ثورة كورونا :القطائع التاريخية الأربع؟

سعيد بوخليط

 

هي القيامة الآن ! الموت تراقص الجميع!صارت الموت وصفة يومية ! يلتهم العالم أخيرا ما تبقى منه ! وحش يدب فوق أجساد الجميع !الجميع يتكلم فقط لغة الرعب ! … . هكذا مشهد العالم حاليا؛مع الإنتاج الإعلامي،على امتداد اليوم؛للموت،بسبب الزحف الأحمر الجحيمي لوباء كورونا. لحظة،أظنها تشكل بداية تبلور ملامح بنية تاريخية ترسي ممكنات أخرى لمتواليات التاريخ المعاصر،ستؤدي لامحالة نحو انقلاب ليس بالهين لمنظومة سوسيو-سياسية وثقافية،وكذا أنساق العلاقات مع الذات والآخر والطبيعة… ثم انبعاث مفاهيم من رمادها بعد تواريها خلف الواجهة طويلا.
بعد فترة الحرب الباردة،التي شملت سنوات الستينات والسبعينات والثمانينات،حينما استكان العالم في إمكانية بقائه حيا؛ إلى التوازن الندِّي للرعب، بين المعسكرين الغربي والشرقي، بزعامة أمريكا والاتحاد السوفياتي. بحيث ارتبط مصير الكون ،في إحداثياته الأفقية والعمودية، بمجرد لمسة استباقية يترصدها هذا الطرف أو ذاك،على زر شفرة القنبلة النووية.إذن،أبسط سلوك نَزَوي يراهن على الضربة الأولى، ربما أنهى العالم منذ زمن طويل.
ثم باغتت العالم وقائع حرب الخليج الثانية،نتيجة اجتياح العراق جارته الكويت؛ فاحتشدت أغلب جيوش القوى الكبرى،لمواجهة نظام صدام حسين.حينئذ،وضعت البشرية قاطبة يدها على قلبها،مشرئبة بالمطلق نحو بؤرة اشتعال حرب عالمية ثالثة؛بالتالي النهاية الحتمية لوجود العالم،مادام الذكاء العسكري ونوعية الحرب،قد بلغا شأنا كبيرا في وصفات التدمير. لم يستنفذ العالم تماما نَفَسَه،غير أن الآثار الجيوبوليتيكية والاقتصادية لإخراج صدام من الكويت؛واجتثاث حضارة العراق،مقابل ذلك،لم تكن بالهينة بتاتا أو العابرة، بل خلخلت مرتكزات بنيات المنظومة السابقة عن سنة 1990 .
هكذا،ترسخت أطروحات النظام العالمي الجديد.تفككت الثنائية القطبية بأنساقها الإيديولوجية؛وصارت أمريكا زعيمة العالم بلا منازع.تعبأت مختلف الأجهزة؛من أجل تكريس منطق ‘’أمركة’’ العالم؛التوتاليتاري ذي البعد الواحد.ثم تشكل روافد العولمة، ثقافيا واقتصاديا،والنتائج السلبية المترتبة عن الهزات الجذرية التي مست مختلف الجوانب الفكرية والقيمية والأخلاقية والمجتمعية والعلمية والمناخية….
تطورات سريعة بدون براديغمات عقلانية؛أنتجت خلطات عشوائية،تناثرت هنا وهناك،أفرزت حين تآلفها الحيوي وحوشا ومسوخا مشوهة،غير مسبوقة،اللهم حدسها افتراضيا خلال زمان سحيق من قبل تلك رؤى حوتها حدوس الأدباء والعلماء والفلاسفة،التي تنبأت بتراجيديات الممكنات المأثمية للعالم؛مادام الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان،وبأن أهل الشر سينجحون بعد كل أشواط الصراع والمقاومة والتصدي،في القضاء على هذا العالم بكيفية من الكيفيات.
