سياسة التشريع في المغرب وسؤال حقوق الإنسان
عبد العالي الصافي
بداية وقبل الحديث عن المسطرة المدنية وغيرها من القوانين، أعتقد أنه يتعين الإجابة عن بعض الأسئلة كمدخل أساسي لأي تفصيل لوضع متأزم وكحاجة منهجية ضرورية لأي تحليل، حيث أنه إذا اتفقنا على أجوبة موحدة سيسهل لا محالة الاتفاق على مخرجات محددة، وذلك من منطلق أن المعطيات محدد أساسي للنتائج، وذلك من قبيل:
-هل نحن دولة مؤسسات؟ الجواب: يفترض ذلك.
-هل نحن مقتنعون بأن الدستور هو الوثيقة الأسمى وأنه يحدد الخريطة التشريعية وكذلك الخطوط العريضة للسياسات العمومية، وأن القوانين الأدنى يجب أن لا تفرغه من محتواه بالالتفاف عليه، وذلك من خلال آلية وسؤال دستورية القوانين؟ الجواب: يجب أن يكون قطعيا بالاتفاق أي بنعم.
-هل فعلا نعيش مرحلة، سميت بمرحلة الانتقال الديموقراطي ؟ وإذا كان الجواب بنعم ، فهل نحن نمتلك الإرادة السياسية الكافية لتجاوز هذه المرحلة التي عمرت لأزيد من عقدين من الزمن ؟، و هل تتوفر الشروط الموضوعية و الذاتية لتجاوزها ، وذلك في أفق الانتقال الفعلي للمرحلة الديموقراطية دون خوف أو تردد ودون التعامل بمنطق الكيل بمكيالين؟ الجواب: أعتقد نعم ويفترض أن يكون ذلك هدفا استراتيجيا لجميع مكونات الدولة، خصوصا وأن المغرب تبنى الخيار الديموقراطي منذ استقلاله، رغم الزلازل التي تعرض له هذا المسار والفترات الصعبة وما تخللها من مد و جزر.
فالمملكة المغربية أعلنت -على الأقل- أنها ستتبنى الخيار الديموقراطي واستبعدت جميع أشكال الأنظمة الشمولية والتوتالية وذلك منذ استقلالها، رغم أن هذه الأخيرة تبنتها عدة دول، نستطيع أن نقول ودون تردد إن رياحا عاتية أتت بها إلى المنطقة العربية وكانت آنذاك بمثابة «طوندونس» حسب معجم اليوم.
إن هذه الأسئلة تكتسي أهميتها من ضرورة وجودية إلى حد كبير، لأن اختياراتنا في الماضي والآن، ستحكم مستقبلنا بدون شك وسترهنه، فإذا اتفقنا على الأجوبة السابقة – ليس من باب التسويق الخارجي ولا حتى من باب التدبير المرحلي، وهنا أستحضر وبقوة سياقات تنزيل دستور 2011 ، أي أننا إذا كان لنا إيمان حقيقي وقناعة صميمة بضرورة تبني الخيار الديموقراطي و تجاوز مرحلة الانتقال الديموقراطي من جهة ومن جهة ثانية إذا كانت لنا الإرادة السياسية الحقيقية لرفع التحدي بإيجابياته وسلبياته- ، حينها فقط يمكن مناقشة سياسة التشريع في المغرب في سياق ونسق دستور 2011، ومناقشة الديموقراطية التمثيلية التي تبناها المغرب منذ دستور 1962 لكي يدشن مغامرته «الديموقراطية» التي أنتجت تجربة تدخل في ما يعرف بالاستثناء المغربي أو يمكن أن نسميها التمغربيت في ممارسة الديموقراطية، وهي تجربة لا يمكن أن ننكر أنها كانت بمثابة تمارين في الديموقراطية في بعض الفترات ومن ثمة يمكن أن نستخلص منها العديد من الدروس، لكن لن أستطيع مناقشتها كلها بكل تأكيد، ولكن سنناقش بعضها من باب ما لا يدرك كله لا يترك جله، سأكتفي بمفهومي أساسيين وهما الديموقراطية التمثيلية و الديموقراطية التشاركية لأهميتهما في موضوع سياسة التشريع في المغرب.
