الشهيد عمر بنجلون .. مثال نكران الذات والانضباط الحزبي (1)

محمد حرفي

الحديث عن أمثال عمر بنجلون يقتضي استحضار عدة مقتربات، وكل مقترب يستلزم شتى الاعتبارات، وكل اعتبار ينحو مناحي دون الإلمام بتشعباتها خرط القتاد كما يقال- ثم إن الحديث عنه وعن أمثاله سهل وصعب في ذات الوقت، سهل لأن أمثاله قلة، وصعب لأنهم على قلتهم أفراد ازدحمت في هويتهم عدة كينونات والتأمت في شخوصهم كم من قيم، وتقاطعت في سيرة حياتهم وقائع وأحداث، وتباينت بشأن سيرهم أحاديث وكتابات، ذلك لأنهم رجال عظام بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف أو حتى الخلاف معهم، وهنا تكمن صعوبة الحديث عن عمر بنجلون، ومع ذلك، كان من حقه علينا تذكره بمناسبة أو غير مناسبة، تذكر أنه استشهد وهو يناضل من أجل حق شعبه في الحرية والعيش الكريم، ومن أجل حق فلسطين في الخلاص من الاحتلال الاستعماري الصهيوني، ومن أجل حق الشعوب المضطهدة في التحرر والانعتاق. ثم تذكر أنه استشهد وهذه الحقوق لم تنل بعد، وأن رفاقه عاهدوه على الاستمرار في درب النضال حتى النصر… هذا أقل آية من آيات الوفاء لهذا المناضل الشهيد…
أول لقائي بالمرحوم عمر بنجلون في صيف 1959 عندما حل بوجدة قادما إليها من «بركنت» عين بني مطهر حاليا، وكان آنذاك يزاول دراسته الجامعية بفرنسا، وفي نفس الوقت يقضي فترة تكوين كإطار من أطر ن حزب الاستقلال، وبما أن أغلب الحاضرين لم يكونوا يعرفونه فإن الذي تولى أمر التقديم هو المرحوم الراشدي بنعامر من مناضلي الحزب في قرية «بركنت» عين بني مطهر، وبعد التقديم وجه إلينا أسئلة في شأن وضعية الحزب من حيث الإقبال، والتنظيم والمشاركة، كان معظم حديثه باللغة الفرنسية وخاصة عندما يتعلق الأمر بمصطلحات سياسية لم نعهد سماعها من قبل، لأن أغلبنا لم يكن يتقن الفرنسية، وبدون مقدمات انساب حديثه إلى قضايا وطنية ودولية بعربية دارجة تتخللها مصطلحات وعبارات بالفرنسية كنا نفهم بعضها، ونجهل أكثرها، ولكن المهم أننا قضينا معه وقتا ممتعا، هو مزيج من الجد، والنكت، وهو جانب رافق المرحوم إلى آخر رمق من حياته…حدثنا عن نشاط الطلبة المغاربيين في فرنسا حيث كان إذاك رئيسا لاتحاد طلبة شمال إفريقيا، وحدثنا عن الإقبال الذي شهده الحزب في فرنسا، وعن قضايا عربية كانت وقتها مثار نقاش خاصة الوحدة بين مصر وسوريا وهذه هي النقطة التي أثارت جدلا بين المرحوم وبين بعض الإخوة الحاضرين.
الموقف من الناصرية..
لم يكن عمر ضد فكرة الوحدة، ولكن ضد الطريقة والكيفية التي تمت بهما، كان رحمه الله متأثرا بأدبيات اليسار الفرنسي الذي كان له موقف خاص من القضايا العربية ولاسيما الناصرية، وكان جلنا إن لم أقل كلنا ناصريين مما أفضى إلى نقاش حاد لم ينهه إلا وفود الأخ الزبير وهو الأخ الأكبر لعمر وإخباره بأن موعد العودة إلى بركنت قد حل، وافترقنا على أساس أن يعود مرة أخرى لإتمام المناقشة…
وما أن غادرنا المرحوم حتى انهالت الملاحظات من لدن الإخوان عما سمعوه ولاسيما ما يتعلق بموقفه من الناصرية، ومع ذلك كان ضمننا من التمس له العذر لكونه مازال متأثرا بما يروج في الديار الفرنسية عن طريق المعاشرة ووسائل الإعلام…
ولم يمض أسبوع حتى فاجأني بزيارة في المنزل مصحوبا هذه المرة بأخيه الزبير والذي كان من مسؤولي فرع الحزب ببركنت «عين بني مطهر» ومن البداية سألني عما إذا كان حديثه في اللقاء السابق قد «جرح» أو «اغضب» الإخوان، فأجبته بالعكس، فإن الأخوان اختلفوا معك، وأبدوا بعض الملاحظات بعد انصرافك، ومع ذلك فإن الانطباع الذي خرجوا به هو أنك «مهدي صغير» مع فارق سيزول عندما تعود إلى المغرب إنشاء الله. ولقد ازداد هذا الانطباع لدى غالبية المناضلين الذين رافقوا الشهيدين في الحقل الحزبي.
تبسم عمر وقال «هيهات، إن المهدي من الرجال الذين لا يتكرر وجودهم» قالها بالفرنسية وأعادها بالدارجة، فماركس لن يتكرر، كما لا يتكرر أشخاص من عينات ماركس كلينين وتيتو، وماو… وقاطعته: وعبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي، وعبد الناصر وأكد هذا بقوله وهؤلاء أيضا، ولما لاحظ أني زكيت رأيه أضاف: وكيف تعتقد أن المهدي سيتكرر؟ هذا مستحيل، قالها بالفرنسية، فاستدركت: على كل حال إن فيك ملامح من صفات المهدي وهذا لا يعني أنك نسخة طبق الأصل من الرجل…
