على هامش بدء المشاورات استعدادا للانتخابات التشريعية 2026 .. التمثيلية البرلمانية للدار البيضاء: بين التقطيع غير المنصف والحق في وزن سياسي يعكس الواقع السكاني والتنموي

كمال الهشومي(*)
في ظل التوجيهات الملكية الصريحة التي تضمّنها خطاب العرش ليوم 29 يوليوز 2025، والتي دعت وزارة الداخلية إلى تسريع إعداد الإطار القانوني المؤطر للانتخابات التشريعية لسنة 2026، وفتح مشاورات موسعة مع مختلف القوى السياسية، يُطرح ورش مراجعة التقطيع الانتخابي كأحد المفاصل الجوهرية لإصلاح المشهد التمثيلي بالمغرب، وتعزيز التراكم الديمقراطي الذي ما فتئ الخطاب الملكي يؤكد عليه. غير أن هذه اللحظة الدستورية، التي يفترض أن تُوظّف لتصحيح اختلالات موروثة، لا يمكن أن تُلامس جوهر العدالة التمثيلية دون معالجة الوضعية غير المنصفة التي تعاني منها مدينة الدار البيضاء، بكل ما تمثله من ثقل سكاني واقتصادي وتحديات تنموية، والتي ظلت، منذ سنوات، محاصَرة في تقطيع انتخابي غير متوازن، لا يعكس وزنها الفعلي داخل المجتمع المغربي.
الدار البيضاء، التي تفوق ساكنتها 3.3 مليون نسمة، تُشكل أزيد من 10% من مجموع ساكنة المغرب، غير أنها لا تحظى إلا بـ26 مقعدًا من أصل 395 مقعدًا بمجلس النواب، أي ما يعادل 6.58% فقط من التمثيلية الوطنية. وهذا الفارق العددي، الذي يتجاوز ثلاث نقاط مقارنة بوزنها الديمغرافي، يُعبّر عن خلل بنيوي واضح في ترجمة مبدأ المساواة التمثيلية إلى آليات قانونية فعالة. هذا الاختلال لا يقتصر على البُعد العددي العام، بل يتجلّى بشكل أوضح في توزيع المقاعد داخل المدينة نفسها، حيث نجد أن بعض المقاطعات تفوق ساكنتها نصف مليون نسمة، وتظل مُمثّلة بتمثيلية هزيلة.
يُعدّ مثال عمالة مقاطعة سيدي مومن البرنوصي أبرز تعبير عن هذا الإجحاف. فهي اليوم من أكبر المقاطعات الحضرية من حيث عدد السكان، بما يفوق 709 ألف نسمة، أي ما يتجاوز ساكنة مدينة الرباط بكاملها. ورغم هذا الحجم، فإنها لا تستفيد إلا من ثلاث مقاعد برلمانية، ما يعني أن كل نائب يمثل ما يناهز 250 ألف نسمة. والأدهى أن هذا الرقم يتضاعف مقارنة بدوائر مثل الجديدة أو سطات، حيث لا يتجاوز عدد السكان في كل منهما 250 ألف نسمة، ومع ذلك تحظى كل دائرة بخمسة أو ستة مقاعد، ما يجعل النائب في تلك المناطق يمثل ما بين 40 و50 ألف نسمة فقط.
الأمر لا يتوقف عند سيدي مومن البرنوصي. فعمالة عين السبع–الحي المحمدي وعمالة أنفا، التي تفوق ساكنتها 450 ألف نسمة، لا تحظى سوى بأربعة مقاعد برلمانية، رغم أنها تحتضن ساكنة تقارب عدد سكان عدة أقاليم مجتمعين ولهم تمثيلية تفوق أربع مقاعد. وبالنظر إلى كثافتها السكانية وموقعها الجغرافي ودورها التاريخي، فإن استمرار حصرهما في دائرة واحدة مثل سيدي مومن البرنوصي من أربعة نواب وإجحاف عمالات اخرى في التمثيلية مقارنة مع اخرى تنتمي لنفس الجهة الدار البيضاء سطات، يُقوّض فعليًا قدرة السكان على التأثير السياسي وعلى التعبير عن همومهم داخل المؤسسة التشريعية. وتنتج تمثيلية سياسية تضخم حجمها الحقيقي مقارنة بدوائر حضرية مكتظة، تتجاوزها بأضعاف من حيث عدد السكان وفي حاجة أكبر لأهداف التنمية والتحديات المجتمعية.