فالديموقراطية التمثيلية عرفها الفقه بتعاريف مختلفة، يمكن أن نلخصها في جملة واحدة وهي :آلية وتقنية ووسيلة لتنزيل المبدأ الذي نادى به مفكرو الأنوار والمتمثل في» حكم الشعب بواسطة الشعب «، ولأنه لا يمكن أن يمارس الحكم الشعب كله، فإن النظرية نادت بدعوة هذا الشعب لاختيار ممثلين عنه ليحكموه في إطار نظرية العقد الاجتماعي، و معلوم أن هذا المبدأ هو عنوان بالبند العريض لتجارب دولية مختلفة ومتنوعة، فهناك الجمهوريات التي اختارت إما أن تكون رئاسية أو برلمانية و هناك الأنظمة الملكية، وفي إطارها هناك من اختار الملكية الدستورية أو التنفيذية وهناك من اختار الملكية البرلمانية وغيرها، لكن ما يهمنا في هذا النقاش أن جميع الديموقراطيات خلصت بعد تجربة طويلة إلى قصور الديموقراطية التمثيلية في تنزيل مبدأ حكم الشعب بالشعب، ففتح نقاش على المستوى الأكاديمي أو ما يعرف بالفقه الدستوري، وكذلك على مستوى المجتمع السياسي في أفق بلورة آلية جديدة مكملة للديموقراطية التمثيلية ومالئة للفراغات التي تركتها وداعمة لها، وليست بديلا عنها، لسببن أولهما أن الديموقراطية التمثيلية هي أجود ما ابتدع الفكر الإنساني لتدبير الحكم وتنزيل نظرية العقد الاجتماعي في طار ربط المسؤولية بالمحاسبة، والمحاسبة هي أنواع أهمها المحاسبة الجماهرية في زمن الاستحقاق الانتخابي، حيث تعطى للشعب سلطة العقاب وبالتالي فإنه لا بديل عنها حتى الآن ، والسبب الثاني هو أن هده الديموقراطية قد تتحول في بعض الأحيان عن مسارها ويمكن للأغلبية أن توظفها بشكل سيء وتصبح وجها من أوجه الاستبداد (استبداد الأغلبية المشكلة للحكومة)، و لتجنب هذا الوضع تم الاهتداء للديموقراطية التشاركية كحل لايلغي الديموقراطية بل يجودها كخيار استراتيجي للأمم التواقة للحرية.
و الديموقراطية التشاركية هي مفهوم حديث لايزال في مرحلة التشكل، بحيث أن العديد من الديموقراطيات تبنتها بشكل حذر، ومرد ذلك هو بالأساس نزعة السلطة وهوسها بالتحكم وكذلك مخافة سحب البساط من تحت أقدام الطبقة الحاكمة، وبالتالي فإنها أخذت جميعها بها لكن بجرعات متفاوتة، وهو تفاوت يؤشر على مستوى ممارسة الديموقراطية في كل بلد من هذه البلدان.
والمغرب لم يشذ عن هذا الوضع العالمي وتبنى الديموقراطية التشاركية بموجب دستور 2011 و لو بشكل متردد، حيث أن الفصل 12 منه نص صراحة على «مساهمة الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام و المنظمات غير الحكومية في إطار الديموقراطية التشاركية ، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها، وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركة طبق ضوابط و كيفيات يحددها القانون « الفصل 12 من الدستور”.
