الدينامية التنظيمية والمؤتمرات الإقليمية: رؤية اتحادية للتجديد والتطور والانفتاح

محمد السوعلي*
في زمن يشهد فتورًا في الحياة الحزبية وتراجعًا ملحوظًا للمبادرات السياسية الجادة، يبرز حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية كاستثناء يُراهن على بعث الأمل وتجديد الفعل الحزبي من الداخل. فمن خلال دينامية تنظيمية غير مسبوقة، يتقدّم الحزب في ورش إعادة البناء، مستندًا إلى إرثه النضالي ورغبته الصادقة في إحياء المعنى النبيل للالتزام السياسي.
وتُجسّد المؤتمرات الإقليمية، التي يشرف عليها المكتب السياسي بقيادة الكاتب الأول الأستاذ إدريس لشكر، هذا التوجّه بشكل عملي، باعتبارها محطات تأسيسية لتحضير جماعي وشفاف للمؤتمر الوطني الثاني عشر. مؤتمر يعوّل عليه الاتحاديات والاتحاديون لإطلاق مرحلة جديدة، تُثمّن التراكم التنظيمي والفكري، وتؤسس لانطلاقة سياسية تتجاوب مع التحولات المجتمعية وتستجيب لانتظارات المواطنات والمواطنين.
رؤية ناضجة لبناء حزبي متجدد
ليست المؤتمرات الإقليمية التي يخوضها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مجرد محطات تنظيمية دورية أو تمارين شكلية تُنجز وفق منطق الواجب الإداري، بل هي تجسيد ميداني لرؤية سياسية وتنظيمية ناضجة، تستوعب حجم التحولات التي تعرفها الحياة الحزبية والمجتمع المغربي، وتُراهن على إعادة الاعتبار للفعل السياسي كرافعة للثقة والإصلاح.
في عمق هذه المؤتمرات ينبض هدف واضح: تجديد الصلة بين القيادة والقاعدة، وإعادة بناء الثقة الأفقية والعمودية داخل الحزب، بما يعزّز المشاركة الفعلية للمناضلات والمناضلين في صياغة التوجهات والاختيارات، وتقييم الأداء التنظيمي والسياسي بكل وضوح وجرأة. إنها لحظة تأهيل جماعي ومسؤول، يُعيد للحزب إشعاعه الميداني ويُمكّنه من ترسيخ شرعية ديمقراطية منبثقة من القواعد، لا مفروضة من فوق.
وعبر آلية الانتخاب والتداول الديمقراطي، تُمنح الفرصة الحقيقية لظهور طاقات شابة وكفاءات جديدة، قادرة على تجديد النَفَس التنظيمي، وإغناء المسؤوليات الحزبية محليًا وجهويًا ووطنيا. بذلك، تتحول المؤتمرات من لحظة إدارية إلى فضاء لإعادة تشكيل الوعي الحزبي، وتصحيح الأعطاب السابقة، وفتح نوافذ الأمل أمام أجيال جديدة من الاتحاديات والاتحاديين الذين يرغبون في حزب قوي، ديمقراطي، وجامع.
قيادة ميدانية بروح المسؤولية
في قلب هذه الدينامية التنظيمية المتصاعدة، يبرز بوضوح الحضور الميداني والمباشر للكاتب الأول الأستاذ إدريس لشكر ورفاقه في المكتب السياسي، الذين لا يكتفون بمتابعة المؤتمرات الإقليمية من بعيد، بل يواكبونها ميدانيًا، خطوة بخطوة، بحضور فعلي وتواصل مباشر مع القواعد. هذا الانخراط العملي يعكس في جوهره يقظة قيادية تُدرك أهمية الاستماع إلى نبض التنظيم من الداخل، وتعي أن البناء الحزبي الحقيقي لا يتم عبر البلاغات والتوجيهات من المركز، بل من خلال التواجد وسط المناضلين والمناضلات، والاحتكاك اليومي بهمومهم وتطلعاتهم وأسئلتهم المشروعة.
