الرهانات الأخلاقية المرتبطة بمواجهة جائحة كوفيد19

د. عزيز قميشو

 
نعرض هنا -بتصرف- مضامين الوثيقة التي قدمتها اللجنة الاستشارية الوطنية للأخلاقيات في فرنسا (CCNE) بتاريخ 13 مارس 2020، جوابا على الطلب الذي كان قد وجهه إليها الوزير المكلف بالصحة والتضامن نهاية شهر فبراير 2020. ومن أجل صياغة هذه الجواب، فقد بادرت اللجنة على وجه الاستعجال إلى تشكيل لجنة مكونة من عدد من الخبراء، بالإضافة إلى المدير العلمي للصحة العمومية لفرنسا ومديرة التواصل باللجنة، كما أنها سارعت إلى استشارة أربعة شخصيات- كان من بينها البروفيسور إيمانويل هيرش (أستاذ الأخلاقيات الطبية)- خلال الفترة الممتدة ما بين 6 و7 مارس 2020.
سياق جديد وتطورات متسارعة
لقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أن ظهور فيروس كورونا المستجد في الصين، خلال مطلع سنة 2020، قد مثل حالة طوارئٍ ذات أبعاد عالمية بالنسبة للصحة العمومية بسبب سرعة انتقال هذا الفيروس. وإذا كان عدد الحالات المسجلة في الصين قد عرف انحسارا ملحوظا بفعل التدابير التي اعتمدتها الحكومة الصينية (من قبيل فرض الحجر الصحي الإلزامي)، فإن الوباء سرعان ما شهد انتشار واسعا في جميع القارات، وهو ما حدا بمنظمة الصحة العالمية إلى استعمال عبارة الجائحة العالمية من أجل وصف هذه الوضعية التي تتميز بجدتها وبما تشهده من تطور مطرد.
على المستوى الفرنسي، تم تسجيل أول إصابة بالفيروس نهاية شهر يناير 2020، وتم تسجيل أول حالة وفاة بتاريخ 14 فبراير 2020. ومنذ ذلك الحين، فإن المعطيات المنشورة من قبل جهاز الصحة العمومية الفرنسية تُظهر زيادةً منتظمة ثم تفاقماً متسارعا في عدد حالات الإصابة التي لم تعد منحصرة في بعض البؤر فقط، بل أصبحت منتشرة في جل المقاطعات، في إشارةٍ إلى قرب الانتقال إلى وضعيةِ وباءٍ شامل. وهذا ما أصبح عليه الحال أيضا، منذ بداية شهر مارس، على المستوى الدولي والأوروبي، وعلى وجه الخصوص في إيطاليا.
لقد عبأت الحكومة الفرنسية منظومتها الصحية لمواجهة هذا الوباء عبر ثلاث مراحل: 1) محاصرة الفيروس والتقليل من احتمال دخوله من خلال عمليات رصد المصابين والتكفل بهم -»الحالات المحتملة» و»الحالات المؤكدة»-؛ 2) كبح انتشار الفيروس في المجال الوطني من خلال إستراتيجية احتواء ملائمة؛ 3) أما في المرحلة الوبائية، مرحلة انتشار الفيروس، فإن الإستراتيجية الصحية أصبحت مختلفة تماما، لأنها انتقلت من منطق رصد الحالات الفردية وتوفير الرعاية لها إلى منطق العمل الجماعي الذي يقتضي تعبئة شاملة لجميع مكونات المنظومة الصحية.
ضمن هذا السياق، تقترح اللجنة الاستشارية الوطنية للأخلاقيات بفرنسا مجموعة من سبل التفكير التي يمكن أن تسترشد بها كافة أطراف المجتمع من أجل رفع التحديات الأخلاقية التي يطرحها وباء كوفيد-19. وقد استندت اللجنة في عملها، بالأساس، على ما كانت قد قررته في رأيٍ استشاري سبق لها أن تقدمت به سنة 2009، وكذا على مجموعة من النصوص والوثائق التي نُشرت في الآونة الأخيرة، سواء في فرنسا أو على الصعيد الدولي.