فتبني الوثيقة الدستورية لمبدأ التشاركية وفق نصوص واضحة شكل جوابا كافيا وشافيا على ما جاء على لسان وزير العدل في أحد اللقاءات حيث قال:»أنه يمثل الحكومة وهي مؤسسة دستورية، وبهذه الصفة لا يمكن له أن يتحاور مع من هو مؤسس في إطار ظهير 1958 « ويقصد بذلك جمعية هيئات المحامين بالمغرب، بل إن المشرع الدستوري في الفصل 13 من الدستور تحدث عن مسؤولية السلطات في إحداث هيئات للتشاور-بمعنى أنه إذا كانت غير موجودة فعلى السلطات إحداثها وذلك لما تشكله من ضرورة ورقم مهم في تدبير الشأن العمومي- ، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين ، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها، بمعنى أن السلطات ملزمة بالتشاور مع الجمعيات المهتمة بالشأن العام والمنظمات غير الحكومية ومختلف الفاعلين الاجتماعيين، وهو الأمر الذي يؤشر على الآتي:
أولا: المنظمات المعنية بالتشاور هي:
1- الجمعيات المهتمة بالشأن العام : جمعية هيئات المحامين بالمغرب مهتمة بالشأن العام( انظر أدبيات الجمعية منذ تأسيسها إلى الآن، وكذا توصيات ومخرجات مؤتمراتها).
2- المنظمات غير الحكومية : جمعية هيئات المحامين بالمغرب هي منظمة غير حكومية تنتمي لها 17 هيئة للمحامين وهذه الهيئات مشكلة ومنظمة بمقتضى القانون رقم 28.08 .
3- هيئات للتشاور: بطبيعة الحال هذه الهيئات يجب أن تكون مهتمة بالشأن المعني بالتشاور، وهو أمر ينطبق على جمعية هيئات المحامين بالمغرب .
4- الفاعلون الاجتماعيون: جمعية هيئات المحامين بالمغرب هي فاعل اجتماعي حيث أنها وفي إطار التنسيق مع مختلف هيئات المحامين بالمغرب تدبر الشأن الاجتماعي للمحامين و ما تعاضدية هيئات المحامين بالمغرب إلا مثالا على ذلك.
خلاصة فرعية:
إن الحوار و التشاور مع جمعية هيئات المحامين بالمغرب ليس منة من أحد بل هو التزام دستوري يقع على عاتق السلطات والمؤسسات المنتخبة، و حينما نتحدث عن التزام دستوري فإننا بالضرورة نستحضر أن الدستور باعتباره الوثيقة الأسمى في الدولة، عهد إليه تنظيم مفاصل الحكم ومؤسسات الدولة سواء تلك التي تدخل في إطار السلطة ومؤسسات الحكامة أو الأحزاب والنقابات والجمعيات باعتبارها مؤسسات دستورية أيضا .
وإذا كان الفصل 6 من الدستور ينص على أن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، و الجميع أشخاص ذاتيين واعتباريين بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، و ملزمون بالامتثال إليه، فإنه لا مجال لترديد الكلام المنسوب لبعض المسؤولين الحكوميين ولا مجال لإعادة التذكير به ، لأن هذا النقاش يحيل على سؤال خطير يتعلق بطريقة تدبير بعض المسؤولين للشأن العام بالمغرب، وكيف أنهم مازالوا يمارسون السلطة بعقلية دستور 1962 وأنهم، على يبدو، لم يقرؤوا جيدا دستور المملكة أو أنهم غير مؤمنين به أو أنهم يعتبرونه ثراء أو بذخا فكريا لا أقل ولا أكثر، و في جميع الحالات الثلاث و مهما كان مرد ذلك فالأمر لا يخلو من خطورة .