إنها ليست فقط ممارسة قيادية تُجسّد روح المسؤولية، بل تؤسس لتحول نوعي في الثقافة التنظيمية داخل الحزب، يقوم على القرب والانفتاح والمساءلة المتبادلة، بعيدًا عن منطق البيروقراطية والانغلاق. لقد شكّلت هذه المؤتمرات لحظة فارقة لإبراز نموذج جديد من القيادة الحزبية: قيادة تتحرك ميدانيًا، تنصت قبل أن تُقرّر، تتفاعل قبل أن تُخطّط، وتبني الشرعية السياسية من صلب الحوار الديمقراطي مع القواعد، لا من هرم السلطة التنظيمية.
بهذا المعنى، تتحوّل المؤتمرات الإقليمية إلى مختبر فعلي لمقاربة أفقية في التنظيم، تُراكم الثقة، وتُعيد تعريف العلاقة بين القيادة والقواعد، على أساس جديد من الشفافية، والمشاركة، والاحترام المتبادل.
المؤتمرات كرافعة لإحياء الوعي الاتحادي
ما يشهده حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية اليوم من تنظيم واسع للمؤتمرات الإقليمية عبر مختلف الأقاليم والعمالات، لا يمكن اختزاله في كونه مجرد استحقاق تنظيمي أو مناسبة لتوزيع المهام وتجديد الهياكل. بل هو في جوهره إعلان جماعي عن عودة الوعي الحزبي إلى الميدان، عن رجوع الفكرة الاتحادية إلى ساحات النقاش، وعن إحياء دينامية نضالية تقوم على المشاركة والالتزام والوضوح.
إنها لحظة سياسية بامتياز، تُعيد الاعتبار للخط الفكري التقدمي الذي ميّز الاتحاد منذ التأسيس، وتفتح أمام المناضلات والمناضلين أفقًا حقيقيًا للمساهمة في صياغة مستقبل الحزب، ليس كمتفرجين أو منفذين، بل كفاعلين شركاء في القرار والتوجه والبناء. إن النقاشات التي تواكب هذه المؤتمرات تعبّر عن عطش جماعي لاستعادة المعنى النبيل للفعل السياسي، ذلك الذي يُؤمن بالفكرة قبل المكسب، وبالخدمة العامة قبل الحسابات الضيقة.
وفي هذا السياق، تُعد هذه المرحلة فرصة تاريخية لإحياء الروح الاتحادية الأصيلة، تلك التي نشأت على قيم الالتزام والجدية والمسؤولية، والتي تُعلي من شأن الفكرة كأداة للتنوير والتغيير، وتجعل من التنظيم فضاءً حيًا يُنتج الوعي الجماعي لا مجرد واجهة للتسويق.
بهذا النفس، يتحول الحراك التنظيمي الراهن إلى أكثر من مجرد تحضير للمؤتمر الوطني الثاني عشر؛ إنه تمرين جماعي على استعادة المبادرة، وبناء الثقة، وتجديد المشروع الاتحادي في صيغته القادرة على التفاعل مع تحديات اللحظة، وآمال الغد.
البُعد الدفاعي والتنشيطي للمؤتمرات
في ظل تراجع المبادرات السياسية داخل الأغلبية الحكومية، وخفوت العقل التنظيمي في مشهد حزبي تطغى عليه الشعبوية والتفكك، تشكّل هذه المؤتمرات ردًا عمليًا على محاولات التيئيس والفراغ. إنها آلية مزدوجة: دفاع عن المشروع الاشتراكي الديمقراطي من جهة، وتنشيط للحياة الحزبية من جهة أخرى، بما يؤكد قدرة الاتحاد على التجدد والانبعاث من داخل ذاته، دون ارتهان أو تبعية.
