دونالد ترامب واحتمالات العزل القضائي
د. محمد بوبوش
أعطى الدستور الأمريكي مجلس النواب حق اتهام رئيس الجمهورية والوزراء «السكرتيرين» وجميع الموظفين الفدراليين المدنيين وذلك في تهم حددها الدستور. هذا الإجراء الذي أخذ عن العرف الإنجليزي يطلق عليه اسم impeachment وكان من الممكن أن يساعد على تحويل
النظام الأمريكي إلى نظام برلماني لو تطور بنفس الصورة التي تطور بها في إنجلترا.
تصف سوزان بلوتش، أستاذة القانون الدستوري في جامعة جورج تاون والتي درست مدى قانونية توجيه لائحة اتهام للرئيس، فرضية محاكمة الرئيس ومن ثم احتمالية إدانته بالسجن أثناء وجوده في السلطة بأنها أمر «مثير للسخرية».
وتقول :»لا يجب أن تُخضع رئيسا لإجراءات محاكمة جنائية وهو في الحكم، على الرغم من أن نص (الدستور) يسمح بهذا، لكنني أعتقد أن الاعتبارات العملية تؤكد على أنك لا يجب أن تجعل الرئيس يقلق بشأن إجراءات جنائية».
في حين أن المحكمة العليا الأمريكية أقرت إمكانية خضوع رئيس وهو في منصبه لمحاكمة مدنية في القضية التي عرفت باسم (جونز ضد كلينتون) – أي قضية التحرش الجنسي التي رفعت ضد الرئيس كلينتون والتي أدت في النهاية إلى سحب الثقة منه-، لكن العقوبات في مثل هذه القضايا تكون مالية تنتهي بدفع غرامة وليس بالسجن.
وترى بلوتش أن المحكمة العليا أخطأت في تقدير مدى الضرر الذي ستتسبب فيه حتى الإجراءات القانونية المدنية للرئاسة الأمريكية. إذ توقفت الأعمال التجارية في البلاد خلال إجراءات سحب الثقة اللاحقة من كلينتون. وهو ما سيجعل أي محاكمة جنائية رئاسية أمرا أكثر تدميرا وتخريبا.
وكان جاي سيكولو، أحد محامي الرئيس ترامب الشخصيين، قد رفض شرعية توجيه لائحة اتهام للرئيس في مقابلة تلفزيونية جرت مؤخرا، مستشهدا بدليل القواعد الإرشادية لسياسة وزارة العدل الأمريكية الذي يرجع تاريخه إلى فضيحة واترغيت.
واقتبس من التقرير الصادر عن مكتب المستشار القانوني بوزارة العدل قوله «إن لائحة اتهام أو ملاحقة قضائية جنائية لرئيس أمريكي وهو في منصبه ستكون غير دستورية لأنها ستتعارض مع قدرة الرئيس على أداء مهامه المكلف بها دستوريا، وبالتالي سيكون ذلك غير متسق مع بنية الدستور».
حتى الآن، لا يوجد أيضا أي دليل مادي يربط مباشرة الرئيس بهذا الاجتماع. وحسب صحيفة اتلنتيك، فإن نعت التواطؤ ليس ملائما على المستوى القانوني للشروع في إجراءات عزل ضد رئيس الدولة. وهذا الإجراء الدستوري يسمح للسلطة التشريعية بتنحية المسؤولين الكبار بالحكومة الأمريكية عند الخيانة أو الرشوة، أو جرائم وجنح أخرى.
لذلك فإن روبرت مولر المدعي الخاص في قضية ترامب وبصفته موظفا بوزارة العدل، سيكون ملزما بالالتزام بهذا الدليل والمبادئ التوجيهية، الأمر الذي سيضع حدا للمناقشة بشأن لائحة الاتهام قبل أن تبدأ فعلا.
ويعارض مؤيدو جعل الرئيس عرضة لمواجهة التهم الجنائية قضية أن الحصانة الرئاسية المؤقتة تستند إلى تفسير شخصي للأحكام الدستورية. ويدفعون بأن الآباء المؤسسين إذا أرادوا وضع الرؤساء فوق القانون أثناء وجودهم في الحكم، لكانوا قد قالوا ذلك صراحة.
