قصة فقيه ماركسي قاده قدره إلى حبل المشنقة بالسودان: عبد الخالق محجوب

عبد الله راكز

1/ في محنة الحزب الشيوعي السوداني:

كثير من الوطنيين العرب غير الملمّين بحقائق الأوضاع السودانية يعجبون من أن يكون السودان،بكل قدراته الهائلة والكامنة،على هذا المستوى من الضعة والضعف والفقر وهَوَانِ الشأن عربيا وافريقيا ودوليا.يستجدي حكامه الديكتاتوريين العون والقروض والهبات ليدفعوا أجور جنودهم وموظفيهم على أبواب واشنطن والسعودية ودويلات الخليج( كما الحال اليوم في ظل نظام الارتداد ).
كان هذا دأب زمرة انقلاب 25ماي 69 (اوليغارشية النميري)، بل ودأب كل الحكومات الرجعية التقليدية التي أتت قبلهم، وإن كان لم يصل بهذه الأخيرة إلى مستوى الانحطاط الذي وصلته زمرة النميري رغم كل الفساد وسوء الإدارة الذي مارسته الأحزاب المذكورة.
في هذا النطاق سيبرز دور الحزب الشيوعي السوداني(كأحد أقدم الأحزاب الشيوعية العربية بجانب الحزبين الشيوعيين السوري بقيادة بكداش والعراقي بقيادة فهد) بقيادة أمينه العام عبد الخالق محجوب،في الدفاع عن حقوق المجتمع السوداني في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، بل وفي قيادة القوى الوطنية الديمقراطية السودانية، ضد انفراد الانقلابيين اليمينيين بالسلطة واحتكارهم لها من موقع الوصاية (مثل ما يحدث اليوم ) والشرعية الديكتاتورية التي أتت بهم إلى الحكم!
وبرز-طبعا- في هذا الخضم، دورعبد الخالق محجوب،فقيه ماركسي محنك(مثيل محسن ابراهيم بلبنان،عبد الفتاح إسماعيل باليمن،فهد بالعراق..وآخرين ) ،وكقائد وطني يتقن التكتيك والاستراتيجية في الزمان والمكان المناسبين.
برز دور عبد الخالق محجوب في مناسبتين فقط هما:
1/ في تفطّنه لطبيعة الهدنة التي مارسها نظام النميري مع القوى الثورية، ورام من خلالها دعم العناصر التي انشقت عن الحزب الشيوعي(معاوية ابراهيم،أحمد سليمان،عمر مصطفى المكي و آخرون ) ممن ساندوا النهج الانقلابي،ونقضوا بالنتيجة، الخط الفكري والسياسي المستقل للحزب.
2/ ثم في فهمه للطبيعة الغادرة للطغمة العسكرية الراغبة حتما وأصلا في إضعاف الحزب الشيوعي بدعم وتشجيع التيار الانتهازي اليميني بداخله لضرب الحزب باعتباره قائد القوى الوطنية الديمقراطية.
فهل بهذا المعنى،كان عبد الخالق محجوب حالما بوضع غير مطابق،في سودان فقير،منهك ومتخلف وقبلي في بنيته الإجتماعية(كما الحال باليمن؟). لربما هذا هو الحال،إذ وبعد أقل من عام (مارس 70) ستبدأ زمرة النميري هجومها على الحزب الشيوعي و القوى الديمقراطية المتحالفة معه، حيث نفي عبد الخالق محجوب إلى القاهرة، كنتيجة متوقعة.

2/في الوعي
غير المطابق:

لم يساعد ضغط القوى الديمقراطية بعد أن عاد عبد الخالق محجوب من القاهرة، في إعادة اللحمة التنظيمية للحرب. فهذا أصبح مستحيلا بعد أن وثّق النجاح « اليميني» علاقته بالزمرة العسكرية بل وحتى بعد المؤتمر الاستثنائي الذي عقد لحسم الخلاف في العام 70 .فشلت الزمرة إذن في بسط نفوذها على الحزب وجره إلى مواقف التبعية والذيلية للانقلاب والقبول بدور الشريك الذليل يُبصم ويُطبل لإجراءات وقرارات الزمرة المُبتذلة باسم «الاشتراكية و» التأميم « الخ..أدى بعد أن جنّ جنونها،
إلى اعتقال عبد الخالق محجوب وغالبية أعضاء اللجنة المركزية بحزبه..
وجدير بالذكر( وهذه مأساة تتكرر دوما بالعالم العربي) أن عبد الخالق محجوب لم يكن في كل هذا يواجه الزمرة العسكرية فقط، بل كان يصارع كل عناصر الارتداد المتسللين لاعتراض حركة الشعب بالرغم من الأقنعة اليسارية التي كانوا يرتادونها، ونعني: التيار الناصري، القوميين العرب، الإخوان المسلمين والصادق المهدي(=حزب الأمة) ، وبعض قيادات الحزب الوطني الاتحادي..الخ.
ويجب أن نفهم أن قيام حركة 19يوليو من العام 71 وإن هي أتت كتتويج للمسار الكفاحي الذي خاضه الحزب الشيوعي ولو في صيغة انقلاب عسكري؟(إذ لايجب أن ننسى أن الحزب كان له امتداد داخل الجيش) . فهو أتى كرد فعل غير محسوب بعد أن انْحبس التحرك أمام الحركة الثورية، وانحبست إمكانية إعادة الاعتبار لمضمون الشعارات اليسارية التي كانت قد أعلنت في 25مايو69 ؟
الأساسي في هذا، أن هذا التحرك(=19 يوليوز) أحدث من الفجوة داخل المؤسسة العسكرية والسياسية والأمنية، واقتضى في ذلك تدخل اليمين العربي لإعادة سلطة النميري. كان ذلك سابقة في التحرك العسكري عبر الحدود لمنع أي تغيير في السودان بالقوة العسكرية وبإعمال القرصنة والتآمر من(من لدن السادات بإرجاع النميري والقذافي بتسليم هاشم العطا ).وطبعا باغتيال القائدين، أُسدل الستار على تجربة قائد كاريزمي متقد، أراد للسودان وجهة أخرى تُخلصه لامحالة من جحيم الديكتاتورية وسوء الأحوال المعيشية في نظام كان ولايزال عاجزا عن تسديد معاشات موظفيه،وبمصادرة حرياته الديمقراطية. فما أشبه اليوم بالأمس!
كان هذا للأسف. تجربة مريرة لحزب وطني (من خلال قائده عبد الخالق محجوب ) في السودان وبالعالم العربي، لم يتمكن للأسف من» تعريب « الاشتراكية « محليا برغم نجاعة فكره،خطابه وممارساته على أرض الواقع. فما بالك بتجمعات يسراوية ادعت نفس الطرح( بنزوعات مغرقة في النّزق) دون حاضنة، وترتب عن تداعياتها المُفجعة،العديد من الكوارث الإنسانية، الوجدانية والنفسية في صفوف منخرطيها وزبائنها المؤقتين(=ماسمي باليسار «الجديد»).

نختم بأن
نصرح بالتالي:

أن تقف بعناد وصلابة رافعا رايات الديمقراطية والتقدم،وتقاوم الديكتاتورية العسكرية التي أذاقت الشعب السوداني طعم المهانة والبؤس،ويُمكن أن تُفرّط في استقلالية الوطن وتُكبله برباط التبعية والعمالة،معناه في هذه المرحلة بالذات:قمة الوطنية ورباطة الجأش في الدفاع عن الوطن وأمنه القومي.

الكاتب : عبد الله راكز - بتاريخ : 04/11/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *