عُــرْيُ الإمبراطــور

محمد بودويك

 

 

لم يعد يُخْفي وجهه، ويضع القناع على القناع، ويتوارى خلف الكلام الديبلوماسي المنمق والحديث المزوق. لم يعد يُداري ويُجاري، ويبسمل ويحوقل قبل أن يُفْتيَ ويقولَ ويأمرَ، ويستحثَّ “ البيت الأشهر والمشهور “ للتنفيذ الفوري، والأجرأة السريعة دونما التفات أو تحسب إلى ما سوف يحدث جرّاءَ ذلك، وما سيترك كلامه وتوقيعه السينمائي البهلواني، من دمار نفسي وعقلي ومادي واجتماعي، دمار يمتد ـ لامحالة ـ إلى المستقبل عينه، ما لمْ يَرْعَوَ، ويُعِدْ العقلَ إلى عقله. دَأَبَ الأباطرةُ الدكتاتوريون ـ عبر التاريخ ـ على ستر بذاءاتهم، وطمس نواياهم الخبيثة المبيتة، والاستعانة بالعطور والروائح الزكية لطرد زَناخاتهم وأعطانهم، وباللباس والأزياء الثمينة الحريرية والمقصبة المذهبة، المَخيطة بإبر الجن والعفاريت، على إبهار « رعاياهم «، ونيل تبجيلهم وتقديسهم من هتاف وانحناء وركوع وسجود، بل وطأطأة للرؤوس والنظر إلى الأرض.. إلى أقدامهم المشقوقة، وأمشاط أرجلهم العارية. دأب الأباطرة ـ بين الإخفاق والنجاح ـ على ستر عوراتهم،وتأتآتهم وهم يخطبون، وكروشهم مدلاة مثل القِرَبِ، و» ضرطهم « يوقف الريح وهي سابحة.
غير أن هذا الأمبراطور المُصَعِّرَ خَدَّه دوماً، القديم / الجديد، يتقدم إلى الجموع والمجتمعات والدول والقارات، عاريا.. فصيحا صريحا وإنْ كان يَهْذي كثيراً، ويتقيأ الكلام الفاضي والمليان، ويُدَوِّرُ اللفظ مرارا علَّهُ يثقب آذان الكون، وتصطك له سيقان العالم. العُرْيُ ساطع فاضح وهو يحاول بيد البطش الظالمة، إيصادَ الباب، وإحراقَ ملفات الحلول والحقوق الإنسانية والقوانين الدولية للشعب الفلسطيني المحتل والمقتلع والمُباد من قِبَل دولة مُسْتَزْرَعَة، دولة الشر والمروق والعدوان: النازية الصهيونية الجديدة الممثلة في شخص نتنياهو وسموريتش، وبنغفير، الثلاثي الفَمْبيري المجرم، مصاص الدماء، المدجج بالتكنولوجيا الأمريكية والغربية، والمنكل بالبارود، وبأشرس الأسلحة وأفتك القنابل والطائرات، بالأطفال والنساء والشيوخ، الهادم للدور والمساكن والمشافي، ودور العبادة، والمؤسسات المدنية، والبنية التحتية بوجه عام، على أمل التخلص من الشعب الفلسطيني بعد أن يرى أَنْ لا سماء ولا أرض ولا فضاء، ولا مأوى، ولا أكل ولا شرب، فيضطر مرغماـ مدحوراً ومغدوراً مُتَخلّى عنه من ذوي القربى ـ أن يهجر أرضه ويرحل ويتيه في اتجاه اللاشيء، في اتجاه الريح والخلاء، والصحراء والعطش والجوع والموت.
وقد أراد فعلها الإمبراطور الأكبر رئيس أمريكا الكبرى كما سماها، وأطلقها شعارا باطشا مجنونا عنصريا خلال حملته الانتخابية الأولى، والثانية هذه التي حملته ووضعته على سنام الحكم القاهر، والمجد الظاهر، والصولجان الآمر. وها هو ذا ـ منذ الدقيقة الأولى لرئاسته ـ يعلن على رؤوس الأشهاد وعيون الخلق أجمعين ـ من دون أن يرمش له جفن ـ أن غزة جنة يستحقها الأمريكان والإسرائيليون، وشذاذ الآفاق من كل فج وصوب، ولا يستحقها أهلوها، فهي جحيم لا يطاق وهم مقيمون بين أنقاضها وخرائبها، يلتحفون الغبار، ويتوسدون الرُّدم والحجارة المركومة، والقنابل التي لم تنفجر، والبرد يثقب عظامهم، والجوع ينخر أجسادهم وما بقي فيهم من نأمة وروح. فكيف بالله يتحمل الفلسطيني هذا الجحيم، يقول: الإمبراطور متنهدا مشفقاً إشفاق الضاري على حَمَلٍ عارٍ. ويعلن ـ بالصفاقة كلها، والعَمى كله ـ أن نتنياهو زعيم كبير لإسرائيل، وراعي الأمن والسلام في المنطقة، والساعي إلى الوئام والمحبة مع الشركاء الإبراهيميين العرب، سكان المحيط، قافزاً على أن من كان يجلس جنبه، والابتسامة الظافرة مرسومة على شفتيه لا تفارقه، هو مجرم حرب مطلوب من محكمة العدل الدولية، ومُتَابَع من محكمة الجنايات. وهو من سحق غزةَ بشرا وحجرا وشجرا، بدعم لا محود ولا مشروط من أمريكا والغرب. هو المجرم الأول والأخير، وكل من يحاول إخفاء جرائمه، وجرائم صحبه اليمينيين المتطرفين، وحكومته الفاشية الوالغة في دم شعب يطالب بحقه المشروع في العيش الكريم، والحياة على أرضه التاريخية، يُعَدُّ مجرما متواطئا بالحساب الرياضي، والهندسة المنطقية والعدالة الكونية، والعملية التفكيكية والتركيبية البسيطة.وما أخال، وكيف أخال، بل: كيف أتخيل أن يغادر شعبٌ أرضه.. أرض أجداده: ماضيه وحاضره ومستقبله، ويطوي صفحة التاريخ، وينسى النكبات والنكسات، ويمحو في ثانية سجل نضاله العظيم اللاَّيُضاهَى، بجرة قلمٍ ضالع في الكذب والنفاق وإرضاء القاتل، قلمٍ تْرَامْبي تلتقطه عدسات المصورين من كل الزوايا وبكل الأحجام والمرايا، قلمٍ راقصٍ يرقص بين الأصابع كما ترقص أفعى الكوبرا السامة رقصة الموت والإماتة.

الكاتب : محمد بودويك - بتاريخ : 12/02/2025