النيو ليبرالية المغربية: نمو محصور، إصلاحات مشوهة، وعدالة اجتماعية ومجالية غائبة

محمد السوعلي(*)
في سياق يتسم بتحسّن المؤشرات الاقتصادية في مختلف مناطق العالم بعد سنوات من التباطؤ، تبرز المفارقة المغربية كواحدة من أعمق تجليات الأزمة النيو ليبرالية التي عمقتها خيارات حكومة التغوّل. فعلى الرغم من توفر كل شروط النجاح-من التوجيهات الملكية السامية، إلى الاستقرار الأمني والسياسي، وصولًا إلى حوافز الاستثمار المتزايدة-لم تحقق الحكومة إلا ما يرسّخ الفشل: تضخم مقلق، بطالة قياسية، غلاء غير مسبوق في المعيشة، تجميد للأجور، وتفاقم مظاهر الفساد والمحسوبية وغياب الحوار مع المعاضة البرلمانية والنقابات المهنية…
أمام هذا الوضع المتأزم، يواصل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ديناميته التنظيمية الميدانية، من خلال تجديد هياكله في الأقاليم والعمالات، وإعادة بعث الروح في تنظيماته الشبيبية والنسائية، استعدادًا لعقد مؤتمره الوطني الثاني عشر في شهر أكتوبر 2025. هذا الزخم يرمي إلى ربح رهان الانتخابات المقبلة لسنتي 2026 و2027، وقد جعل الحزب من سنة 2025 سنة للانفتاح على المجتمع بكل فئاته، لنقل صوته إلى الشباب والنساء والرجال، والتأكيد على مشروعية بديله الاجتماعي الديمقراطي.
ومن هذا المنطلق، يسعى هذا المقال إلى تقديم قراءة تحليلية متكاملة ترصد تناقضات النمو الاقتصادي المنفصل عن العدالة الاجتماعية، وتفكك الخطاب الحكومي عبر تفحص الواقع المأزوم للقطاعات الحيوية. كما يكشف المفارقة الصارخة لحكومة توفرت لها كل شروط النجاح، لكنها أخفقت في التنزيل الفعلي للإصلاحات. ويستعرض المقال أيضًا سنة 2025 باعتبارها مرحلة مفصلية في دينامية الانفتاح والتعبئة السياسية التي يقودها الاتحاد الاشتراكي، في أفق محطة 2026 التي ستشكل لحظة حاسمة بين مواصلة نهج الفشل النيوليبرالي، أو التوجه نحو مرحلة بديلة تؤسس لعقد اجتماعي جديد، قائم على العدالة، والكرامة، والمشاركة الديمقراطية.
الاقتصاد ينمو، والعدالة تتراجع: عندما يغيب التوزيع وتُحتكر الفرص
في بلد يُفترض أنه اختار طريق «الدولة الاجتماعية»، تُنشر أرقام النمو كما لو كانت شهادة براءة. الحكومة لا تكلّ ولا تملّ من الترويج لمعدل نمو يبلغ 3.2% (2024 – البنك الدولي)، وكأن هذا الرقم، المعلَّق في فضاء الإحصائيات، قادر على إسكات آهات ملايين المغاربة. قال رئيس الحكومة عزيز أخنوش ذات خطاب: «المواطن سيكون في صلب السياسات العمومية»، لكن واقع الحال يكشف أن ما يوجد في الصلب هو التوازنات الماكرو اقتصادية، أما المواطن، فمُبعد عن الأولويات: ينهكه الانتظار في الإدارات، يُهمل في القرى المعزولة، ويُترك وحيدًا في مستشفيات خاوية إلا من الوعود.الشباب، عماد الوطن، يعاني من بطالة مزمنة؛ أكثر من 285 ألف من حاملي الشهادات عاطلون عن العمل حسب المندوبية السامية للتخطيط، فيما تتآكل الطبقة المتوسطة أمام ارتفاع الأسعار وضيق العيش. في البوادي، ثلث الأسر لا تصلها خدمات الصحة الأساسية.ومع ذلك، تواصل الحكومة حديثها عن «التعافي»، في خطاب يبدو كأنه موجه لأسواق المال وللمستثمرين الكبار لا للمجتمع. كما أن التجارب المقارنة، مثل النموذج البرتغالي أو حتى التونسي، تُظهر أن بإمكان الحكومات في ظروف أصعب أن ترفع من الإنفاق الاجتماعي وتربط النمو بتحسين جودة الحياة لا فقط بالتوازنات المالية.
