قراءة سياسية للإضراب الفلسطيني المتدحرج

كتب: حمادة فراعنة (*)

 

بانضمام قادة أسرى الفصائل الفلسطينية الخمسة حماس وحزب الشعب والديمقراطية والجهاد والشعبية للإضراب عن الطعام، إضراب الكرامة والحرية، في سجون الإحتلال الإسرائيلي، يكون الإضراب قد حقق شرطه الثاني الضروري على طريق النجاح، بعد شرط الصمود لأكثر من أسبوعين كما خطط له صاحب المبادرة القائد الفلسطيني النائب مروان البرغوثي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح .
وكما هو متبع عادة يكون الإضراب عن الطعام تدريجياً وتباعياً لسببين: أولهما لعدم مقدرة جميع الأسرى البدء بالإضراب منذ بدايته لأسباب صحية وكبر السن، وثانيهما كي يكسب زخماً إضافياً بانضمام أخرين للإضراب وليس تراجعاً من قبل البعض عنه لأسباب صحية ، وفي هذا الإضراب بالذات كان ثمة قراءة سياسية لدى مروان البرغوثي تختلف عن قراءة القوى السياسية الأخرى، إذ رأى الأخرون :
أولاً: أن الوضع السياسي غير ملائم لإعلان الإضراب نظراً للتمزق السياسي والانقسام بين القوى السياسية الفلسطينية خاصة بين كبرى الفصائل فتح وحماس .
ثانياً: غياب الإهتمام العربي سياسياً وإعلامياً عما يجري في فلسطين فالأولويات بالنسبة للعرب معالجة أوضاعهم الداخلية وحجم الضحايا والإرهاب والخراب ويفوق أي إهتمام أخر.
ثالثا: وجود حكومة يمينية إسرائيلية متطرفة لا يتوقع منها أي تجاوب مع مطالب الأسرى المطلبية والسياسية ، خاصة في ظل عدم توفر روافع مساندة فلسطينية وعربية الأمر الذي يفرض عدم خوض المعارك في ظل هذه المعطيات الفلسطينية والعربية، ولكن الأسباب الجوهرية هذه هي التي دفعت مروان البرغوثي لخوض المعركة، في محاولة لتغيير المعطيات القائمة ومواجهتها، والتي تعط إنطباعاً سلبياً حول مهادنة الشعب الفلسطيني مع الإحتلال ورضوخه له على قاعدة التنسيق الأمني بين رام الله وتل أبيب ، وإتفاق التهدئة الأمنية بين غزة وتل أبيب ، وأن الاحتلال هو صاحب المبادرات نحو الفعل وتحول الفلسطينيين إلى فعل متواضع يقتصر عملهم ونشاطهم على ردات الفعل ، وتغيير هذا الوضع يتطلب فعلاً فلسطينياً مبادراً، شريطة أن تتوفر لديه القبول والإجماع وهذا ما تحقق من داخل السجون والمعتقلات حيث جاء الإعلان من قبل قادة أسرى الفصائل الخمسة حماس والجهاد والشعبية والديمقراطية وحزب الشعب في اليوم السادس عشر للإضراب ليكون ذلك بمثابة إعلان سياسي وتحقيق الإكتمال التنظيمي السياسي لمكونات الفعل الفلسطيني على الأرض وفي الميدان وفي مواجهة العدو الواحد، من قبل الفصائل الخمسة مع حركة فتح ، وبذلك تكون الفصائل السياسية الستة الرئيسية قد توحدت على الفعل وعلى المبادرة ، مبادرة إضراب الكرامة والحرية في فلسطين ومن قلب الاشتباك الكفاحي بين الأسرى وسلطات الإحتلال، وفق المطالب المحددة وهي إنهاء الإعتقال الأداري، إنهاء سياسة العزل الإنفرداي، إنهاء سياسة منع زيارات العائلات وعدم انتظامها، إنهاء سياسة الإهمال الطبي .
