حين يغيب الإصلاح ويختل التوازن: قراءة في مشهد التأزيم السياسي

محمد السوعلي(*)
رغم مرور أكثر من عقد على إقرار دستور 2011، لا تزال التجربة السياسية المغربية تعاني من اختناقات هيكلية. الخلل لا يكمن فقط في النصوص، بل في غياب الإرادة لتفعيلها. التوازن بين السلط يتآكل، والديمقراطية التمثيلية تتراجع. لدى بلدنا حكومة يمكنها أن تمارس جميع السلط والصلاحيات المخولة إليها دون أي تضييق، لكن قراراتها تفتقد إلى الفعالية المبتغاة، ولا تستجيب لانتظارات فئات عريضة من المواطنين، ولدينا معارضة يتم إقصاؤها بشكل منجهي من دوائر القرار رغم محاولاتها تقديم اقتراحات بدائل يمكن أن تساهم في إعادة الاعتبار للفعل السياسي، والمساهمة في التصدي للعبث ولخطاب الاستعلاء اللذان أصبحا سمة بارزة ودائمة الحضور في خطاب أعضاء الحكومة.
مظاهر التأزيم تتعدد: علاوة على تعدد أشكال معاناة فئات عريضة من المواطنين، فإن الحكومة، بدل أن تعمل على معالجة الاختلالات التي أدت إلى تأزيم الوضع، فإنها تبدي قدرا كبيرا من العناد، وترفض الإقرار بالأمر الواقع، وترفض كل أشكال المساءلة، وتصر على تضييق هامش حرية التعبير، عبر لجوء غير مسبوق لبعض أعضاء الحكومة لمتابعة بعض الصحافيين، كما أنها لا تبدي انشغالا كبيرا بهشاشة الاقتصاد، كل هذا ساهم في تزايد ضعف الثقة في المؤسسات. في المقابل، يتضخم الخطاب الشعبوي، وتُتهم المعارضة بكونها تعارض الإصلاحات التي لا وجود لها أصلا، كلما حاولت إبراز أوجه ضعف أداء الحكومة، وعدم الأخذ بعين الاعتبار للمصلحة العامة في العديد من قراراتها.
الرهان اليوم ليس التنديد بما تقوم به الحكومة، بل بمحاولة إعادة بناء الخطاب السياسي. خطاب يُعيد التوازن، يربط المسؤولية بالمحاسبة، ويزاوج بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. هذا ما عبّرت عنه مواقف الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي في حوارات متعددة، أبرزها تلك التي أدلى بها ل «اش كاين»، «العمق المغربي»، «نقطة إلى السطر»، و»بدون لغة خشب»، إضافة إلى لقاء زعماء المعارضة بمؤسسة HEM. مواقف تستند إلى أدبيات الحزب، وبيانات مؤسساته، وتعكس رؤية جماعية لا مجرد اجتهاد فردي في العديد من القضايا التي أسالت بعضها الكثير من المداد، نذكر من بينها:
فلسطين أولًا:تمثل القضية الفلسطينية مبدأ غير قابل للمزايدة. كانت هذه القضية حاضرة ولازالت في صلب الخطاب الاتحادي، تُعد فلسطين قضية وطنية بامتياز. المغرب، ملكًا وشعبًا، يلتزم بها سياسيًا وإنسانيًا. جلالة الملك، بصفته رئيسًا للجنة القدس، يقود هذا الالتزام، عبر دعم فعلي ومبادرات ميدانية.
الدعم الحقيقي لا يُقاس بالشعارات، بل بالمواقف. المسيرة الحاشدة بالرباط جسّدت هذا الوفاء. لكن استغلال القضية لتصفية حسابات داخلية يُضعفها. الدفاع عن فلسطين يمر عبر دعم مؤسساتها الشرعية، لا عبر إبداء المساندة غير المشروطة لفصائل قد تنزلق أحيانا، وربما بحسن نية، إلى اتخاذ قرارات ومبادرات تكون تكلفتها عالية، دون أن تحقق نتائج مستدامة، وتعطي للخصم الفرصة، ولربما الشرعية حسب البعض، في التنكيل بالفلسطينيين وتجويعهم، وتصبح العودة فقط لمرحلة ما قبل هذه المبادرة «7أكتوبر على سبيل المثال»أمرا صعب التحقيق.
السيادة الوطنية تُحتَرم، وكذلك السيادة الفلسطينية. من يدافع عن أرضه، يدعم من يقاوم من أجل حريته، بمنطق مسؤول لا بشعبوية عابرة..
تآكل التوازن الدستوري: هل ما زلنا في نظام شبه برلماني؟ دستور 2011 أسس لفصل السلط وتكامل الأدوار: الحكومة تُدبّر وتُحاسب، البرلمان يُشرّع ويراقب، القضاء مستقل، ومؤسسات الحكامة تُقيّم وتحمي.
لكن التوازن اختل. الحكومة وسّعت نفوذها على حساب باقي السلط. البرلمان تراجع، الجلسات الشهرية صارت شكلية، ومبادرات المعارضة تُجهض. مؤسسات الحكامة تواجه محاولات احتواء، ولم تعد فاعلة كما ينبغي.
حين تُعطل الرقابة ويُفرغ الدستور من روحه، تصبح الديمقراطية مجرد واجهة. فهل يُنتظر من الشباب أن يثق في مؤسسات تُفرَغ من مضمونها؟
قرار دعم الاستيراد:من يخدم من؟ قرار دعم استيراد الأغنام واللحوم تجاوز البعد الاقتصادي. الفلاح الصغير تضرر، والكساب تُرك لمصيره. المستفيدون هم الوسطاء والمضاربون. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن هذا القرار لا يندرج ضمن رؤية، ولا يأخذ بعين الاعتبار بعض المعطيات، من قبيل أنه في 2024، بلغ العجز التجاري أكثر من 27 مليار دولار، والفاتورة الغذائية 8.3 مليار وأن 63% من سكان القرى يعتبرون السياسات الفلاحية غير عادلة (باروميتر الفقر 2023).