تثبيت الشرعية وبناء المؤسسات
من خلال هذه المؤتمرات الإقليمية المتتالية، يُكرّس حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية اختياره المبدئي والثابت في بناء مؤسسات حزبية منتخبة، ذات شرعية قاعدية فعلية. فالحزب لا يؤمن بالهياكل المعينة أو المفروضة من فوق، بل يعتبر أن شرعيته الداخلية تنبع أولًا وأساسًا من الانخراط الجماعي الواعي، والتصويت الحر، والمشاركة القاعدية في صناعة القرار التنظيمي.
كل مؤتمر يُنظّم في إقليم أو عمالة لا يُمثل فقط لحظة محلية للتداول، بل هو لبنة مؤسساتية في صرح ديمقراطي قيد التشييد أو التجديد. إنه إعلان مباشر بأن التنظيم ليس مجرد غطاء حزبي مؤقت، بل هو مؤسسة نابعة من القاعدة ومفتوحة للمحاسبة، تُستمدّ شرعيتها من أصوات المناضلين، لا من التوافقات النخبوية أو التعيينات الفوقية.
في زمن تتراجع فيه الأحزاب عن وظائفها التأطيرية، وتستسهل العديد منها تعطيل مؤسساتها الوطنية والجهوية، يُراكم الاتحاد الاشتراكي تجربته في إعادة وصل ما انقطع بين التنظيم والمؤسسة، وبين القيادة والقاعدة. فالمؤتمرات لا تُنتج فقط مكاتب جديدة، بل تُنتج شرعية ديمقراطية حقيقية، ومجالًا للنقاش، والاختلاف، وصقل الاختيارات، وتعبئة الطاقات.
ولذلك، فإن رهان الاتحاد الاشتراكي اليوم يتجاوز البنية الإدارية للهياكل، إلى بناء ما يمكن تسميته بـ”الشرعية الحزبية المتجددة”، القائمة على المشاركة لا التزكية، وعلى الاختيار لا الفرض، وعلى التنوع لا الإقصاء. وهي شرعية تتقاطع جوهريًا مع المشروع الديمقراطي الوطني، وتُعيد تعريف الحزب لا كآلة انتخابية أو واجهة إعلامية، بل كفضاء حيّ لصناعة الوعي والمواقف والبدائل.
بهذا الفهم، يصبح كل مؤتمر إقليمي ليس فقط محطة تنظيمية، بل تجسيدًا سياسيًا لفلسفة الاتحاد: حزب يُراهن على البناء المؤسساتي لا الخطاب الانفعالي، على الديمقراطية الداخلية لا الولاءات الشخصية، وعلى الوفاء للمشروع الجماعي لا الارتباط الظرفي بالمواقع.
حضور البُعد الوطني والسياق السياسي
لا يمكن فصل هذه الدينامية عن السياق الوطني العام، حيث يعيش المغرب لحظة فارقة في علاقته بالمؤسسات والفاعلين. وفي الوقت الذي تغيب فيه المبادرة عن أحزاب الأغلبية وفي المعارضة، ويزداد منسوب اللا ثقة في الفعل السياسي، يقدّم الاتحاد الاشتراكي نموذجًا مضادًا، قوامه التنظيم، والتأطير، والانفتاح على المجتمع، في أفق تقديم بديل ديمقراطي تقدمي، يوازي بين الشرعية النضالية والجاهزية السياسية.
مؤتمرات تُعيد الاعتبار للفكر والقيم
إلى جانب بعدها التنظيمي، تحمل المؤتمرات بُعدًا فكريًا وقيميًا، إذ تُعيد الاعتبار للموروث الاتحادي الغني بالفكر النقدي، وتمنح مساحة لنقاش عمومي داخلي حول قضايا العدالة الاجتماعية، والمساواة، والحرية، والحداثة، في انسجام تام مع التحولات المجتمعية وتطلعات الشباب المغربي.