بإكتمال النصاب السياسي الفلسطيني لقادة الأسرى في سجون الإحتلال سيكون إنعكاسها وتأثيرها الجماهيري أكثر إستجابة وحضوراً وإنحيازاً للدوافع السياسية والمطلبية لمبادرة الأسرى ، وقد حدث ذلك فعلياً حينما قاد سلام فياض رئيس الوزراء السابق ومعه النائب جهاد طمليه مسيرة جماهيرية حاشدة بالألاف يوم الأربعاء 3 أيار 2017 شارك فيها مختلف قيادات الفصائل والأحزاب والشخصيات، إستجابة للهدف السياسي الذي حدده مروان البرغوثي عبر رسائله الثلاثة التي أرسلها من زنزانته قبل موعد الإضراب بأيام لكل من: 1- رفاقه في السجون، 2- طلبة المدارس والجامعات، 3- مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز يوم الأسير الفلسطيني، يوم إعلانه الإضراب، لتكون رسائله الثلاثة بمثابة الأرضية التي يتوحد المضربون من أجلها، ومنها للدفع بإتجاه فرض قيم وحدوية وقواسم مشتركة بين مختلف الفصائل والمكونات السياسية الفلسطينية بعد فشل كل محاولات إنهاء الإنقسام بين الضفة والقطاع ، وبين فتح وحماس ، ووصولاً نحو توحيد العمل الكفاحي وتعميق جماهيريته في مواجهة الإحتلال على أمل تفجير إنتفاضة شعبية على غرار الانتفاضة الشعبية المدنية الأولى عام 1987، والتي شكلت أول إنتصار حقيقي ملموس للمشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني، وتراجع حقيقي عملي ملموس للمشروع الإستعماري التوسعي الإسرائيلي وتسليم إسحق رابين في ذلك الوقت على الإعتراف بالعناوين الثلاثة :
1 – بالشعب الفلسطيني، 2 – بمنظمة التحرير الفلسطينية، 3 – بالحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني، وعلى أرضية هذا الإعتراف الإسرائيلي الأميركي جرى الإنسحاب الإسرائيلي التدريجي من غزة وأريحا أولاً ، وولادة السلطة الوطنية كمقدمة لقيام الدولة المستقلة المنشودة، وعودة أكثر من ثلاثمائة الف فلسطيني مع الرئيس الراحل ياسر عرفات إلى وطنهم فلسطين .
حكومة المشروع الإستعماري التوسعي الإسرائيلي حكومة نتنياهو ، تعرف أبعاد الإضراب وعمق توجهاته وأهدافه السياسية ، ورداً عليه مارست كل وسائل التضليل والضغط لكسر إرادة المضربين والتقليل من قيمتهم وأهميتهم ، ومحاولة عزلهم لعدم تسريب أي معلومات عنهم ، ولكنها فشلت في كسر إرادة المضربين ، وبدلاً من تراجعهم ، تقدموا خطوات نوعية بصمودهم أولاً وتوسيع حجم المشاركة العددية والتدريجية معهم ولهم وتم تتويج ذلك الإعلان السياسي من قبل الفصائل الخمسة ، ليكون المشهد السياسي للمضربين قد سجل حدثاً يوازي الأحداث السياسية المرافقة والمتتابعة وبها يتشكل المشهد الفلسطيني برمته أمام العالم.
في 17 نيسان أعلن الأسرى إضرابهم وكان ذلك الحدث الأول في المشهد السياسي الفلسطيني ، ليتلوه الحدث الثاني الهام بإعلان حركة حماس يوم 1 / أيار لوثيقتها السياسية التي أزالت من خلالها وشطبت عبر فحواها الخلافات السياسية بينها وبين الفصائل الأخرى ، ليتلوه الحدث السياسي الأبرز في إنعقاد القمة الفلسطينية الأميركية في واشنطن يوم 3 / أيار / 2017 .