بعض المبادئ الأخلاقية التي يتعين أخذها بعين الاعتبار (انطلاقا من الرأي الاستشاري رقم 106 الصادر سنة 2009)
لقد سبق للرأي الاستشاري المنشور في فبراير 2009 أن أثار مسألةً أساسية تتعلق بمعرفة ما إذا كانت حالة الطوارئ، التي تنجم عن وباء الأنفلونزا، تنطوي على إمكانية النظر إلى بعض المبادئ الأخلاقية الأساسية بوصفها أمراً ثانويا، وذلك لأن السلطات العمومية تجد نفسها أمام صعوبات جمة يطرحها اتخاذ القرارات في وضعيةٍ أهمُّ ما يميزها هو غياب معطيات يقينية، سواء تعلق الأمر بعدد الحالات المعنية أو بمدة الوباء أو بحِدّته أو بمدى فعالية الإجراءات المتخذة وانعكاسها على تطور الوباء وعلى عدد الإقامات الاستشفائية أو عدد الوفيات. والحال أن القرارات التي يتم اتخاذها، مهما كانت طبيعتها ونوعها، يجب أن تستجيب لشرطٍ أساسي هو شرط احترام الكرامة الإنسانية، أي أنه يتعين النظر إلى القيمة الفردية لكل شخص بوصفها قيمة مطلقة. ولذلك اعتبر الرأي الاستشاري المشار إليه أن أي خطةٍ لمجابهة وباءٍ مَا لا يجب أن تفضي إلى تفاقم حالات اللا-عدالة القائمة سلفا، واعتبر كذلك أن مبدأ العدالة هذا يمكن ترجمته وتفعيله إمّا بالمعنى الذي يُحيل على قاعدة المساواة أو بالمعنى الذي يُحيل على قاعدة الإنصاف. وبما أن احترام مبدأ الإنصاف يمثل شرطا ضروريا للعمل في سياق نُدرة الموارد، فقد أوصت اللجنة الاستشارية حينئذ بترجيح مُقتضى تحديد الأولويات على مُقتضى العدالة في دلالته على المساواة. لكنها اعتبرت في نفس الوقت أن انتقاء وفرز الأشخاص، الذين سيحضون بأولوية الحماية، على أساس قيمتهم الاقتصادية فقط (أي على أساس منفعتهم أو فائدتهم الاجتماعية) هو أمر غير مقبول بتاتا: إن كرامة الشخص ليست رهناً بمنفعته. ولهذا يلزم أن تسترشد القرارات الطبية، التي تُتَّخذ في حالة نُدرة الموارد، بتفكيرٍ أخلاقي يأخذ في حسبانه احترام كرامة الأشخاص إلى جانب مبدأ الإنصاف.
وقد أشارت اللجنة الاستشارية أيضا، في ذلك الحين، إلى أن التساؤل الأخلاقي غالبا ما يقود إلى وضع مبدأ الاستقلالية في مقابل مبدأ التضامن، والحال أن الاستشارات الواسعة التي عُقدت سنة 2018 حول البيوإتيقا في فرنسا قد بيَّنت أن هذين المبدأين ليسا متنافرين ولا يُقصي أحدهما الآخر: فأن يكون الفرد مستقلا يعني أن يكون حرا إلى جانب الآخرين وليس ضدا عليهم، ثم إن التضامن هو أن يُتاح لأكبر عددٍ من الأفراد ممارسة استقلاليتهم. ولهذا السبب يصعب غاية الصعوبة على مجتمع معينٍ أن يوافق، في حالة تفشي الوباء، على ممارسة الاستقلالية بمعناها المغلوط الذي يفيد إمكانية أن يرفض الفرد المصاب بالعدوى تلقي العلاجات مع ما يترتب على ذلك الرفض من تعزيز لانتشار المرض؛ إن استقلالية الفرد يجب أن تتوارى في هذه الحالة إلى الخلف لتفسح المجال لمبدأ التضامن.
وبخصوص حالة الوباء الشديد الذي يأتي بغتة، فقد نـبّـهت اللجنة الاستشارية كذلك إلى أن السلطات العمومية قد تعتمد تدابير إلزامية، من قبيل مصادرة الممتلكات أو عزل فئات معينة من المواطنين أو الحد من التنقل. وبحسب القانون، فإن الإجراءات التقييدية للحريات الفردية يجب أن تُعتَمَد وتُطبَّق وفقا للتشريعات، ويتعين أن تكون متسقة مع مَقصدٍ مشروعٍ يروم المصلحة العامة، وأن تكون بالقدر اللازم وفي حدود ما هو ضروري لتحقيق ذلك المقصد، ومن دون أن تتضمن أي إجراءٍ يحمل تجاوزا أو تمييزا، كما أن تحديدها يجب أن يتم على أساس المعطيات العلمية المتوافرة، وخاصة فيما يتعلق بفعاليتها ومقدار نجاعتها. وبهذا الصدد، فقد نـبّـهت اللجنة الاستشارية على الخطورة التي تترتب عن توسيع الإجراءات التقييدية خارج الحدود التي تتطلبها مواجهة الوباء، سواء كان ذلك التوسع راجعا إلى اعتماد تصور غير مناسب بشأن مبدأ الاحتراز أو بقصد خدمة أهداف الدعاية الديماغوجية. كما أن اللجنة لم تغفل التذكير بأن كافة الحقوق والحريات التي ليست معنية بالتقييد يجب أن تُحفظ وتتواصل ممارستها.
إن السياقات والظروف، مهما كان نوعها، لا تملك أن تغير المبادئ الأخلاقية، وذلك بالرغم من أن وضعيةً مستجدة -مثل الوضعية الناجمة عن مواجهة الوباء- قد تستدعي ترتيب تلك المبادئ بحسب الأولوية، وبشرط أن يتم ذلك بطريقة مقنعة ومع كامل الشفافية. واستناداً إلى تلك المبادئ، وبالنظر إلى السياق السريع التغير لوباء كوفيد-19 في أوروبا، فإن اللجنة الاستشارية الوطنية للأخلاقيات بفرنسا تقترح 10 مسائل جديرة بالاهتمام و4 توصيات.