انخراط النساء والشباب: من التمثيل إلى الفعل
لقد شكّلت هذه المؤتمرات فرصة حقيقية لتعزيز مشاركة النساء والشباب، ليس فقط من باب التمثيلية، بل بوصفهم فاعلين في صياغة القرار التنظيمي والسياسي. وبهذا المعنى، يصبح الحزب فضاء حقيقيًا لتفجير الطاقات والمواهب، في أفق بلورة نخب جديدة قادرة على خوض المعارك القادمة بنفس جديد وخطاب صادق.
ردود الفعل والتفاعل القاعدي
وقد عبّرت ردود الفعل الواردة من المؤتمرات الإقليمية عن ارتياح واسع في صفوف المناضلين والمناضلات، سواء من حيث الحضور الميداني الفعلي للقيادة، وعلى رأسها الكاتب الأول، أو من حيث الأجواء الديمقراطية التي طبعت أشغال المؤتمرات، أو من حيث جدية النقاشات التي تناولت قضايا التنظيم والتأطير والاستعداد للاستحقاقات المقبلة. هذا التفاعل الإيجابي يُعدّ مؤشرًا قويًا على أن الحزب يسير بثبات نحو مرحلة جديدة من التماسك الداخلي، وتجديد الثقة المتبادلة بين القيادة والقاعدة.
ولعل الأمثلة الناجحة التي شهدناها في مؤتمرات كل من الدار البيضاء، والرباط، وتمارة، وسلا، والجديدة، وسطات، وبني ملال، وأقاليم الجهة الشرقية، تؤكد أن الدينامية التنظيمية ليست ظرفية، بل تعبّر عن مسار متكامل لإعادة البناء وفق منطق الديمقراطية القاعدية.
وفي هذا الإطار، تواصل القيادة السياسية للحزب إشرافها الميداني على باقي الأقاليم والجهات، بعزيمة واضحة على استكمال هيكلة التنظيم محليًا وجهويًا، في أفق الوصول إلى مؤتمر وطني ثاني عشر يُعقد خلال شهر أكتوبر المقبل، يكون تتويجًا لمسار تعبوي جماعي، ومقدمة لمرحلة سياسية جديدة عنوانها التجديد والوحدة والانطلاقة الواعية نحو المستقبل.
نحو المؤتمر الوطني الثاني عشر: رهان التجديد والبناء
تمثّل المؤتمرات الإقليمية الجارية اليوم، بما راكمته من دروس ميدانية وما عبّرت عنه من حيوية تنظيمية، مدخلًا حقيقيًا نحو المؤتمر الوطني الثاني عشر لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. إنها ليست مجرد محطات تنظيمية، بل لحظة جماعية لتجديد المشروع السياسي، وتقييم المسار، وصياغة برنامج تنظيمي يستجيب لتحولات المجتمع وانتظارات المواطنات والمواطنين، على قاعدة الإنصات، والمشاركة، والنقد البناء.
لكن المفارقة المؤسفة أن يتزامن هذا المجهود الاتحادي الجاد مع صعود أصوات مشبوهة، من خارج الحزب، تسعى إلى التشويش والتبخيس. ففي اللحظة التي يمد فيها الحزب جسور الثقة مع المجتمع، ويخوض من الداخل معركة البناء والتجديد بكل مسؤولية وديمقراطية، تظهر خطابات خارجية متوترة، تنهل من قاموس التبخيس والتشكيك، وكأنها تستكثر على الاتحاد صموده التاريخي واستعداده الواعي لرهانات المستقبل.
إن الاتحاد الاشتراكي، وهو يُعبّئ طاقاته اليوم من أجل مؤتمر وطني يكون في مستوى التحديات الوطنية والدولية، لا يلتفت إلى الضجيج الهامشي، بل يُراكم في هدوء الثقة الشعبية والمصداقية التنظيمية. لأن الرهان ليس فقط على مؤتمر ناجح، بل على مستقبل سياسي جديد، يُعيد الثقة للفعل الحزبي، ويجعل من الاتحاد قوة اقتراح ومواجهة في مغرب الغد.
(*)عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والاخلاقيات
الكاتب : محمد السوعلي* - بتاريخ : 08/07/2025