ومازلت أتذكر بعض الإشارات التي كان يتضمنها حديثه كلما تعلق الأمر بالحديث عن شخصية وطنية، إشارات تنم عن سلامة طويته ونبل أخلاقه، ومما مازال عالقا في ذهني هو تعليقه بشأن هجوم بعض الإخوان على علال الفاسي في اللقاء المذكور، فقد قال لي: إياك يا السي محمد والنيل من سيرة الرموز الوطنية مهما يكن اختلافك معهم، مثلما سمعته في اللقاء السابق من بعض الإخوان، فعلال مثلا يبقى زعيم الحركة الوطنية وإن اختلفنا معه اليوم. وكمثال على ذلك فإن المارشال دوكول محررفرنسا بالنسبة لكل الفرنسيين مهما تباينت توجهاتهم، وحتى إذا انتقدوا سياسته فلا يجرؤ أحد على تجريده من زعامة المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني. ولم يفته في هذه الزيارة أن ينصحني بالمزيد من تعلم الفرنسية فالمناضل لا غنى له عن هذه اللغة للاطلاع على أمهات المؤلفات في علم السياسة وروافدها.
ومضت سنة قبل أن ألتقي به عندما عاد من فرنسا لقضاء عطلته كعادته كل سنة، وفي هذه المرة كانت الجامعات المتحدة قد شكلت مع عناصر من حزب الشورى والاستقلال ومن الحركة الشعبية تنظيمات أطلق عليه اسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وذلك في السادس من شهر سبتمبر 1959 (06/09/1959) وفي هذه المرة رجوته ألا يثير موضوعات قد تسبب مشاكل نحن في غنى عنها هذه المرحلة على الأقل، لأن الحزب في تركيبته الجديدة عبارة عن خليط من الناس وإن اتفقوا بشأن أهداف الحزب فإن وجهات نظرهم لا تلتقي بشأن قضايا أخرى، وبدل ذلك ننظم لقاء تحضره أطر الحزب على أن يتم هذا في الأسبوع المقبل، ابتسم كعادته ووافق.
ولما كان مقر الحزب لا يتسع لهذا اللقاء تم الاتفاق على عقده في بورصة الشغل مقر الاتحاد المغربي للشغل (UMT) وأن يكون الموضوع بعنوان «العلاقة بين الحزب والنقابة»، وقد ساد الاعتقاد إذاك بأن تعليمات أعطيت للمسؤولين في الاتحاد المحلي من القيادة للتشويش على اللقاء أو على الأقل على إفشاله. ولم يتردد أعضاء المكتب المحلي في تنفيذ العمليات رغم أن عددا منهم كان ممثلا في الكتابة الإقليمية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ولكنهم لم يمنعوا اللقاء ولكن مسلكهم كان أخطر من المنع، من ذلك أنهم لم يوجهوا الاستدعاءات إلى الأطر النقابية، ولم يساعدوا على تهيئ القاعة موضع اللقاء.
كان اللقاء ناجحا رغم ذلك بالنظر إلى موضوعه والنوعية التي حضرته، فقد استغرق الموضوع ساعتين تقريبا توج بنقاش حاد تمحور حول جوانب تتعلق باستقلالية النقابة وديموقراطيتها الداخلية وبدورها من التوعية السياسية وبضرورة انحيازها للأحزاب ذات التوجه التقدمي، لقد تناول المرحوم عمر بنجلون من جانبه الطبيعي من حيث أن نقابة العمال تمثل طبقة مستغلة (بالفتح) لا مناص لها من الصراع ضد الطبقة المستغلة (بالكسر) وبما أن الحزب الذي يناصر طموح الأولى لا يمكن إلا أن يكون تقدميا بينما الذي يعاضد الثانية على العكس من ذلك، والموقف المنطقي لنقابة العمال هو الانحياز للحزب التقدمي. إلا أن هذه الرؤية لم ترق بعض الأطر النقابية ممن كانوا ينتمون إلى أحزاب يمينية من استقلاليين وحركيين قبل ظهور التعدد النقابي، وقد حاول المرحوم إقناعهم ليس فقط برأيه، بل وأنهم ضد مصالحهم واعتبارهم كادحين مناصرين لأحزاب هي بالأساس في خدمة الطبقة التي تستغلهم… وإذا لم يرق هؤلاء انحياز المحاضر للتقدمية، فإن هناك من لم يعجبه ما جاء في حديثه من إشارات في شأن هيمنة البيروقراطية على العمل النقابي وانعدام الديموقراطية في اختيار المسيرين، ومن هنا كانت البداية، بداية دخول المرحوم عمر بنجلون في معترك المتاعب التي ستنتهي في آخر المطاف إلى اغتصابه والمغرب على أهبة الانتقال إلى مرحلة جديدة، ولعل المخططين لها تيقنوا أن العقبة التي «ستشوش» عليهم هي: المرحوم عمر. فليكن عمر إذن ضحية هذا الانتقال…
ولم تكن هذه النهاية بدون مقدمات، فمنذ استقرار المرحوم بالبلاد كإطار من الأطر العليا للدولة اختار أن يناضل إلى جانب الطبقة العاملة، فلم يغره منصبه كمدير إقليمي للبريد ولا الامتيازات التي يحظى بها أصحاب مثل هذه المهام، بل انخرط مباشرة في العمل الحزبي والنقابي مخططا وموجها ومكونا، مالئا بذلك، بعض الفراغ الذي أحدثه الغياب القسري للمرحوم المهدي بنبركة.

الكاتب : محمد حرفي - بتاريخ : 23/12/2023

التعليقات مغلقة.