الحل؟ توجيه الدعم إلى صندوق التنمية القروية، وتحفيز الإنتاج المحلي، وربط الاستيراد بشروط بيئية واقتصادية صارمة. الدعم يجب أن يُنصف الداخل لا أن يغذي الخارج.
ملتمس الرقابة: متى يصبح الدستور سلاحًا للإنقاذ؟ الدستور يمنح البرلمان حق ملتمس الرقابة. لكنه بقي رهينة النصاب. رغم مبادرة الاتحاد الاشتراكي، لم تجد المبادرة الدعم الكافي من باقي أطراف المعارضة.
تفعيل هذه الآلية اليوم ليس لإسقاط الحكومة فقط، بل لاستعادة ثقة المواطن في جدية المؤسسات. فالتلويح دون تنفيذ، يُفرغ الرقابة من معناها.
الانتخابات المقبلة: التمثيلية على المقاس؟ التحضير لاستحقاقات 2026 يتم دون نقاش وطني. لا حوار، لا إصغاء، لا تشاور. كل المؤشرات توحي بتوجّه أحادي لفرض خريطة انتخابية تخدم التوازنات الحالية.
نسبة المشاركة في 2021 لم تتجاوز 50%. أكثر من 6 ملايين ناخب امتنعوا عن التصويت. استمرار نفس المقاربة سيُعمّق العزوف.
إصلاح القوانين الانتخابية يجب أن يستند هذا الإصلاح إلى الإحصاء العام للسكان والسكنى. التمثيلية لا تُبنى على المقاس، بل على الإنصاف.
أصبح لزاما إفراد مكانة خاصة لخوض نقاش جدي ومسؤول حول موضوع الانتخابات. ينبغي على جميع الأحزاب السياسية التي تعتبر نفسها معنية بمستقبل البلاد أن تعمل من أجل التصدي للخطابات الشعبوية التي أصبحت طاغية، ومن أجل إعادة الاعتبار لمؤسسات الحكامة، بدل السعي لإقصاءها، أو التقليل من قيمة أعمالها، عندما لا تنسجم مع ما تريد الحكومة ترويجه. يجب على الفاعلين السياسيين أن يعوا بأنه لا يمكن اختزال الفعل السياسي في الاكتفاء بترديد نفس سردية توفر الحكومة على الشرعية، طالما أنها تتوفر على أغلبية برلمانية. توفرها على هذه الأغلبية لا يعطيها الحق، من الناحية الأخلاقية، على تكبيل عمل المؤسسة التشريعية، عبر تعطيل جلسات المساءلة مع رئيس الحكومة، وتعليق العمل بالفصل 100 من الدستور ، ولا على جعل السياسة تختزل في البث المباشر وعلى ترويج خطاب تضليلي يساهم في تزايد عدد من يشككون في جدوى الانتخابات، بل الأكثر من ذلك في جدوى العمل السياسي بشكل عام، وهو أمر قد يؤدي بلدنا ثمنه غاليا على المدى الطويل.
على الفاعلين السياسيين ألا يغفلوا أن 72 في المائة من الشباب يعتبرون أن السياسيين لا يصغون إليهم (المجلس الاقتصادي والاجتماعي 2022).
حصيلة حكومة أم حملة انتخابية؟ الحكومة قدّمت حصيلتها في منتصف الولاية. لكنها لم تقنع. البطالة 13.5%. التضخم 4.2%. النمو لا يتجاوز 3 HCP % 2024).
في ظل هذا، تستمر الأزمة الاجتماعية. تتراجع القدرة الشرائية، وتتصاعد المطالب. تقديم الحصيلة الآن محاولة للهروب من مواجهة الواقع.
كما أن الإنجاز الحقيقي ليس في استعراض الأرقام وتأويلها بالشكل الذي ينسجم وخطاب الحكومة، بل في الإنصات لنبض المجتمع، وفي الإقرار بالواقع الذي تعكسه المعطيات المتضمنة في عدد من الدراسات والتقارير، من بينها من هي صادرة عن مؤسسات رسمية، لأن من شأن ذلك أن يشكل المدخل الحقيقي لصياغة إجابات حقيقية للصعوبات والتحديات التي يواجهها المواطنون.
خاتمة: هل من إرادة للإصلاح؟ المشهد مأزوم. المؤسسات في تراجع. الحوار الوطني معطل. المواطن فاقد للثقة. الدولة تواجه تحديات كبرى: استحقاقات انتخابية، إصلاحات هيكلية، وتنظيم كأس العالم.
لكن الحكومة تُدير المرحلة بلا رؤية واضحة، وتُهمّش المعارضة بدل إشراكها. التعليم، الصحة، الاقتصاد… كلها أوراش متعثرة. والمحاسبة غائبة.
في ظل هذا الواقع، السؤال ليس عن حجم الفشل، بل عن الاستعداد لتحمل المسؤولية. هل الحكومة مستعدة لتغيير النهج؟ وهل المعارضة قادرة على فرض التوازن؟
الإصلاح لا ينتظر. من يملك السلطة عليه أن يتحمل مسؤولية القرارات التي يتخذها، وأن يقبل بمبدأ المحاسبة الذي يضمنه الدستور. فالزمن السياسي لا يرحم المترددين.
(*)عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والأخلاقيات بالحزب
الكاتب : محمد السوعلي(*) - بتاريخ : 16/04/2025