ولديهم أيضا حججهم العملية لصالح الإجراءات الجنائية الفورية. ومنها أن تأجيل إجراءات التقاضي حتى مغادرة الرئيس منصبه، على سبيل المثال، قد يؤدي إلى جعل المهمة أكثر صعوبة جراء فقدان الأدلة أو تدميرها واحتمال موت الشهود أو نسيانهم تفاصيل هامة.
ويشير البروفيسور إريك فريدمان، في مقال بعنوان «مراجعة قانون هوفسترا» نشر في عام 1999، إلى أن مسؤولين آخرين في الإدارة، ومنهم من شغل منصب نائب الرئيس، خضعوا لتوجيه الاتهام إليهم أثناء وجودهم في المنصب، كما حوكم بعض القضاة الاتحاديين ودخلوا السجن قبل أن يعزلهم الكونغرس.
وكتب أيضا أن «تفسير الدستور لحماية الرئيس الحالي من المسؤولية الجنائية لن يغذي الأوهام الاستبدادية المسيطرة على عدد كبير جدا من كبار المسؤولين الأمريكيين في هذا القرن فحسب، بل سيقوض أيضا المفهوم الجوهري الذي ينص على أن الرئيس مواطن عادي يمارس السلطة التي منحها له الشعب بشكل مؤقت».
تعليق قرار الاتهام
وتردد حل ثالث محتمل في مذكرة مكتب المستشار القانوني على الرغم من أن وزارة العدل رفضتها في نهاية المطاف، وهو هل يمكن لهيئة محلفين كبرى توجيه لائحة اتهام للرئيس، ثم تعلق المحاكمة لما بعد مغادرته منصبه التنفيذي؟
من المؤكد أن ذلك سيمنع مثول رئيس في قفص الاتهام وهو في منصبه، ولكنه سيسمح بدوران عجلة العدالة. بيد أن وجهة نظر وزارة العدل كانت أن السحابة السياسية الناجمة عن ذلك ستكون سامة بالتأكيد.
وقالت وزارة العدل في تقريرها الصادر عام 1973 «بالنظر إلى واقع السياسة الحديثة ووسائل الإعلام، وحساسية العلاقات السياسية التي تحيط بالرئاسة داخليا وخارجيا ، ستكون هناك مقامرة خطيرة في حال اتهام الرئيس ثم تأجيل المحاكمة، على أمل الحفاظ على سلطة الحكم».
وحتى لو كان شخص ما منيعا ومحصنا ضد (رصاص) الصدمات مثل الرئيس ترامب فإنه سيكون من الصعب عليه النجاة من مثل هذا المشهد.
من الناحية النظرية، يزيد ما كشفته نيويورك تايمز من خطر اتهام محتمل لإمبراطور العقارات. غير انه في التطبيق، أن ذلك يبدو صعبا في غياب الإجماع حول إدانته.
ويدرس بعض رجال القانون مداخل أخرى لاتهامه، خاصة عبر بوابة “الاحتيال”. ولكن هنا أيضا، لا يوجد دليل رسمي على أن المقربين من دونالد ترامب اقترحوا قرصنة الرسائل الإلكترونية لمنافسته وبريد اللجنة الوطنية الديمقراطية. ولا أحد قادر على تحديد التأثير الحقيقي للتدخل الروسي بشأن انتخاب المرشح الجمهوري. وهذا يفرض، يواصل ويتينغ، عدم السقوط في استنتاجات متسرعة، خصوصا ان تحقيق وزارة العدل لا يزال مستمرا.
ويدعو آخرون إلى تحقيق برلماني واسع يمكن أن يساعد في صياغة بنود يدرسها مجلس النواب ومجلس الشيوخ. ولكن نظرا لسيطرة الجمهوريين على الكونغرس، فإن أفق مثل هذا الإجراء لا يبدو وشيكا. “إن الأمر يتعلق بعمل سياسي يتم في الكونغرس، وهذا الأخير تحت سيطرة الجمهوريين، وبالتالي لن يحدث في ظل غياب حجج ملموسة وأدلة دامغة رسمية غير قابلة للدحض، يقول حاسما أستاذ القانون.. بما يعني أن هذا الإجراء لن يكون غدا.
