سؤال بناء الإنسان في ظل التعلم الافتراضي؟؟

عبد الحكيم خطيبي

نظرا لما أملته الظروف الحالية وجراء انتشار جائحة كوفيد 19، لا شك أن الكل قد اضطر لتعويض التعليم الحضوري بالتعليم الرقمي أو الإلكتروني أو عن بعد تبعا لتعدد التسميات للأمر الواحد، هذا الانتقال له راهنيته ورهاناته طبعا. فهل التحديات والإشكاليات التي يطرحها هذا النوع الجديد ستغير بعض طبائع المدرسة وخصوصياتها أم ستسهر على بلورتها وتطويرها؟ وكيف يمكننا بناء الإنسان (التلميذ) في ظل هذا التحول؟
المدرسة فضاء تربية
التدريس الحضوري في البيئة المدرسية كان يشهد باستمرار تلقين إرشادات وقواعد وسلوكات، ينبغي التحلي بها، حتى يتم تنظيم العلاقة بين كل أفراد المنظومة بل وتجاوز ذلك إلى العلاقة مع الأولياء والشركاء.، وكذا حماية المتعلمين والتحذير من تعرضهم لأنواع الاستغلال أو المخاطر.
فبما أنه كان لزاما على المنظومة التربوية برمتها تطبيق هذا الانتقال من الحضور إلى الرقمنة، فما يجب أخذه بعين الاعتبار اليوم هو كون الجميع مسؤول عن ضمان مساحات للتعليم والتعلم جد آمنة، إذ نحن بحاجة ماسة إلى التفكير فيما بعد عملية التعلم، بل في مستقبل هذا التفاعل وتأثيره على حياتنا.
مذ كنا صغارا وبمجرد ما تطأ قدمانا عتبات الفصول إلا ويتم شرح القانون الداخلي للمؤسسة أو تزويدنا به للإمضاء عليه، هذا القانون الذي كان يتضمن بنودا تساهم في تعزيز الثقة بين المعلم والمتعلم وكذا باقي الفاعلين التربويين، حتى يتم ضمان جو من السلم والهدنة والأمن داخل محاضن التربية والتعليم، فضلا عن عدم هضم حقوق كل فرد وعدم إخلاله بواجباته. والسؤال الذي يطرح ذاته هنا هو مدى استمرارية هذه القوانين أو لنقل التوجيهات والتعليمات داخل الفصول الافتراضية الآن؟
لاشك أن العديد منا قد لاحظ مع بداية هذا الانتقال الذي جاء كخيار استراتيجي ولا مفر منه ، أنه تم تداول بعض الأشرطة والتسجيلات التي لا تتناسب مع الغاية التربوية الأسمى، فبالأمس القريب شاهدنا جميعا تطاول بعض ممن ينتسبون للفصول دراسية على شخصيات ومؤسسات دون أدنى تفكير في عواقب ذلك، وما الاعتقالات التي يتعرض لها العديد من التلاميذ في هذه المرحلة وغيرها نتيجة شغبهم الإلكتروني إلا مثال واضح عن ضرورة استدعاء سؤال القيم داخل الفضاءات التربوية الجديدة.
طرق التدريس بين الحضوري والرقمي
يجب أن يدرك الجميع بأن سؤال طرق التدريس وكذا وقته لم يعد لهما جواب، ذلك أن التلاميذ لم يعد يجمعهم نفس الحيز المكاني بالإضافة إلى رغباتهم في التعلم، هل بشكل فردي أم بشكل جماعي؟ وهذا يظهر من خلال مراعاة بعض المنصات التعليمية لهذا الجانب، وإتاحة الفرصة للتلاميذ مثلا للتعلم بشكل فردي أو عن طريق المجموعات.وعليه، فالسؤالين السابقين لا ينبغي طرحهما ما دمنا قد انخرطنا في ورش راهن على إيصال المعلومة لنا أينما كنا وأينما كان.
