المجموعات الصحية الترابية بين وعد الدولة الاجتماعية وخطر الوهم السياسي
محمد السوعلي (*)
إصلاح ترابي تحت الوصاية المركزية: بداية الدولة الاجتماعية أم مجرد واجهة؟
إحداث المجموعات الصحية الترابية (GST) المنصوص عليها في القانون الإطار 06.22 يُقدَّم باعتباره حجر الزاوية في النظام الصحي الوطني الجديد. اختيار جهة طنجة–تطوان–الحسيمة كتجربة أولى ليس صدفة، بل رسالة سياسية بأن المغرب قادر على تنزيل الدولة الاجتماعية ميدانياً.
غير أن هذا الرهان محفوف بالمخاطر: فالجهة واجهة للحداثة في مدنها الكبرى، لكنها ما تزال تعاني عزلة قروية خانقة ونقصاً حاداً في الموارد البشرية، مما يجعلها مختبراً حقيقياً لتنزيل مشروع ذي بعد اجتماعي في مجال يعيش على وقع فوارق اجتماعية ومجالية هامة. نجاح التجربة أو فشلها سيؤثر مباشرة على مصداقية الإصلاح وعلى ثقة المواطنين في المؤسسات.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا تأخر التنزيل ثلاث سنوات كاملة بعد صدور القانون؟ هل هو وقت استثمرته الوزارة في الإعداد السياسي والبشري والاجتماعي والمالي للوحدات الصحية الترابية، أم أن التأخر يعكس غياب الوضوح والتردد في الرؤية؟ الجواب على هذا السؤال سيكون حاسماً في الحكم على التجربة: إما أن يشكل التأخر رصيداً للنجاح، وإما أن يتحول إلى إعلان بلا أثر يعمّق أزمة الثقة.
إصلاح صحي مع وقف التنفيذ: البنيات المعطلة والخصاص البشري يهددان تجربة المجموعات الصحية الترابية»
الخطاب الرسمي يقدّم الإصلاح كصحوة كبرى قادرة على إعادة الثقة في المرفق الصحي العمومي، غير أن الواقع يكشف صورة أكثر قسوة: مستشفيات مكتظة، أطباء غائبون، تجهيزات معطلة، وأدوية أساسية مفقودة. في القرى، البحث عن العلاج يتحول إلى رحلة عذاب، وفي المدن أصبحت مشاهد الانتظار الطويل والإهمال المتكرر جزءاً من المشهد اليومي في الإعلام ومواقع التواصل.
أحداث أكادير الأخيرة – حيث تُرك مرضى لساعات في الممرات – لم تكن استثناءً، بل تجسيداً بنيوياً لأزمة عميقة تضرب أساس المنظومة الصحية. إنها مرآة لفشل سياسات متراكمة، وتأكيد على أن الأزمة تجاوزت حدود التجميل الخطابي. فالمنظومة لم تعد قادرة على حماية أرواح المواطنات والمواطنين، ولا على الاستجابة لحاجيات المرضى الملحّة داخل المستشفيات والمراكز الصحية، وهو ما يجعل مطلب الإصلاح الجذري ضرورة وجودية لا تحتمل التأجيل.
لكن يبقى السؤال: هل تنزيل الوحدات الصحية الترابية بجهة طنجة–تطوان–الحسيمة قادر فعلاً على تغيير هذا الواقع؟ فباستثناء المركز الاستشفائي الجامعي بطنجة، لا تتوفر الجهة على مقومات الإقلاع الصحي. المستشفى الجهوي لتطوان ما يزال مغلقاً، ومستشفى بن قريش يعرف تعثرات غير مبررة تحول دون افتتاحه، فيما تعاني أقاليم الفحص أنجرة، الشاون، العرائش، وزان والحسيمة من خصاص كبير في البنيات الاستشفائية والتشخيصية.
ويزداد المشهد قتامة مع النقص الحاد في الموارد البشرية: أطباء يفضلون الهجرة نحو الخارج أو القطاع الخاص، ممرضون يشتغلون فوق طاقتهم، ومراكز صحية لا يتوفر بها سوى ممرض وحيد أو طبيب عام يواجه مئات المرضى يومياً. هذا العجز في العنصر البشري يفرغ الإصلاح من محتواه، ويجعل أي تجربة جديدة مهددة بالانهيار قبل أن تبدأ.