إلى جانب هذا الخلل الكمي، تبرز حدة الإشكال حين نأخذ في الاعتبار طبيعة التحديات التنموية والاجتماعية التي تواجهها مدينة الدار البيضاء. فالعاصمة الاقتصادية للمملكة ليست مجرد تجمع سكاني، بل مركز يومي لتدفقات بشرية ضخمة، وضغط هائل على البنيات التحتية، والمرافق العمومية، والخدمات الاجتماعية. فالمدينة تسجّل أعلى نسب الاكتظاظ في المدارس، وأعلى ضغط على المستشفيات، وتُعاني من اختناقات مرورية مزمنة، ونسب بطالة مرتفعة، وتفاوتات مجالية صارخة بين الشمال والجنوب، والهضبة الشرقية والأحياء المركزية. كما تحتضن نسبة كبيرة من الأحياء الصفيحية التي لم تشملها بعد سياسات إعادة الإسكان.
هذه التحديات لا يُمكن مواجهتها فقط من خلال البرامج القطاعية، بل تتطلب أيضًا تمثيلية سياسية قوية داخل البرلمان، قادرة على الترافع الفعلي، وتحريك النقاش التشريعي نحو الإنصاف المجالي في توزيع الاستثمارات، والمخصصات، والبرامج الحكومية. غير أن الواقع الانتخابي الحالي يُفرغ هذه الإمكانية من محتواها، ويُنتج برلمانيين يُمثّلون كتلاً بشرية ضخمة دون أن تتوفر لديهم القدرة أو العدد الكافي لخوض معركة الترافع بكفاءة مؤسساتية.
أمام هذا الوضع، لا يمكن الحديث عن إصلاح انتخابي حقيقي دون مراجعة جذرية للتقطيع الانتخابي بالمدينة. يجب أولًا اعتماد الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024 كمرجع رسمي ووحيد لتحديد حجم الدوائر وعدد المقاعد. ويجب ثانيًا العمل على تقسيم المقاطعات المكتظة – مثل سيدي مومن – إلى أكثر من دائرة، وتوسيع عدد المقاعد المخصصة لها. كما ينبغي إعادة تقييم تمثيلية مقاطعات أخرى مثل عين السبع–الحي المحمدي، بما يعكس الثقل السكاني والاجتماعي الحقيقي لها، لا وفق منطق التوازنات السياسية القديمة أو الاعتبارات الحزبية الظرفية.
إن التقطيع الانتخابي ليس إجراءً تقنيًا أو مجرد مرسوم تنظيمي، بل هو تجسيد عملي لمفهوم العدالة التمثيلية. وهو ما يفرض على وزارة الداخلية، اليوم أكثر من أي وقت مضى، مسؤولية تاريخية في تصحيح الاختلالات، بما يعيد الاعتبار للمدن الكبرى، وعلى رأسها الدار البيضاء، التي لا تطلب امتيازًا، بل تطالب بأن يُحتسب صوت أبنائها بنفس الوزن الذي يُحتسب به صوت أي مواطن مغربي، في أي دائرة أخرى.
الإنصاف الانتخابي ليس مسألة رفاه مؤسساتي، بل هو المدخل الحقيقي للعدالة المجالية، والمواطنة المتكافئة، وبناء الثقة السياسية. والديمقراطية تبدأ من هنا: من صوتٍ لا يُضخَّم ولا يُقزَّم، بل يُوزَن بالعدل.
(*)أستاذ العلوم السياسية كلية الحقوق أكدال جامعة محمد الخامس
الكاتب : كمال الهشومي(*) - بتاريخ : 06/08/2025