المسائل العشرة المقترحة:
1. أهمية المسؤولية الـمُواطنة: إن مفهومي الحرية الفردية والمصلحة العامة يشكلان أحد الرهانات الأخلاقية الأساسية لأيِّ مخططٍ يروم مواجهة تطور وباءٍ ما. وتشير المعطيات العلمية، خصوصا بعد هجمات 11 شتنبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن المواطنين يقيمون موازنةً بين مقدار الحرية الذي يمكن أن يتنازلوا عنه والأمن الذي يمكن أن يحصلوا عليه «في مقابل» ذلك التنازل. لكن قدرتهم تلك على الموازنة هي رهينة بمقدار الثقة التي يضعونها في السلطات العمومية. وعلى إثر المشاورات الواسعة التي انعقدت مؤخرا في فرنسا حول البيوإتيقا، فإن اللجنة الاستشارية ترى أن حس المسؤولية لدى المواطنين هو أمر قائم وواقع متحقق، وذلك بالرغم من أن بعض السلوكيات الأنانية تظهر بشكل متكرر. ولهذا ينبغي المناداة بالمسؤولية الفردية وبَـيان أنّ خِيار التنازل عن نوعٍ من الحرية من شأنه أن يتيح تحصيلَ نوعٍ من الأمن. وتَعتبر اللجنة أيضا أن من الأهمية بمكانٍ تعبئة الهيئات الوسيطة (نقابات، جمعيات، أحزاب سياسية، مقاولات…) وكافة الجهات العاملة بالقرب من المواطنين من أجل توضيح الإجراءات المعتمدة.
2. ضرورة الاعتماد في عملية صنع القرار السياسي على الخبرة الصحية وإسهام المجتمع المدني: إن العمل الجماعي المنظَّم من أجل حماية الصحة العامة مسنودٌ إلى الدولة بمقتضى وظائفها السيادية. وتَعتبر اللجنة أن منهج التشاور ليس ضامنا فقط لوجاهة وجدوى القرار السياسي الذي يُسهم فيه (مع الاعتماد على الخبرة العلمية)، بل هو ضامن أيضا للثقة التي يبعث عليها لدى المجتمع المدني. ولذلك فإن ما يتعين فعله هو اعتماد القرار الذي يستند إلى أقوى الحجج بالنظر إلى المعارف المتاحة. ومن جهة أخرى، فإن هذا القرار، من حيث أنه يهم المجتمع بأكمله وربما تعلَّق بقِيَمه الأساسية، يستوجب مسبقا الإنصات إلى ما يعلنه المواطنون من آراء. ومن وجهة نظر اللجنة، فإن تشكيل هيئة مختلطة لدى الوزير المكلف بالصحة (تكون مُؤلَّفة من خبراء علميين ينتمون إلى تخصصات معرفية مختلفة بما في ذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية، إلى جانب أعضاء من المجتمع المدني والأوساط الجمعوية خصوصا، وتكون لديهم القدرة على مراعاة أراء مختلف فئات الشعب الفرنسي)، سيمثل خطوة رائدة في نظامنا الديمقراطي وسيُسهم في تعزيز الثقة وانخراط كامل المجتمع في جهود السلطات العمومية. ويبدو أن تناغم وانسجام القرارات المعتمدة يلعب أيضا دورا أساسيا في حُسن استيعاب وتقبُّل التدابير الإلزامية المحتملة أو الخيارات الصعبة المتعلقة بالسياسة الصحية في سياق هذه الأزمة.
3. ضرورة استناد التدابير الإلزامية إلى إطار قانوني وأخلاقي متين وإلى الحس البيداغوجي: لقد سبق للجنة، في رأيها الاستشاري رقم 106، أن تطرقت بشكل موسع لمسألة تقييد الحقوق، ولا تزال الحجج المعروضة في ذلك الرأي تحتفظ بصلاحيتها اليوم. وإذا وجدت السلطات العمومي نفسها مدفوعة في السياق الراهن إلى إعادة النظر في التوازن القائم بين الحريات الأساسية وحفظ النظام العام، فإن اللجنة تود التشديد على أن فرنسا تملك ترسانة قانونية غنية وكافية من أجل تقييد الحقوق بشكل مؤقت والمحافظة في نفس الوقت على دولة الحق والقانون. ومن جهة أخرى، فإن اللجنة تلفت الانتباه إلى أهمية التواصل والشرح الواضح للأسباب التي تقود في لحظة معينة إلى اقتراح بعض التدابير الإلزامية، وإظهار تناسب ومواءمة ومحدودية كل إجراء يتضمن مساسا بحريات المواطنين.

أستاذ الفلسفة بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس

الكاتب : د. عزيز قميشو - بتاريخ : 23/03/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *