حول الدولة المدنية والدولة العسكرية..

د.رضوان تاشفين («)

إن أول ما يجدر التأكيد عليه، أن الخطاب السياسي الأكاديمي يضع أغلب التقابلات المفاهيمية بين الدولة المدنية والدولة الدينية، لكن قلَّما يتحدث عن أن الدولة العسكرية نقيض للدولة المدنية، لأن نشأة الدولة المدنية تاريخيا ارتبط باستقلاليتها عن الدولة الدينية، لكن سيطرة العسكر على مفاصل الدولة والهيمنة على السلطة في عدة أنظمة يقودنا بالأساس إلى دولة استبدادية بعيدة عن الأسس الديمقراطية التي تشكل جوهر وكنه الدولة المدنية.
ولا يخفى أن موضوع الجيش والسياسية أخذ مكانة في حقل العلوم الاجتماعية والسياسية نظرا لاهتمامه بأدوار المؤسسة العسكرية خاصة أنها تشكل في بعض الأنظمة السياسية مفتاحا رئيسيا لفهم تفاعلات العلاقات السياسية والاجتماعية داخل هذه النظم.
وما من شك في أن أدبيات السياسة الحديثة المقارنة تداولت موضوع الدولة المدنية والدولة العسكرية انطلاقا من مبحث العلاقة بين الجيش والسياسة، والتي ركزت على دور المؤسسة العسكرية في التغلغل والتحكم في الحياة السياسية وفي بعض الأحيان وصولها إلى قيادة الدولة، وتناولت أيضا الطرائق الممكنة التي تمكنها من احتلال الدور الرئيسي في توجيه السلطة لمصالحها الخاصة، على هذا الأساس، حاولت نظريات العلاقة بين الجيش والسياسة، بداية من أفكارهنتغتونHuntuington ومرورا بفينرFiner وجان فيتزJan ovritz، وصولا إلى كلاهام وفيليب Claham and Philip، تفسير العلاقات العسكرية المدنية وفهمها لوضع تصنيفات تحدد منطقا خاصا لهذه العلاقة، فيصبح في الإمكان توقع نتائج أي اضطراب في العلاقة بينهما».
ومما يجدر الإشارة إليه هنا، أن أغلب الدراسات حول الدولة العسكرية تجمع على أن العسكر أو الجيش لا يهتم ببناء الدولة الديمقراطية القانونية، بل يستحوذ على السلطة لقضاء مآربه الخاصة رغم اتجاهه نحو التحديث والإصلاح، فالنتيجة العامة للدراسة هي أن الجيش لا يبني دولة القانون، بل يحول الدولة إلى أداة للممارسة السلطة فحسب، كلما وقعت بين أيديه، أو كان مصدرا لها أو لمشروعيتها، وتبعا لذلك، فالعقلية العسكرية لا تنجح في تشييد علاقات مبنية على الحقوق والواجبات داخل الدولة بل ترتكز على منطق الصراع والقوة والمحاباة وتدجين النخب السياسية واحتكار الإعلام.
..فأهم سمات الدولة العسكرية التحكم في الإعلام وتوجيهه وخلق نخبة إعلامية وسياسية تابعة لها تدافع عن مصالحها وتقتدي بتوجيهاتها، حيث تفقد الحرية مساحتها شيئا فشيئا، ولا يبقى إلا صوت الدولة العسكرية يتحدث إلى الشعب.
وعلى هذا الأساس، فالدولة العسكرية دولة ديكتاتورية تسيطر على السلطة بشكل مطلق سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، بمعنى، أن النظام العسكري للدولة هو نظام الحكم انطلاقا من قوانين غير مستمدة من إرادة الشعب، وحتى وإن كانت هناك قوانين ومؤسسات تغيب الإرادة السياسية في تطبيقيها وتفعيلها، فوجود القوانين لا يعني بالضرورة وجود دولة الحق والعدالة كما يذهب في ذلك الفيلسوف شيشرون، فالقوانين يمكن ان ترتبط بمصالح من وضعوها أو تبقى حبرا على ورق، وبالتالي، فإن الدولة العسكرية تتجسد في هيمنة المؤسسة العسكرية على حق الحكم في الدولة، بحيث يكون القرار السياسي بيد شخص عسكري أو مجموعة من العسكريين يوجدون على رأس هرم هذه المؤسسة.
ويمكن للدولة العسكرية أن تكون متخفية في لباس الحكم المدني، حيث تمارس في الدولة بعض آليات الديمقراطية كالانتخابات والتداول على السلطة، لكن كل هذا تحت نفوذ الجيش، يتدخل لتسيير وتوجيه ميكانزمات الديمقراطية داخل المجتمع وفي اللعبة السياسية، وحتى وإن كانت حكومة اختارها الشعب..فغالبا تبقى شكلية لا سلطة لها على اتخاذ القرارات المصيرية للدولة.
صفوة القول، تعتمد الدولة العسكرية في الهيمنة على شؤون الدولة على الجيش في تثبيت الحكم واستمراره، وذلك من خلال قمع التظاهرات السلمية ونشر القطع العسكرية لنشر الخوف والرعب في نفوس المحتجين أو المنتقدين، كما أن الدولة العسكرية دولة بوليسية تضع نشاطات المواطنين تحت الرقابة الصارمة فتسوء المتتابعات والملاحقات ويُزَجُّ بالناس في المعتقلات، كما يتم في بعض الأحيان متابعة المعارضين بتهم تتحدث عن أمن الدولة وغيرها لإسكات كل من تسول له نفسه معارضة النظام أو حتى الإشارة إلى ذلك.
وفي ظل هذا الوضع، ينتج عن الدولة العسكرية نظام للحكم تتغلغل فيه أقلية معينة سواء من الاقتصاديين أو السياسيين تدافع عن مصالحها فقط، مما يخلق نوعا من التحالف بين السلطة والثروة يؤدي إلى احتكار الفعل السياسي والاقتصادي وتوجيهه في إطار المصلحة الخاصة.
على مستوى آخر، تستغل الدولة العسكرية الدين في مصالحها السياسية لضبط المجتمع، حيث يصبح مطية سياسية لتماهي مع الحكم أو القضاء على المعارضين، وكذلك جهاز القضاء الذي يصبح بدوره خاضعا لإملاءات الطغمة الحاكمة في جميع القضايا وخاصة القضايا الحقوقية.
ومما تجدر الملاحظة إليه، أن التاريخ أظهر الحكم العسكري للدولة كالمغناطيس، يغري طموحات الانتهازيين في تحقيق ما يستهدفونه من الاستيلاء أو التقرب إلى الحاكمين للمشاركة في إدارة شؤون الدولة لتلبية مصالحهم الشخصية، وبهذا تصبح الدولة خاضعة لأهوائهم، بعيدة عن سلطة الشعب وسيادة القانون وجاحدة للحقوق والحريات.
هكذا يبدو لنا أن قوة الحكام منذ القدم تجسدت في ركيزتين أساسيتين للتحكم في دواليب السلطة: الجيش ورجال الدين،فالحاكم مثل كل من السلطة الدينية والمدنية والعسكرية وهو الماسك بزمام أمورها والقاضي بجميع أمورها، وقد استمر هذا التقليد قرونا عديدة وفي أغلب دول العالم، لكن انفصال السلطة المدنية عن السلطة الروحية التي كانت أقوى وأشد تحكما من السلطة العسكرية، لم يشكل عقبة كبيرة أمام المدنيين في إرساء الدولة الحديثة من خلال رسم حدود المؤسسة العسكرية لا تحيد عنها بخصوص علاقتها مع الحياة السياسية والاقتصادية داخل الدولة.
ومن نافلة القول، أن ظاهرة عسكرة الدولة تعد عائقا محوريا في تحول أي دولة من دولة غير ديمقراطية إلى دولة ديمقراطية، فبنية الجيش وأسلوب اشتغاله.. اللذان يقومان على مبدأ تنفيذ الأوامر، من دون نقاش لا ينسجمان مع روح النظام الديمقراطي وقيمه، كما أن الطبيعة الأبوية بالمعنى العسكري للأنظمة العسكرية تحول دون تعزيز الديمقراطية، ففي التقاليد الديمقراطية الجيش والسياسة لا يلتقيان، فالعقلية العسكرية ليست هي العقلية المدنية، فشتان بين الدولة المدنية والدول العسكرية.
وفي سياق تحليلنا، يظهر أن هناك ارتباطا أساسيا بين الدولة والجيش في الدول الديمقراطية، فالعقيدة العسكرية للجيش يجب أن تكون مطابقة لعقيدة الدولة من حيث نظرتها للشؤون الداخلية بالإضافة إلى مواجهتها للأخطار الأجنبية، وكذلك مصادر التهديد والتغيرات المستمرة في النظام العالمي، مما ينعكس أثرها بشكل واضح على العقيدة العسكرية على مختلف مستوياتها، وهنا طبيعة الحرب المتوقع أن تخوضها الدولة، من حيث نوعها وشكلها ومستوياتها ومشروعيتها ووسائلها، فهي تحدد العقيدة العسكرية للدولة على مختلف مستوياتها وأيضا الاستراتيجية العسكرية للدولة، وينعكس تأثير تنفيذ الاستراتيجية العسكرية بشكل مباشر على وضع العقيدة العسكرية.
وتذهب الدراسات الحديثة أن المؤسسة العسكرية كلما زادت احترافيتها كلما ابتعدت عن ممارسة نشاطاتها غير العسكرية داخل الدولة، وفي هذا الأمر، يربط هينتغتون بين الاحترافية العسكرية والسيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية، إذ يرى أنه كلما زادت احترافية المؤسسة العسكرية انحصرت نشاطاتها غير العسكرية داخل الدولة، وهذا يفيد أن هناك علاقة جدلية بين مستوى الديمقراطية وبين مستوى تدخل العسكر في الشؤون السياسية.
ومن ثمة، يميز هينتغتون في نظريته في ما يخص الاحتراف العسكري بين العسكريين والمدنيين كجماعتين مختلفتين، فبالنسبة إليه العسكريون هم رجال محترفون في استخدام العنف عكس المدنيين، كما أن الاحترافية للجيش جاءت نتيجة أربعة أسباب وهي:
تطور المؤسسات العسكرية واحتياجها لأنواع مختلفة من التخصصات؛
نمو الدولة القومية، والتنافس بين الدول، وحاجة كل دولة لمؤسسة متخصصة للدفاع عنها؛
صعود الأفكار الديمقراطية، كأساس لتنظيم المؤسسات السياسية؛
وجود مصدر واحد للسلطة الشرعية على القوات المسلحة.

باحث في العلوم السياسية والقانون الاداري(*)

الكاتب : د.رضوان تاشفين («) - بتاريخ : 22/05/2023

التعليقات مغلقة.