ومما يزيد الوضع اختناقًا أن هذا النمو يجري داخل اقتصاد شديد التمركز، يُفتقر فيه إلى روح المنافسة. نفس الفاعلين الاقتصاديين يستحوذون على أغلب الصفقات، نفس المجموعات تتقاسم الامتيازات، ونفس الأصوات تحضر في كل المجالس والتقارير. لا تعددية حقيقية في الإنتاج، ولا دعم ملموس للمقاولات الصغيرة والمتوسطة، ولا فرص متكافئة للولوج إلى التمويل أو السوق. ما يتشكل في الخفاء هو اقتصاد مغلق، اقتصاد ريعي وغير مهيكل، تقوده لوبيات معلنة، وينتعش على حساب الفئات المهمشة. إنه «نمو بلا مجتمع»، ثراءٌ في الأعلى وفقرٌ في الأسفل. نموذج لا يُخطئ في التنفيذ، بل ينجح في تحقيق هدفه الحقيقي: إنتاج الثروة لفئة، وتوزيع الفتات على البقية، باسم الاستقرار، وباسم «الفعالية».
ولعل الأخطر أن الأزمة لم تعد حكرًا على أرقام الاقتصاد الكلي أو نسب الفقر والبطالة، بل باتت ملموسة في كل القطاعات الحيوية. فالتعليم العمومي يعاني من نزيف في الموارد البشرية، تدهور في الجودة، وانقطاع آلاف التلاميذ عن الدراسة كل سنة، دون أي رؤية استراتيجية حقيقية للإنقاذ. الصحة العمومية تتراجع أمام تمدد العجز في البنيات الأساسية، ونقص الأطر، وتنامي الفجوة بين المدينة والبادية. التشغيل أصبح ملفًا مدمنًا على الحلول المؤقتة، بلا أفق هيكلي، وبلا استراتيجية إنتاجية واضحة.
أما الإنتاج الفلاحي، فرغم ما تحقق من مشاريع كبرى ضمن مخطط «المغرب الأخضر»، إلا أن النتيجة كانت عكسية: هشاشة سلاسل التوزيع، سيطرة الكبار، وغياب الأمن الغذائي لشرائح واسعة من المواطنين. في الصناعة، لم تتحقق الطفرة الموعودة، وظلّت نسبة إدماج النسيج الوطني محدودة. أما السياحة، فعادت بعد الجائحة بلا مضمون اجتماعي حقيقي، وبدون إقلاع داخلي يلامس الجهات المهمشة. أما الثقافة، فقد تحوّلت إلى ديكور بروتوكولي يُستدعى في الافتتاحيات، ويُقصى من الميزانيات.
إن ما أُنفق من الميزانية العامة على هذه القطاعات — من برامج ضخمة ومشاريع مهيكلة وصناديق استراتيجية — لم يُترجم إلى مردودية اجتماعية حقيقية، لأن من يقود الحكومة لم يملك منذ البداية لا الرؤية ولا الإرادة لبناء دولة العدالة، بل اكتفى بخطاب الإنجاز في غياب أثر ملموس. فشل هذه الأغلبية ليس وليد التراكم، بل نتيجة مباشرة لاختياراتها المتسرعة، وارتباكها البنيوي، وتناقض خطابها مع أفعالها. وفي هذا السياق، يقترح حزب الاتحاد الاشتراكي إرساء نموذج بديل مبني على تحفيز الاقتصاد المنتج، والتوزيع العادل للثروات، وربط الاستثمار بمردوديته الاجتماعية، لا فقط بالربح السريع.
