تخليدا لذكرى انتفاضة 20 يونيو المجيدة..
اسماعيل الحلوتي
من الوهم الاعتقاد بأن ذاكرة المغاربة قصيرة، وغير قادرة على اختزان المعلومات والأحداث التي بصمت تاريخ بلادهم سواء بمداد الفخر أو رصاص الغدر. فبحلول يو الخميس 20 يونيو 2019، يكون قد مضى قرابة أربعة عقود على انتفاضتهم المجيدة، التي أزهقت فيها مئات الأرواح من الأبرياء، إناثا وذكورا، صغارا وكبارا، شبابا وشيوخا، بعدد من أزقة وشوارع وأحياء المدينة المجاهدة الدار البيضاء، على أيدي «قناصة»من قوات الأمن والجيش، الذين يفترض فيهم حماية العباد والدود عن حوزة البلاد. فضلا عن اعتقال آلاف المواطنين بدون محاكمات، والزج بهم في أقبية السجون والمعتقلات السرية المفتقدة لأبسط الشروط الإنسانية…
فكيف اندلعت شرارة تلك الحرب القذرة على مواطنين عزل إلا من إيمانهم الراسخ بعدالة قضاياهم ومشروعية مطالبهم؟ ما من شك في أن الأحداث المأساوية وعلى غرار سابقتها في 23 مارس 1965 التي راح ضحيتها مئات الشباب المتظاهرين والمناهضين للسياسات التعليمية الفاشلة، وشمت الذاكرة المغربية بجروح عميقة، مازالت آثارها تشكل وصمة عار في جبين مغرب ما بعد الاستقلال. إذ بعد الزيادات الصاروخية المتتالية ما بين عامي 1979 و1980 في أسعار المواد الأساسية وما تلاها من إعلان آخر في أواخر شهر ماي 1981 من زيادات جديدة، بلغت نسبها بالنسبة للسكر %112 والزيت %107 والدقيق 185 % والحليب 200 % والزبدة 146 %، مما ساهم في إنهاك القدرة الشرائية للمواطنين، إلى جانب تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتضييق على الحريات النقابية…
وأمام تعنت حكومة الراحل المعطي بوعبيد ورفضها التام الاستجابة إلى مطالب الجماهير الشعبية، كان طبيعيا أن يرتفع منسوب الاحتقان ويعم السخط والاستياء في أوساط مختلف الشرائح الاجتماعية، وتتخذ المركزية النقابية ل»الاتحاد المغربي للشغل» قرار إضراب جهوي يوم 18 يونيو 1981، بيد أن المركزية النقابية «الكونفدرالية الديمقراطية للشغل» مسنودة بحزب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، كان لهما رأي آخر وارتأيا اللجوء إلى التصعيد وممارسة الضغط على الحكومة عبر الإعلان عن إضراب وطني عام يوم السبت «20 يونيو 1981»، يشل الحركة الاقتصادية على صعيد التراب الوطني في المؤسسات العمومية وشبه العمومية والخاصة والموانئ والمطارات ومختلف وسائل النقل…
ولأن أصحاب القرار انزعجوا كثيرا من الاستجابة الشعبية الواسعة لدعوة الإضراب العام المعلن عنه من قبل أقوى منظمة نقابية وأكبر هيئة سياسية ذات الجريدة الأكثر انتشارا ومقروئية «المحرر»، واعتبروه نوعا من التمرد وتهديدا صريحا لمصالحهم في ظل ما تمر به البلاد من أزمة اقتصادية خانقة، وسعيا منهم إلى محاولة تكسير شوكة الداعين إليه، فإنهم جندوا كل طاقاتهم من أجل التصدي لكل محاولة تروم تأزيم الأوضاع وإيقاف القلب النابض للبلاد عبر إخلاء مقرات العمل وإغلاق المحلات التجارية، والحيلولة دون تجمهر المواطنين للاحتجاج والاستنكار. حيث عمدت السلطات بواسطة أعوانها إلى إجبار التجار على فتح محلاتهم، وتوزيع مناشير بين المواطنين تحذر من مغبة الانخراط في الإضراب. وانتشرت بموازاة ذلك الأجهزة الأمنية والقوات المساعدة ورجال الدرك والجيش، في مختلف المدن بهدف ترهيب السكان ومنع التجمعات وتشتيتها.
وبما أن كل أساليب الاستفزاز والمضايقات لم تزد عموم أبناء الشعب إلا إصرارا على الاستنكار والتنديد بتردي أوضاع البلاد والعباد واستفحال الفساد والاستبداد، فقد انطلقت المظاهرات صاخبة في العاصمة الاقتصادية، وخوفا من أن يمتد لهيبها إلى باقي المدن والمناطق البعيدة، اضطرت السلطات إلى حشد كل قواتها قصد إخماد نيران الغضب المتأججة في الصدور، معتمدة في ذلك على استخدام العنف المفرط وتوسيع دائرة الاعتقال التعسفي والعشوائي ومداهمة البيوت، إلا أن ذلك لم يكن قادرا على إيقاف تدفق تلك الأمواج البشرية الهادرة. وهو ما أدى إلى صدور أوامر بدخول الدبابات إلى أهم الأحياء، والشروع في استعمال الرصاص الحي لشل حركات المتظاهرين وكتم أنفاسهم، وبذلك أريقت دماء حوالي ألف من الشهداء الأبرياء أمام أنظار العالم بكل همجية، تحت ذريعة أن هناك عناصر مندسة موالية للخارج، تسعى إلى زعزعة أمن المواطنين والمس باستقرار البلاد.
فبأي ذنب سفكت دماء مواطنين أبرياء وقذف بآخرين في غياهب السجون بمن فيهم قادة سياسيون ونقابيون؟ ربما ذنبهم الوحيد أنهم انتفضوا ضد سياسات التفقير والتجويع واستشراء الفساد والاستبداد واستنزاف ثروات البلاد والعباد من قبل بعض الفئات المحظوظة، ورفضوا انصياع مدبري الشأن العام لإملاءات المؤسسات الدولية. فالمجزرة الدموية الرهيبة والاعتقالات التعسفية، جاءت لتعكس الوجه البشع والعقلية البئيسة للسلطات المخزنية، التي يظل أحد رموزها البارزين وزير الداخلية ادريس البصري، الشهير بغطرسته ودهائه في رسم الخرائط الانتخابية وصناعة نتائجها، الذي ستبقى لعنة أرواح شهداء الانتفاضة المباركة تلاحقه حتى في قبره لوصفهم ب»شهداء كوميرة».
نحن اليوم أمام انصرام 38 سنة على انتفاضة 20 يونيو 1981 المجيدة، التي خلفت وراءها جرحا غائرا في الذاكرة المغربية من حيث أعداد الشهداء والمصابين، فما الذي تغير بين الأمس واليوم؟ جرت مياه كثيرة جرت تحت الجسر دون أن يحدث التغيير المأمول، إذ لم تزدد العقليات إلا تحجرا والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تدهورا، ومازال المغاربة يعانون من شتى أشكال الحيف والقهر والتهميش والإقصاء وغياب الحكامة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، وينتظرون بلهفة إصلاح المنظومة التعليمية والنهوض بالقطاع الصحي والحد من معدلات البطالة والفقر والأمية وتوفير الحرية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية… فهلا استفاقت الضمائر؟
الكاتب : اسماعيل الحلوتي - بتاريخ : 27/06/2019