دستور المملكة المغربية، وفي إطار تبنيه للمقاربة التشاركية استلهم من التشريع المقارن مجموعة من الآليات الأخرى وذلك في أفق تقويتها،نذكر منها «تقديم الملتمسات في مجال التشريع»، وهي آلية تمكن المواطن أن يتقاسم ولو نظريا مع السلطات العمومية: البرلمان والحكومة كل في مجال اختصاصه، التشريع (الفصل 13 من الدستور) ، وكذلك أعطى هذا الدستور للمواطن الحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية(الفصل 15) ، إلا أن كل هاته الآليات مشروط تنزيلها بسن قوانين تنظيمية، وما دام أن الشيطان يكمن في التفاصيل، فإن القانون التنظيمي عدد: 164.14 المعدل بموجب القانون رقم 71.21 و القانون التنظيمي عدد: 44.14 اللذان ترجما هذه الآليات وقيداها بمجموعة من الشروط الشكلية و الموضوعية ، وهو أمر يفهم دائما بربطه وباستحضار نزعة السلطات نحو الهيمنة و التخوف من هذه الآليات، وكذلك يفسر بمراوحة المكان والتردد بشأن الانتقال إلى مرحلة الديموقراطية، فإذا كان النص الدستوري ذا جودة فإن القانون التنظيمي لم يستطع أن يجاريه وأن طريقة تنزيل النص الدستوري أدت إلى خنق الديموقراطية التشاركية والدليل على ذلك النسبة الضعيفة من العرائض والملتمسات المقدمة للبرلمان أو للحكومة والعدد الهزيل المقبول منها، وهنا نعيد طرح السؤال التالي:
هل فعلا للقيمين على الشأن العمومي بالمغرب رغبة حقيقية لانتقال ديموقراطي
حقيقي؟
ويبقى كلام السيد وزير العدل غير محمول على الجد، ويعود بالممارسة السياسية لما قبل دستور 2011 .
لكن، وبالرجوع للوثيقة الدستورية نفسها نجد أن بعض موادها لم تتخلص من نفس وروح دستور 1962 بدليل الفصل 72 الذي ينص على ما يلي:» المجال التنظيمي يختص بالمواد التي لم يشملها اختصاص القانون» ، و اختصاص القانون محدد بمقتضى الفصل 71 بشكل حصري ، و أن الفصل 72 هو فصل منقول عن دستور 1962 واستنسخ في الدساتير اللاحقة، وهو مستنسخ أيضا من دستور الجمهورية الفرنسية لسنة 1958، وهو الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه للجهاز الحكومي من أجل التشريع، الشيء الذي يجعلنا نستنتج وبدون تردد أن هذا النص جعل من الحكومة مشرعا رئيسيا، فيما أنزل البرلمان منزلة المشرح الثانوي أو الاستثنائي ، وذلك عن طريق مجموعة من التقنيات القانونية من بينها :1- مرسوم الإذن أو ما يعرف قانونا بالمرسوم بمثابة قانون، ويسميه الفقه التفويض البرلماني أو تفويض التشريع للحكومة، حيث يتخلى البرلمان عن اختصاصاته ويفوضها للحكومة، ذلك أن هذه الآلية تتيح للحكومة طلب الإذن من البرلمان لكي تتخذ بمقتضى مراسيم تدابير يختص القانون عادة بتحديدها أو باتخاذها، وإن كانت محددة في الزمان ومشروطة بعرضها على البرلمان بمجرد انتهاء الأجل المحدد في قانون الإذن ، وعلى سبيل المثال نذكر بالمرسوم بمثابة قانون الخاص بالطوارئ الصحية و كيف أن هذا القانون تحكم في مفاصل حياة المغاربة وقيد حرياتهم الأساسية سواء منها الفردية أو الجماعية و المنصوص عليه في دستور المملكة لردح من الزمن ، 2- ثم هناك مرسوم الضرورة وهو المرسوم الذي يتم اتخاذه خلال الفترة الفاصلة ما بين الدورات، صحيح أنه مشروط باتفاق مسبق مع اللجان وبضرورة عرضه على البرلمان للمصادقة خلال الدورة العادية، لكن يبقى في آخر المطاف نوعا من سلب المؤسسة التشريعية لاختصاصاتها الحصرية ، 3- و هناك الحالة التي تعطي للحكومة الإمكانية بتغيير القانون بمرسوم، حينما تساير المحكمة الدستورية رأي الحكومة القائل بأن مضمون القانون يدخل في المجالات التنظيمية .