إن التعلم وإن تغير نمطه من حضوري إلى افتراضي، فإنه لم يفتقد بعض الميكانيزمات التي يقوم عليها التدريس، من قبيل الحفاظ على بيداغوجيا الكفايات وما تمليه من ضرورة تقديم مفاتيح التعلم من لدن المعلم وتنشيط العملية التعلمية، ويترك الفرصة بعدئذ للمتعلم حتى يتعلم بنفسه ويوظف مهاراته ويزعزع تمثلاته، اعتبارا لكون التلقين والزج بالتلميذ في قفص الابتلاع دون الهضم غير مرغوب فيه، لأن التلميذ حين الامتحان أو التقويم يفرغ ما تمت تعبئته به، ويخرج خالي الوفاض كأن لم يغن بالأمس. لا وكلا ، بل نريد أن نخلق جيلا يتدفق إنتاجه سلسبيلا.
الذكاءات المتعددة ومواهب التلاميذ ومصيرهما؟
لا يجب إغفال الذكاءات المتعددة للتلاميذ في ظل هذا النمط الجديد من التعلم، بل يجب بلورتها واحتضانها. فكم من متعلم يحمل طاقات ومواهب عظيمة، تبقى حبيسة الذات إلى أن تضمحل أو يسعف صاحبها الحظ فيخرجها من ذلك المستنقع الدامس إلى نور الوجود. فلا يجب بأي داع من الدواعي إغفال الأنشطة المندمجة وأنشطة التفتح أثناء التعلم، فتأثير هذه الأنشطة على التلميذ تتعدد من تهذيب للنفس، والرقي بها إلى المراقي، وتنمية الإحساس بالجمال والدفع إلى تذوقه…
إن إشراك التلاميذ في أنشطة التفتح وصقل مواهبهم يضفي نوعا من البهجة والسرور، ويزيل الطاقة السلبية الكامنة في داخلهم، إذ إن الفنون تخدم مناح متضايفة وتحقق غايات متعددة. بل إن كثيرا من المواهب لتتفجر طاقاتهم تبعا للأنشطة المندمجة والتفتح الفني، وإن المساهمة في إقبار هذه الدرر المتلألئة فيهم وإغفاله يكرس لا محالة جرائم في حق تلك الأنفس، فنخسر بموجبها طاقات بشرية كان بإمكاننا مد يد العون لها و إماطة اللثام عن مزاياها، اللهم إن أخذنا هذه الجوانب بعين الاعتبار. فجلوس الأطفال على سبيل المثال أمام شاشات التلفزة لمشاهدة الرسوم الكارتونية المتحركة أو أمام الهواتف للتسلية واللعب ليس إلا هروبا من صخب الواقع الذي لا يتناسب مع تطلعاتهم واهتماماتهم، وفرارا مما لا يستهويهم صوب ما يضمن لهم قسطا من الراحة والسعادة.
إن الإنسان بجنسه ولونه وإيديولوجيته وعرقه… يتطلب فهمه والأخذ بيديه إلى بر الأمان وتشجيعه حتى يبدع بدلا من الزج به في قفص لا يستطيع من خلاله أن يغني ذاته ولا أن يسمن رغباته. فالإنسان مهما صغر أو كبر كيان مستقل، له مواهبه الخاصة، وواجبنا تجاهه هو وضع معالم في طريقه للإبداع تهديه وترشده ليبلغ منزلته التي يستحقها.
إن محاضن التربية والتعليم لن تفقد خصائصها وأدوارها رغم تغير حيزيها المكاني والزماني، ما دامت تضع نصب عينيها أن :
كل إنسان أهل لأن يتعلم
الإنسان لا يجبر على شيء بل يوجه ويخير
احتضان كل إنسان والكشف عن مكامن قواه نجاح له ولمجتمعه.

الكاتب : عبد الحكيم خطيبي - بتاريخ : 14/05/2020