من دولة الرعاية إلى حكومة التخلي: واقع يكشف زيف الشعارات
في دولة تسوّق نفسها كدولة اجتماعية، يُفترض أن يكون التعليم والصحة والعمل الكريم أركانًا لا تمس. لكن ما يحدث اليوم هو تفكيك بطيء وصامت لهذه الأركان، تحت مسمى «الإصلاح». وزير الميزانية يتحدث عن إصلاحات شجاعة، ووزير الصحة يعترف أن التغطية الاجتماعية موجودة على الورق فقط، ووزيرة المالية تؤكد ضرورة طمأنة الأسواق المالية. هكذا تتحول مفاهيم العدالة إلى شعارات فضفاضة، بينما تستمر الهشاشة في التمدد.
في التعليم، التوظيف بالتعاقد بدلًا من الاستثمار في الكفاءة والاستقرار. في الصحة، نقص الموارد البشرية والمعدات. في الحماية الاجتماعية، غياب تام لمقومات التنزيل الحقيقي للتوجيهات الملكية منذ سنة 2021. والأدهى أن الشراكات العمومية-الخاصة تتمدد في غياب أي مراقبة برلمانية أو شعبية، مما يجعل المواطن رهينة لآليات السوق حتى في أبسط حقوقه.
ومن المفارقات الصارخة التي لا تُحسب للحكومة، بل تُحسب عليها، أنها جاءت في ظرفية مواتية قلّما توفرت لحكومة سابقة؛ فقد حظيت بتوجيهات ملكية واضحة تدعو إلى إطلاق إصلاحات جوهرية في الحماية الاجتماعية، والثقافة، والتشغيل، والعدالة المجالية، كما وُضعت بين يديها وثيقة مرجعية متكاملة هي «النموذج التنموي الجديد»، التي حددت بكل دقة الرؤية المستقبلية والأهداف الاقتصادية والاجتماعية ووسائل التنفيذ ومصادر التمويل. غير أن هذه الحكومة، رغم توفرها على أدوات النجاح، أخفقت في التفعيل الجاد والتنزيل الفعلي. بدل تحويل هذه الأرضية الغنية إلى خريطة طريق تنفيذية، اكتفت برفع شعاراتها في المناسبات الرسمية، بينما ظلت السياسات العمومية رهينة الارتجال والتكنوقراطيات المحدودة الأفق. والنتيجة تآكل متسارع للثقة، وتعثر واضح في البرامج، وغياب التنسيق بين القطاعات، وفجوة متزايدة بين سقف التطلعات التي تُصاغ في خطب العرش وافتتاح البرلمان، وبين ردود الحكومة التي لا تتجاوز حدود البلاغات، دون أثر فعلي في حياة المواطنين. إنه فشل مركّب، لا يقف عند حدود ضعف الأداء، بل يتجاوز ذلك إلى خيانة الالتزامات الوطنية العليا.
:2025 سنة التعبئة والانفتاح والاستعداد للمؤتمر الوطني
في هذا السياق المأزوم، تبرز أهمية العمل السياسي الجاد كرافعة للتغيير. وقد اختار حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن يجعل من سنة 2025 محطة نوعية للتطوع، والانفتاح على قوى المجتمع، خصوصًا فئة الشباب، من خلال استعادة روح المبادرة الميدانية وتوسيع دائرة التعبئة الشعبية. فإلى جانب الدفاع عن الخيار الاجتماعي، يعمل الحزب على إعادة هيكلة تنظيماته على المستوى الإقليمي والجهوي، مع الحرص على استكمال تجديد هياكله الشبيبية والنسائية، في أفق عقد المؤتمر الوطني الثاني عشر في أكتوبر 2025.