من وعود اللامركزية إلى واقع البيروقراطية: المجموعات الصحية الترابية أمام امتحان الثقة
المجموعات الصحية الترابية صُممت كآلية لامركزية للقرار الصحي وربطه بالتراب، غير أن الواقع يكشف استمرار القبضة المركزية: المجالس الترابية بلا سلطة فعلية، المنتخبون بلا تأثير، والمواطنون مغيبون عن آليات التقييم والمشاركة. هذا التباين بين النص والتطبيق يجعل الإصلاح أقرب إلى عملية تجميل إداري، بدل أن يكون تحولا حقيقيا في طريقة تدبير الصحة العمومية.
الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يتحقق عبر إعادة إنتاج البيروقراطية تحت مسميات جديدة، بل من خلال إشراك المجتمع في القرار الصحي، وإرساء حكامة تشاركية تضمن الرقابة والمساءلة، وتربط المسؤولية بالمحاسبة.
ومع ذلك، لا يمكن الحكم على تجربة الوحدات الصحية الترابية قبل انطلاقها فعليا، لكن من الواقع الملموس يمكن استباق كل التحديات التي ستواجه الإدارة الجهوية في المستقبل القريب. أهم هذه التحديات هو إيجاد حلول استعجالية للتمويل الكافي، بما يسد الخصاص الحاد في جميع ميادين الكشف والتطبيب والعلاج والوقاية. فدون معالجة هذه الإشكالات البنيوية، ستظل اللامركزية الصحية شعاراً بلا مضمون، والإصلاح الصحي وعداً بلا أثر.
الأطباء يهاجرون والمرضى يحتضرون: أزمة الموارد البشرية كفضيحة وطنية
يمتلك المغرب حالياً 32 ألف طبيب فقط لـ37 مليون نسمة (طبيب واحد لكل 1,700 مواطن، مقابل معيار منظمة الصحة العالمية: طبيب واحد لكل 1,000). والأسوأ أن حوالي 600 طبيب سيواصلون سنوياً مغادرة الوطن نحو الخارج أو القطاع الخاص، أي ما يعادل ثلث خريجي الكليات.
في التمريض، الوضع ليس أفضل: أقل من ممرض واحد لكل 13 سريراً. النتيجة واضحة: إنهاك، تراجع جودة الخدمات، وتصحر طبي في الأقاليم.
من دون خطة وطنية للتوظيف والتحفيز الجهوي (سكن، منح، امتيازات)، ومن دون إحداث خدمة طبية وطنية إلزامية في المناطق النائية، ستبقى المجموعات الصحية الترابية مجرد هياكل بلا مضمون، عاجزة عن ضمان الحق الدستوري في الصحة.
تمويل هش يفرغ التغطية الصحية من مضمونها الاجتماعي
التغطية الصحية الشاملة تُقدَّم كمنجز تاريخي، لكنها تستند إلى قاعدة مالية هشة. فميزانية الصحة في المغرب لا تتجاوز 6% من الموازنة العامة، مقابل 9% في إسبانيا و11% في فرنسا. أما الإنفاق الصحي للفرد فلا يتخطى 2000 درهم سنوياً، أي أقل من نصف ما يُصرف في تونس (4000 درهم)، وبعيداً عن فرنسا (30 ألف درهم).
هذه الأرقام تكشف مفارقة صارخة: كيف نعلن عن «تغطية شاملة» بينما المرفق الصحي يعاني خصاصاً حاداً في الأطباء، وفي الأدوية، وفي التجهيزات الأساسية؟ بطاقة التأمين الصحي ستظل بلا معنى إذا غاب الطبيب وغاب الدواء. لذلك، المطلوب اليوم هو اعتبار الصحة استثماراً استراتيجياً، لا مجرد بند إنفاق اجتماعي.