و في مجال القانون نفسه، فإن الحكومة تتحكم فيه من خلال مجموعة من الآليات التي منحها لها الدستور، و ذلك بدءا من المبادرة في مجال التشريع (مشاريع القوانين التي تنجزها الحكومة) –الفصل 83- ومرورا بالتحكم في جدول الأعمال –الفصل 82- و كذلك امتلاك الحق في التعديل-الفصل 83- ، بل و الاعتراض على التعديلات و الاقتراحات التي يقدمها البرلمان في الحالة ترى الحكومة بأنها لا تدخل في مجال القانون أو عندما لا يتم عرضها على اللجنة المختصة ، وانتهاء بالتحكم في انعقاد دورات البرلمان ، سواء من خلال طلب عقد دورات استثنائية للبرلمان –الفصل 66- أو من خلال ختم الدورات العادية بمرسوم-الفصل 65-.
يبقى للبرلمان آلية وحيدة لأخذ المبادرة في التشريح وهي آلية مقترحات القوانين، لكن في ظل من يمتلك المعلومة ويتحكم فيها ومن يمتلك الموارد البشرية ذات التكوين العالي و الموارد اللوجيستية وغيرها، لا يمكن أن نتصور منافسة مقترح القانون لمشروع القانون ، و الإحصائيات تجيب وتقول إن الجهاز التنفيذي يهيمن بشكل كامل على السياسة التشريعية بالمغرب بالنظر للكم الهائل للمشاريع بمقابل هزالة عدد المقترحات وتسمى في علم الإحصاء مهمشة.
خلاصة فرعية:
سبق و أن علقت في بحث لي لنيل شهادة الماستر في الجريمة و إعادة الإدماج الاجتماعي على القرار الصادر عن المجلس الدستوري عدد:991.16 بتاريخ 15 مارس 2016 تعليقا على المادة 110 من القانون التنظيمي رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية رأيه القائل بأن الجهة المختصة بوضع السياسة الجنائية في المغرب هي السلطة التشريعية، أي البرلمان، و كان تعليله كالآتي : ما دام أن من يسن السياسات العمومية هو السلطة التشريعية، وما دامت السياسة الجنائية هي جزء من السياسات العمومية، فإن البرلمان هو المختص في ذلك.
وأننا وبالنظر للنقط الأساسية المفصلة أعلاه، وبالنظر أيضا لمقتضيات الفصل 92 من الدستور، الذي حدد اختصاصات المجلس الوزاري ومن بينها تداوله في السياسات العمومية، فإن جواب المجلس الدستوري كان جوابا تبسيطيا لموضوع معقد ومتداخل وله أبعاد قانونية وأخرى سياسية.
سبق وأن وضحنا أعلاه كيف أن السلطة تنزح نحو الهيمنة والتقليص من الحقوق والحريات، وسبق أن قلنا إن هناك عاملين على الأقل في التجربة المغربية يسعفا الحكومة في تسطير قوانين تقيد الحقوق وهما: الدستور نفسه الذي اعتبرنا أن حفاظه على بعض المقتضيات الموروثة عن الدساتير السابقة يجعله في المساءلة على الشكل التالي: هل فعلا تخلص دستور 2011 من روح وفلسفة ونفس الدساتير السابقة التي كانت سياقاتها مختلفة عن سياقه؟ ثم المسألة الثانية تتعلق بتنزيل القوانين التنظيمية وقوانين الإطار والقوانين العادية بشكل أحرج دستور 2011 وجعله في المحك، وهنا يطرح السؤال حول تشبث المشرع المغربي- الذي هو في حقيقة الأمر الجهاز التنفيذي- بروح وفلسفة فترة ما قبل الانتقال الديموقراطي، وهنا ومن أجل التدليل على ذلك سنسوق بعض الأمثلة في مشروع المسطرة المدنية:
1-المادتان 08 و 09، وإن تحدثتا تواليا عن الصلح والوساطة، وذلك في إطار تفعيل العدالة التصالحية، والتي تحمل حلولا لهاجس الحكومة والسلطة القضائية والمتمثل في الكم الهائل من الملفات وهدف التقليص منها في المحاكم، إلا أنهما تركتا إمكانية قبول الطلب الذي قد يتقدم به الأطراف من أجل الصلح أو الوساطة للمحكمة، و الحال أنه كان بالإمكان جعل ذلك ملزما للقاضي في حالة تقدم طرفي النزاع بهذين الطلبين و اتفاقهما على سلوك مساطر الصلح أو التحكيم حسب الحالات.