ثلاثة وقائع ترسم المشهد السياسي الكلي للحالة الفلسطينية ، وقد يكون بلا تنسيق مسبق ، وبغياب كاتب سيناريو سياسي مبدع ، ولكن المبدع في المشهد السياسي هو حضور الشعب الفلسطيني نفسه وعدالة قضيته وهما عاملان متفاعلان يكمل أحدهما الأخر ، بحيث لا يستطيع لا نتنياهو ومشروعه الإستعماري المتفوق ، ولا قدرات الولايات المتحدة ونفوذها وإنحيازها للمشروع الصهيوني تجاهل وجود الشعب الفلسطيني كحقيقة سكانية على أرض فلسطين تتجاوز الستة ملايين نسمة فشل العدو الإسرائيلي بطردهم وإجلائهم وتشريدهم القسري والطوعي كما فعل مع اللاجئين عام 1948 ، ومع النازحين عام 1967 .
الحضور الفلسطيني سياسة وقضية ومؤسسة تمثيلية وعدالة لم يعد أحد يملك القدرة على تجاوزها أو القفز عنها أو تبديد مفاعيلها ، إضافة إلى فشل محاولات تل أبيب لرمي العنوان والقضية الفلسطينية خارج وطنها مرة أخرى كما فعلوا عام 1948 ، وجعلها قضية سلبية مؤثرة على البلدان المجاورة لفلسطين : لبنان وسوريا والأردن ومصر سياسة وإقتصاداً وأمناً ، حتى نجح الرئيس الراحل ياسر عرفات بإعادتها إلى وطنها وأسكنها وسط شعبها بعد نقلها من المنفى إلى الوطن ، حيث بات الصراع الأن واضحاً جلياً على أرض فلسطين بين الشعبين والروايتين والمشروعين : الوطني الديمقراطي الفلسطيني والإستعماري التوسعي الإسرائيلي ، وهنا مكمن المأزق الإسرائيلي أن القضية الفلسطينية باتت في حضنهم ديمغرافياً وسياسياً وحقوقاً ونضالاً وأمناً، ولم تعد خارج فلسطين كما يحاولون رميها مرة أخرى إلى الحضن العربي . لقد إستطاع الأردن مع مصر جعل القضية الفلسطينية ، في مؤتمر قمة البحر الميت يوم 29/3/2017 لها الأولوية بدون التعارض مع قضية الأرهاب ومعالجة ذيوله والتصدي له ومناهضته ، فكانت قرارات قمة الأردن بإدارة جلالة الملك عبد الله وقيادته عبر جهوده قبل القمة وخلالها ، لتعكس نفسها بقوة الحضور السياسي على القمة بإجماع العرب ، الأمر الذي ترك بصماته في زيارتي جلالة الملك والرئيس السيسي الرسميتين لواشنطن وتأثيراتهما المباشرة على إدارة ترامب وفريقه .
ثلاثة وقائع فلسطينية: 1 – إضراب الأسرى، 2 – وثيقة حماس، 3 – زيارة الرئيس محمود عباس لواشنطن، أكملت صورة المشهد السياسي الفلسطيني بإسناد أردني مصري عربي له ما له من نتائج وتداعيات تحتاج للتسجيل والمراقبة والمتابعة لعلها تضع القضية الفلسطينية على السكة ، سكة الوصول مهما بدا الطريق طويلاً صعباً وشاقاً، نحو الهدف ، نحو إستعادة حقوق الشعب العربي الفلسطيني كاملة غير منقوصة: 1 – حقه في المساواة في مناطق 48 في الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل المختلطة ، 2 – حقه في الحرية والإستقلال لمناطق الإحتلال عام 1967 ، وفق قراري التقسيم 181 وحل الدولتين 1397، 3 – حق اللاجئين في العودة إلى المدن والقرى التي طردوا منها إلى اللد والرملة ويافا وحيفا وعكا وصفد وبئر السبع، وإستعادة ممتلكاتهم منها وفيها وعليها وفق قرار الأمم المتحدة 194 .