ولن يستغرق الأمر وقتا طويلا بالنسبة لمعارضي الرئيس ترامب، حتى يهاجموه مستخدمين ما قاله خلال حملته الرئاسية محذرا من التداعيات الوخيمة لفوزهيلاري كلينتون بالرئاسة في وقت كانت فيه هدفا لتحقيق جنائي.
أعضاء الكونغرس الجمهوريين، أكدوا وجود مشكلات مع ترامب لأنه ليس جمهوريا «كلاسيكيا»، وأنه إيديولوجيا غير مفيد لهم. وإضافة إلى هذا هناك مشكلة انخفاض شعبيته. ولكن من جانب آخر يحتفظ بقاعدة ناخبي الحزب التقليدية، على الرغم من حنثه بوعوده في الحملة الانتخابية. لذلك ليس في نية الحزب تغييره، وخاصة أن الكونغرس على أبواب انتخابات جديدة في عام 2018. أما بشأن العلاقة مع روسيا، فإن جميع الناس الواعين يدركون جيدا أنها مسألة وهمية. أي أن خيار عزل ترامب موجود ولكنه ضئيل جدا».
نموذج لبعض قضايا الاتهام ضد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية:
تشير وثائق وسجلات الكونجرس الأمريكي إلى إنه عبر التأريخ الدستوري لدستور الولايات المتحدة، وتحديدا منذ تاريخ التصديق على الدستور سنة 1789م وحتى الآن اتخذت إجراءات الاتهام البرلماني ضد خمسة وستين شخصا تقريبا من أصحاب المناصب المدنية، شملت وزراء ودبلوماسيين وقضاة اتحاديين ومأموري جمارك ونائب واحد للرئيس، ولم تبلغ إجراءات المحاكمة إلا عن سبع عشرة حالة فقط ولم تسفر هذه المحاكمة إلا عن إدانة سبعة قضاة عزلوا من مناصبهم، وكما جرت محاكمة وزير أمريكي واحد بواسطة مجلس الشيوخ هو وزير الحرب «William Belknap» عام 1876 لتلاعبه في الأموال العمومية، إلا إن المحاكمة لم تتم لاستقالته قبل الحكم عليه.
اتهام ومحاكمة الرئيس
اندرو جونسون:
تتلخص وقائع هذه القضية في وجود الخلاف بين الجمهوريين الراديكاليين المسيطرين على الكونجرس الأمريكي بمجلسيه، وذلك بسبب رفضهم مشاريع وخطط (جونسون) حول إعادة بناء دستور الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية فيها، وذلك على أساس إن هذه المسألة لا تدخل في اختصاص السلطة التنفيذية، إذ إن أمور التنظيم وإعادة البناء هي من اختصاص الكونجرس وحده.
وازدادت الخلافات بينهما عندما أوقف الرئيس جونسون وزير الحرب «أدوين ستانتن» والذي كان متحالفا مع الجمهوريين، فرفض مجلس الشيوخ الموافقة على هذا القرار اعتمادا على «قانون شغل الوظائف»، الذي قام الكونجرس بتشريعه في ذلك الوقت للحد من سلطة الرئيس في عزل الموظفين في الحكومة، بحيث لا يجوز وقف أي موظف عن عمله إلا بأخذ مشورة مجلس الشيوخ، إلا أن الرئيس جونسون رفض الامتثال لقانون شغل الوظائف وعدم اخذ مشورة مجلس الشيوخ عندما عزل الوزير.
وبناء على ذلك تم توجيه الاتهام من قبل مجلس النواب إلى الرئيس الأمريكي «جونسون» بعدم القيام بواجباته المتعلقة بتنفيذ القوانين، وقيامه بانتقاد الكونجرس في خطاباته بلهجة حادة.
ولما أحال مجلس النواب القضية إلى مجلس الشيوخ لإجراء المحاكمة كانت النتيجة إفلاته من الإدانة لعدم تحقق أغلبية الثلثين بفارق صوت واحد وذلك سنة 1868.