وتُعد التعبئة الحزبية لاستقطاب الفعاليات الجمعوية والنقابية والمهنية إحدى أولويات هذه المرحلة، بما يعيد الاعتبار للفعل السياسي النبيل، ويرسّخ حضور الحزب داخل النسيج المجتمعي. وفي هذا الإطار، أطلقت الشبيبة الاتحادية حملة منظمة لتشجيع الشباب على التسجيل في اللوائح الانتخابية، باعتبار ذلك مدخلاً ضروريًا لتجديد النخب، وتعزيز المشاركة السياسيةوتأسيس علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع قوامها الإنصاف والمحاسبة
2026 محطة فاصلة بين الاستمرار في العبث أو التأسيس للعدالة
ما نعيشه اليوم ليس أزمة ظرفية، بل مسارا ممنهجا عنوانه: الاقتصاد أولًا، والإنسان مؤجَّل. تُقدَّم برامج مثل «أوراش» و»فرصة» كحلول مبتكرة، لكن واقعها لا يتجاوز التشغيل المؤقت بلا أفق، بلا حماية، بلا كرامة. الحكومة تتحدث عن حلول عملية ومبتكرة، في حين أن الشباب يعيشون اللاجدوى والقلق والخوف من الغد.
المديونية تجاوزت 96% من الناتج الداخلي الخام (وزارة المالية)، والاقتصاد غير المهيكل يستوعب ثلث اليد العاملة، والدولة تواصل «إصلاحاتها» وكأن شيئًا لم يكن. وفي كل مرة، يُرفع شعار «لا بد من الحفاظ على التوازنات»، وكأن التوازن المطلوب هو استقرار امتيازات القلة، لا إنصاف الأغلبية.
لكن الصمت الشعبي ليس غفلة، والهدوء ليس رضا. هناك وعي يتشكل في العمق، ويقظة تزداد اتساعًا. سنة 2026 ليست مجرد انتخابات، بل فرصة تاريخية لإعادة تعريف التعاقد بين الدولة والمجتمع. إما أن نواصل السير نحو مزيد من الخوصصة، والتمييع، والتفاوت، أو نختار الانعطاف نحو غد أفضل، عماده العدالة الضريبية، وسيادة الدولة على القطاعات الحيوية، وتوزيع الثروة، واسترجاع الثقة في السياسة.
لن يتحقق التغيير بالصبر وحده، بل بالقرار. والقرار اليوم بيد المواطن. فإما أن نصوّت للقطيعة مع نموذج أنهك الوطن وأهان المواطن، وإما أن نمنح الاستمرارية لمن يرى في المغرب سوقًا، لا مجتمعًا، وفي الشعب رقمًا، لا قيمة. 2026 ليست اختبار حزب، بل اختبار وعي. ولعلها آخر فرصة قبل أن يتحول الغضب المكتوم إلى انفجار يصعب احتواؤه.
لقد دفع هذا الشعب ثمنًا باهظًا من الانتظار والصبر، ولن يتخلى عن حلمه بدولة عادلة. والاتحاد الاشتراكي، الذي سُقي تاريخه بدماء المناضلين، لن يقبل أن يكون شاهد زور على تعميق الجراح. وبعدما رُفض مقترح ملتمس الرقابة الذي أعده حزب القوات الشعبية من قبل الأغلبية وأطراف من المعارضة البرلمانية، فإن الرد يجب أن يكون أقوى: فلنجعل من سنة 2025 سنة للمحاكمات الشعبية لحكومة التغوّل، كما دعا إلى ذلك برلمان الحزب في دورته الأخيرة.
إنّ سنة 2026 ليست موعدًا انتخابيًا فقط، بل موعدا مع الذاكرة، ومع المستقبل.
(*)عضو لجنة التحكيم والأخلاقيات بالحزب
الكاتب : محمد السوعلي(*) - بتاريخ : 11/06/2025