرف إن كان سبب فقدانها النطق وراثيا، أم هو ناتج عن حادثة ما، لاسيما أنها كانت بالكاد تنطق ببضع الكلمات، تومئ بوجهها وتستعمل يديها عند الموافقة أو الرفض… وتمكن في آخر المطاف من الوصول إلى أن فقدانها النطق يعود إلى السنوات الأولى من عمرها، وأن جميع محاولات العلاج باءت بالفشل. وكأي شاب في سن الثلاثين، موظف بسيط، كان يحلم دوما أن يجمعه القدر بشريكة العمر، تكون بذات المواصفات المرسومة سلفا في ذهنه، ومن غير أن يترك آثار الصدمة تشل دماغه، استمر في المشي إلى جانبها والعقل لا يكاد يتوقف عن التفكير، ليلفي نفسه يعود بها إلى ذات المقهى. ترى هل كان الغرض من تلك العودة استعراض عضلاته أمام أصدقائه، وإظهار مدى براعته في اقتناصه السريع للفتيات، أم ليتأكد فقط من أن وجودها بذلك المكان الذي يتشكل غالبية رواده من الطلبة وبعض الموظفين قبل معرفتها، لا تحكمه أي علاقة لها بشخص آخر غيره؟
باستغراب شديد، كانت تتابع ارتعاش يديه وعدم تمكنه من إمساك فنجان قهوته جيدا، وتعاظم انزعاجها بفعل تدخينه المفرط. وبقليل من الحياء أشارت إليه بأن يكشف لها عن سر ارتباكه الواضح، بيد أنها وتفاديا للإحراج لم تلبث أن غيرت مجرى الحديث دون حتى أن تنتظر رده. أذهلته براعتها الفائقة في قراءة أفكاره وحركة شفتيه وقدرتها على التواصل بيسر. علم منها أثناء حديثهما أنها تسمى «مليكة»، وحيدة الأم، متوفية الأب وتبلغ من العمر 23 سنة. استجمع كامل قواه وأعرب لها عن نيته في الزواج منها. لم تبد أدنى اعتراض، وكأنها كانت تنتظر حلول مثل هذه اللحظة السعيدة، مما مهد له سبيل إقناعها بمرافقته إلى البيت وتقديمها إلى أمه وأختيه.
وفي طريقهما إلى البيت، كانا يبدوان في سيارة الأجرة وكأنهما لا يعرفان بعضهما البعض، كل منهما غارق في أحلامه. وعند فتحه باب البيت رفضت الدخول إلا في حضور أخته أو والدته، وبالفعل استقبلتها أخته بحفاوة، وكذلك فعلت الأخت الأخرى والأم، لكن بمجرد علمهن بعاهتها حتى خيم الوجوم على الجميع. وبعد برهة وجيزة، شرعت الأم في توجيه اللوم لابنها موسى، معلنة رفضها البات ارتباطه بها لعدة اعتبارات عددتها له، وكانت مليكة تراقب بإمعان حركة الشفاه… بدا عليها نوع من التذمر، وطلبت منه السماح لها بالانصراف، بدعوى تأخرها عن موعد العودة. فتح لها باب ال»طاكسي» وتواعدا على اللقاء في يوم الغد. لكنها ذهبت ولم تعد، تاركة خلفها جحيما من الأسئلة العالقة !
الكاتب : بقلم: اسماعيل الحلوتي - بتاريخ : 15/03/2018