اتهام ومحاكمة الرئيس
بيل كلينتون
تتلخص وقائع هذه القضية في قيام مواطنة أمريكية تدعى «بولا جونز» برفع دعوى قضائية في ماي سنة 1994 ضد الرئيس كلينتون زعمت فيها إنه أثناء عملها كموظفة في مؤسسة التنمية الصناعية في ولاية اركانسو سنة 1991.
وحال تواجدها في اجتماع بفندق «اكسيلسور» بالولاية، تمت دعوتها إلى غرفة في الفندق مع كلينتون – حاكم الولاية آنذاك، وإنه فور دخولها الغرفة، قام بالتحرش بها، وقررت في سنة 1997 رفع دعوى ضد الرئيس الأمريكي «كلينتون» على التحرش الجنسي بها.
وأرادت «بولا» أن تدعم إدعائها ضد كلينتون بمحاولة إثبات أن له علاقات نسائية غير مشروعة، وإنه أقام علاقة مع موظفة كانت تتدرب في البيت الأبيض اسمها «مونيكا» فأنكر الرئيس أمام المحكمة إنه قد تورط في اتصال جنسي غير مشروع مع مونيكا، ثم بعد ذلك تم حفظ قضية بولا جونز.
ولكن تفرع عنها قضية جديدة هي شهادة كلينتون عن علاقته مع مونيكا والذي أخفى وجود علاقة غير مشروعة معها. إذ طلبت بولا جونز من صديقة لها تدعى «ليندا ترايب» تعمل مع مونيكا في «البيت الأبيض» محاولة الحصول على اعتراف منها عن علاقتها بكلينتون، وفعلا استطاعت استدراج مونيكا وحصلت منها على الاعتراف الكامل بهذه العلاقة غير المشروعة، مما فتح التحقيق مع كلينتون في هذه القضية من قبل المحقق المستقل «كينيث ستار» والذي استدعى مونيكا للتحقيق معها، إذ اعترفت بهذه العلاقة مما أدى إلى قيام هذا المحقق بتقديم تقرير يتضمن معلومات محتواها وجود علاقة غير مشروعة بين كلينتون ومونيكا إلى مجلس النواب.
وفي 8/10/1998 تبنى مجلس النواب قرارا خول بموجبه اللجنة القضائية التابعة له سلطة إجراء التحقيق بذلك، وفي شهر ديسمبر من العام نفسه تبنت اللجنة القضائية أربع مواد اتهام ضد الرئيس كلينتون وهي:
1- الحنث باليمين أمام هيئة المحلفين الكبرى.
2- الحنث باليمين في الدعوى المدنية.
3- عرقلة العدالة.
4- إساءة استخدام السلطة.
وفي 19/12/1998 تمت مناقشة تقرير اللجنة القضائية من قبل مجلس النواب وتم التصديق على مواد الاتهام الأربعة وتمت الموافقة على اتهامه بالحنث باليمين أمام هيئة المحلفين الكبرى وعرقلة العدالة، ليحال الأمر لمجلس الشيوخ لمحاكمة كلينتون والتصويت على عزله.
وفي مطلع عام 1999 بدأ مجلس الشيوخ بإجراءات محاكمة الرئيس كلينتون إذ انتهت في 12/2/1999 ببراءته من التهم المنسوبة إليه لعدم اكتمال النصاب القانوني للإدانة.
خلاصة: هل نحن أمام فضيحة «ووترغيت» ثانية يمكن أن تطيح ترامب وتزيح هذه الإساءة عن جبين أمريكا والعالم؟ الأكيد الآن أن لا شيء سيوقف القضاء الأمريكي عن مواصلة تحقيقاته، والصحافة الأمريكية الشجاعة، عن تقصي الحقائق بشأن الالتفاف الفاضح على العملية الديموقراطية، الذي أتاح لشخص مثل دونالد ترامب تبوء أرفع منصب رسمي في العالم.
الكاتب : د. محمد بوبوش - بتاريخ : 14/12/2017