إضراب الأسرى تواصل للأسبوع الثالث على التوالي رغم التحفظات من قبل قيادتي فتح وحماس بالخارج ، حيث ترى أن هذا الإضراب بما يستتبعه من تفاعلات جماهيرية يضعهم في عزلة عن الفعل الكفاحي على الأرض، وها هو مروان البرغوثي قد قاد البداية بنجاح وهو الذي يضع خطوات العمل من زنزانته التي إستطاع فيها ومنها تسريب أول رسائله التوجيهية، وحدد أهدافها السياسية الثلاثة كما يلي :
أولاً إنهاء الإنقسام الأسود، ثانياً إنجاز الوحدة الوطنية، ثالثاً إطلاق أوسع حركة عصيان وطني مدني شامل في وجه الإحتلال الإستعماري والأبرتهايد.
فقد نقلت زوجة مروان المحامية فدوى البرغوثي بعد أن سمحت سلطات الإحتلال لمحامي هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني بزيارة بعض الأسرى المضربين للمرة الأولى بعد أسبوعين وكذلك لممثل الصليب الأحمر ، نقلت رسالة البرغوثي لشعبه وللأمتين العربية والإسلامية ولأحرار العالم جاء فيها :
تصلكم رسالتي ويكون الإضراب قد طال أمده، وتكون إسرائيل قد قررت أن ترد على الإضراب بالتحريض والعزل والقمع، متوهمة أن هذا سيثنينا عن الإستمرار ، سيجبرنا عن التراجع ، ويرد الأسرى بثقة أن شعبهم لن يخذلهم وسيقابل الوفاء بالوفاء وسيلتف حول أسراه وعائلاتهم الذين تحملوا التضحيات والعذابات والآلام.
إن رهاننا عليكم وعلى دعمكم ووقفتكم ومساندتكم لهذا الإضراب وهذه المعركة ، معركة الكل الفلسطيني من أجل الحرية والكرامة .
إنّ شعبنا الفلسطيني ما زال في مرحلة تحرّر وطني، وقضية الأسرى تشكّل بالنسبة لكل حركات التحرّر عبر التاريخ أولوية قصوى، وقضية مركزية لا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها ، إنّ حرية الأسرى تؤسس لحرية شعبنا، ويجب أن يكون الإلتفاف الوطني حول قضيتهم من القيادة والفصائل وشعبنا الفلسطيني في كافة أماكن تواجده التفافاً مستمراً، حتى تحقيق حريتهم كافة، والشعب الفلسطيني لديه طاقات عظيمة واستعداد كفاحي ونضالي وروح فدائية لم ولن تنطفىء أبداً وقادرة على تحقيق المعجزات.
منذ التحاقي طفلاً بهذا النضال الوطني قد أوفيت بقسمي لهذا الشعب، وأنا لا اؤمن بأنصاف الإنتماء ولا أنصاف المواقف. إن مقاومة الاستعمار الصهيوني وتحقيق الحرية هو قيمة عليا آمنا بها، وسأواصل والأسرى وشعبي هذه المسيرة حتى النصر، لقد قدم أسرانا حريتهم دفاعاً عن حرية شعبهم وانتصروا لقضيتهم وشعبنا وأمتنا، وأحرار العالم منحازون للمناضلين الذين يضحون في سبيل الحرية وفي سبيل أنبل وأعدل قضايا العصر، وهي قضية فلسطين وحقوق شعبها.
واتقدم بتحية الاعتزاز والتقدير للشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وأجدد العهد والقسم أن نواصل مسيرة الحرية والعودة والإستقلال والكرامة، وأدعوهم إلى الوحدة والتلاحم ورفع صوتهم عالياً لإنهاء الإنقسام الأسود، وإنجاز الوحدة الوطنية وحشد الطاقات وإطلاق أوسع حركة عصيان وطني مدني شاملة في وجه هذا الإحتلال الإستعماري والأبرتهايد.
وإننا على ثقة ان وفاء الأسرى لبلادهم وشعبهم ووطنهم سيقابل بالوفاء، وان هذه المعركة هي جزء لا يتجزأ من معركة شعبنا من أجل الحرية والكرامة ولشعبنا موعد مع الحرية ولنا لقاء قريب.»
(*) كاتب سياسي مختص بالشؤون الفلسطينية والإسرائيلية

الكاتب : كتب: حمادة فراعنة (*) - بتاريخ : 10/05/2017