بهذا الخصوص، أجمعت جل السيناريوهات؛أنه سواء حدثت القيامة جراء حرب نووية أو جرثومية أو ولوج العالم مرحلة سبات جليدي طويل الأمد،نتيجة اختلالات هيكلية في توازن الطبيعة، أو إفراز المختبرات العلمية خطأ،لأشكال من جنس الزومبي مغايرة تماما لما دأبت عليه الخريطة الجينية للبشر العاديين.عموما،سيدمر الشر نفسه حين قضائه على منابع الحياة.
أما اللحظة الرابعة،فيما يتعلق بالقطائع المفصلية التي عرفها العالم المعاصر فتعود إلى 11شتنبر 2001،وتحديدا الهجوم الإرهابي على مركز التجارة العالمية. حدث، لم يتصوره حتى أذكى أذكياء خبراء مراكز الجيوبوليتيك الدوليين،العارفين بأدق دقائق خبايا السياسة.هكذا،استيقظت البشرية منذ الساعات الأولى من اليوم الموالي للهجوم،على رعب احتمالات صيغ البطش الأمريكي،انتقاما مما حدث في قلب نيويورك،وقد حسمه الفيصل الشهير،لبوش الابن : إما معي أو ضدي.
إذن، بعد قطائع :الحرب البادرة،عاصفة الصحراء،العولمة،ثم الحرب على الإرهاب.هل يمثل راهنا،اكتساح وباء كورونا لكل البسيطة،نقلة أخرى،نوعية طبعا،ضمن صيرورة هذا العالم؛ اللامتوقعة؟ تماما على غرار باقي الانقلابات الكبرى. لذلك لن يكون عالم مابعد كورونا،كسابقه خلال فترة ماقبل صاعقة الجائحة.حتما،الحرب في مقدماتها الإخبارية، لكنها تضمر منذئذ حمولة مسالك جينية، لمنظومة مغايرة تماما،ستضع الإنسانية عند مداخل وجهات جديدة،تستلزم بالضرورة نظاما إبستمولوجيا وأخلاقيا أكثر منه إيديولوجيا،قد تستمر إشكالاته ومفاهيمه،متسيدة المشهد خلال السنوات المقبلة؛في انتظار حدوث أزمة جديدة غير متوقعة تفرزها تلقائيا ميكانيزمات هذه الرأسمالية المتوحشة.
عموما،سواء كانت كورونا حربا بيولوجية؛أو صراعا داميا بلا رحمة بين مافيات الشر التي تصنع مصير هذا العالم؛أو انتقاما شخصيا للطبيعة؛أو خطأ ميكروفيزيائيا جرثوميا داخل المختبرات ثم خرج عن نطاق السيطرة…،مهما تعددت هويات أصول مصدره،فالهوية تبقى واحدة لالبس معها،تشير تحديدا إلى بشاعة أزمات الرأسمالية الجهنمية،التي لاتبتعد عن آثار أزمة،إلا واقتادت البشرية صوب نفق مظلم آخر، أكثر حلكة و قتامة وهلاكا من سابقاتها.
إبان عقدي مأسسة العولمة في أفق تفعيل’’شرعية‘’ النظام العالمي الجديد،لم نلاحظ سوى تسيد نسق واحد،يحتفي به الضمير العالمي المنخرط في استتباب أركان الجريمة: أقصد اغتيال الإنسان،جملة وتفصيلا؛من خلال تجفيف منابع القيم الحضارية الكبرى التي لايمكن لحياة سوية أن تستقيم بغيرها.ثم وضع العقلاء في المحتجزات العقلية والسجنية والتهميشية والتحقيرية.مقابل إطلاق العنان،بلا هوادة،للجشع والاستهلاك الأحمق والقهر والتنميط و تعميم القتل والحروب والغباء والتفاهة و مختلف أطر الأنساق الجرثومية.
خلطة بيولوجية غريبة عن الحس الإنساني السليم،كان لابد لمخاضها أن ينجب مسخا نجيبا اسمه كورونا، لايرحم أبدا و لا يعرف سوى رطانة،شعارها «فلتكن الموت،إذن»! وقد تشرَّب أبجدياتها وتشبعها من عتاة الموت؛ الأوصياء هؤلاء.

الكاتب : سعيد بوخليط - بتاريخ : 19/03/2020