غير أن المهتمين بالشأن الصحي في المغرب عموماً، وفي جهة طنجة–تطوان–الحسيمة على وجه الخصوص، يتساءلون عن حجم الخصاص مقارنة بالمعايير التي تعتمدها المنظمة العالمية للصحة: معدل 4,45 مهني صحي (أطباء، ممرضون وتقنيون) لكل 1000 نسمة، ونسبة 10% على الأقل من الميزانية العامة مخصصة للقطاع. الواقع أن المغرب لا يزال بعيداً عن هذه العتبة، ما يفرض إطلاق برنامج استعجالي يهم التمويل، والبنيات التحتية، والموارد البشرية.
ويبقى السؤال الحاسم اليوم: هل سيتجاوب مشروع ميزانية 2026 مع هذه التحديات، بتخصيص الاعتمادات الضرورية لإنجاح تجربة المجموعات الصحية الترابية في الجهة الشمالية؟ أم أن الشعارات ستظل أكبر من الإمكانيات، فيتحول ورش «الدولة الاجتماعية» إلى وعد مؤجل؟
دواء بأثمنة أوروبية لمواطنين بأجور هزيلة وهشة
الأدوية في المغرب من بين الأغلى في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، بينما مداخيل الأسر تبقى محدودة. تكرار انقطاع الأنسولين والمضادات الحيوية وأدوية السرطان يدفع المرضى للاختيار بين الاستدانة أو مواجهة الموت الصامت.
فشل الدولة في فرض سياسة قوية لتشجيع الدواء الجنيس سيعمق الأزمة. ومن دون ضبط الأسعار، تطوير الإنتاج المحلي، ورقابة صارمة على لوبيات التوزيع، ستظل الإصلاحات الصحية ناقصة، وستبقى الصحة حقاً محجوزاً للقادرين على الدفع.
غضب الشارع وقلق المهنيين: النقابة الوطنية للصحة العمومية في خط المواجهة
اليوم يلتقي غضب المواطنين مع تعبئة المهنيين في قطاع الصحة. ففي يوم 27 شتنبر 2025، احتضن المعهد العالي لمهن التمريض وتقنيات الصحة بتطوان المؤتمر التأسيسي للمكتب الجهوي للمجموعة الصحية الترابية، المنظم من طرف النقابة الوطنية للصحة العمومية، العضو المؤسس للفيدرالية الديمقراطية للشغل.
ينعقد هذا اللقاء تحت شعار: من أجل رؤية موحدة لإعادة بناء المنظومة الصحية وحماية المكتسبات، بهدف بناء جبهة نقابية نضالية تدافع عن الحق في الصحة وتحسن ظروف العمل للأطر الصحية.
إن هذا التقاطع بين الغضب الشعبي والتعبئة النقابية يوجّه رسالة واضحة: من دون انخراط فعلي للممارسين والمواطنين، ستظل الإصلاحات حبراً على ورق، وستبقى المجموعات الصحية الترابية مجرد واجهة إدارية لا تلبي انتظارات المجتمع.
المغرب عند مفترق الطرق: الدولة الاجتماعية بمضمون حقيقي كتجسيد لاختيار سياسي أو مشروع طموح لكن يفتقر إلى آليات التنزيل والأجرأة
الفصل 31 من الدستور يضمن الحق في الصحة. لكن حين تُرفع الوعود من دون موارد أو كفاءات، سيتحول الحق إلى وهم، والدولة الاجتماعية إلى شعار فارغ.
المغرب يقف اليوم أمام لحظة سياسية فاصلة: إما أن تتحول المجموعات الصحية الترابية إلى ثورة في العدالة الاجتماعية وتجسيد فعلي للدستور، أو ستتحول إلى مقبرة جديدة للثقة، حيث توجد بطاقة التأمين لكن يغيب الطبيب، ويوجد خطاب «الدولة الاجتماعية» لكن يختفي العلاج.
هذه ليست مجرد تجربة تقنية، بل اختبار سياسي سيحدد مصداقية الدولة أمام مواطنيها عشية استحقاقات انتخابية مصيرية. النجاح هنا يعني بناء عقد اجتماعي جديد، أما الفشل فسيسجَّل كخيانة سياسية جديدة، ستعمق الهوة بين الدولة ومواطنيها.
(*) الكاتب الإقليمي للاتحاد الاشتراكي – تطوان
الكاتب : محمد السوعلي (*) - بتاريخ : 01/10/2025