2-المادة 10 تحدثت عن إمكانية الحكم على أحد المتقاضين بغرامة، والهاجس معروف أيضا وهو محاولة التخفيف من الملفات والقضايا بالمحكمة، وهنا يطرح النقاش على الشكل التالي : أ- في الوقت الذي أوصى ميثاق إصلاح منظومة العدالة بتقليص السلطة التقديرية للقضاة ووضع معايير موضوعية لها حتى لا تدخل في بعدي الانطباع والعفوية وفي بعض الأحيان المزاجية دون الحديث عن التخليق ، نجد المشروع وسع هذه السلطة بشكل غير مفهوم وكأننا في المغرب لا نؤمن باستمرارية المرفق، ففي الوقت الذي صرفت الأموال والوقت والجهد على الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة وعين لهذه الغاية جلالة الملك لجنة من خيرة الفقهاء والأكاديميين والقضاة والمهنيين وخرجت بتوصيات حول الإصلاحات المرتقبة، نجد أن الإصلاحات المتتالية في الآونة الأخيرة لا تعير مخرجات ذاك الحوار أي اهتمام يذكر، ب- كيف يمكن للقاضي أن يستشف سوء النية التي هي في آخر المطاف اشتغال ذهني ويصعب على أي كان الحكم على عمر أنه حسن النية وأن زيدا سيء النية، لأن حسن النية من سوئها لا يمكن قياسه علميا وليست عند القاضي الوسائل العلمية لكي يقيس ذلك، إلا إذا تحدثنا عن الانطباع ، والانطباع يخالف مبادئ العدل، وما ينطبق على المادة 10 ينطبق أيضا على المادة 61 المتعلقة بالحكم بغرامة في حالة أن ردت المحكمة دفعا من الدفوع، إذ أنه لا يمكن التفكير في الكم دون الكيف، ذلك أنه إذا كان هاجس المشرع هو تقليل الملفات وتقصير المساطر، فإنه سيفتح مجالا خطيرا وهو البحث عن وسائل أخرى لحل النزاعات وقد تكون هذه البدائل غير قانونية منها العدالة الخاصة، وهو الأمر الذي ينطبق على الغرامة التي يمكن أن يحكم بها القاضي على المتقاضي الذي جرح قاضيا أو خبيرا.
3-المادة 61 تنص على أنه يتعين إثارة جميع الدفوع الشكلية بما فيها عدم قبول الدعوى قبل كل دفاع ودفعة واحدة تحت طائلة عدم قبولها، ثم تأتي المادة 62 فتتحدث على أنه يمكن إثارة الدفع بعدم القبول في جميع مراحل الدعوى ولو لأول مرة أمام محكمة الاستئناف، وهذا التناقض مرده استشارة المشرع لمجموعة من الإدارات التي لم تكن متناسقة في ما بينها.
4-المادة 76 هناك خلط بين مفهوم المسطرة الكتابية وفقا لقانون المهنة الذي جعل من شروطه رفعها أن تكون موقعة من طرف محامي ومشروع المسطرة الذي أعطى إمكانية رفعها من طرف المدعي أو وكيله، ولتجويد القانون وجعله منسجما مع قوانين أخرى يستحسن إضافة عبارة: ترفع الدعوى بواسطة مقال موقع من طرف محامي مسجل بإحدى هيئات المحامين بالمملكة المغربية مع مراعاة الاستثناءات الواردة في المادة 96 والاتفاقيات الموقعة من طرف المملكة المغربية.
5-المادة 96 المتعلقة بالمسطرة الشفوية و التي احتفظت بالقضايا الاجتماعية ضمنها و الحال أن علاقات الشغل و بنيته تغيرت مع دخول الشركات القابضة والشركات المتعددة الجنسية، أنه لم نعد نتحدث عن عقود شغل بمعايير بنية المغرب القديمة، وأنه يتعين جعل المسطرة كتابية في القضايا الاجتماعية لتعقدها وصعوبتها في ظل المستجدات الاقتصادية والمالية.
المادتان 97 و 101 اللتان تعطيان الحق لرئيس المحكمة بتغيير القاضي المقرر الذي عين إلكترونيا بأمر ولائي، هذا المقتضى يلتف على التعيين الإلكتروني الذي تبنيه لأغراض تتعلق بالشفافية والتخليق.
6- المادة 111 والتي تنص على التبليغ الفوري فهي مادة سترهق المحكمة والمتقاضين، حيث أن ذلك سيرهن المحكمة ويثقل كاهلها و سيرهن المتقاضي أيضا.
7- المادتان 30 و 375 : أن الماد 30 جعلت من الأحكام التي لا يتجاوز موضوعها 30000،00 درهم غير قابلة للاستئناف ، مما سيحرم فئة عريضة من المغاربة من حقهم في التقاضي على درجتين وتصحيح الأخطاء المحتملة أثناء المرحلة الابتدائية بدعوى أن هذه المبالغ زهيدة، في حين أن الحد الأدنى السنوي للأجور في المغرب هو 40000،00 درهم ، وبالتالي فإن 30000،00 درهم عند الفئات الهشة وذات الدخل المحدود قد يكون حصيلة ادخار العمر، وأن المشرع تبنى القضاء على درجتين كوسيلة ناجعة لإحقاق الحقوق عن طريق إصلاح وتصحيح الأخطاء المحتملة للقضاء الابتدائي مادام أن الأمر يتعلق بالعنصر البشري الذي قد يصيب وقد يخطأ، فيما أن مبلغ 80000،00 درهم بالإضافة إلى أنه ينطبق عليه ما قيل عن الاستئناف، فإن محكمة النقض هي محكمة قانون وليس بالضرورة يكون هدف الأطراف الحصول على الحق بقدر ما قد يكون الهدف أخذ رأي أعلى هرم في القضاء المغربي في موضوع معين، مادام أن قرارات محكمة النقض هي اجتهادات و ما دام أن الاجتهاد مصدر من مصادر التشريع، وبالتالي لا يجب أن يكون النقض مشروطا حتى بدرهم، لأنه يكون في بعض الأحيان لفائدة القانون ليس بالمفهوم القانوني ولكن بمفهوم أن الاجتهاد القضائي هو مصدر من مصادر التشريع.
و كخلاصة شاملة بصيغة تساؤلات حقوقية ودستورية :
ألا تتضمن هذه المقتضيات تضييقا واضحا على المواطن للولوج
المستنير والمتبصر إلى القضاء؟
أليس في تقييد حرية المواطن بخصوص الطعن في الأحكام والمقررات مخالفة
للفصلين 117 و 118 من الدستور؟ ثم أليس تهديد المواطن بالحكم عليه
بغرامات فيها عنف ممارس من طرف المشرع على المواطن؟
الكاتب : عبد العالي الصافي - بتاريخ : 20/11/2024